روايه انت لي الحلقه 11 و 12

17 15٬773
 

روايه انت لي الحلقه 11 و 12

روايه انت لي الحلقه 11

روايه انت لي الحلقه 11 و 12

روايه انت لي الحلقه 11, معكم صديقة زاكي الشيف الموهوبة ,leen
رواية انت لي

الحلقة الحادية عشر

و أنا استفيق من النوم ، و أشعر بنعومة الوسادة تحت خدي ، و سمك و دفء البطانية فوق جسدي ، و النور يخترق جفني …

بقيت مغمض العينين …

حركت يدي فوق الفراش الدافئ الواسع ، و الوسادة الناعمة و أخذت أتحسسهما براحة و سعادة …

ابتسمت ، و يدي لا تزال تسير فوق الفراش ، و البطانية ، و الوسادة مداعبة كل ما تلامس !

أخذت نفسا عميقا و أطلقته مع آهة ارتياح و رضا …

كم كان النوم لذيذا ! و كم كنت أشعر بالكسل ! و الجوع أيضا !

آه … ما أجمل العودة إلى البيت … و الأهل …

فتحت عيني ببطء ، و أنا مبتسم و مشرق الوجه

و على أي شيء وقعت أنظاري مباشرة ؟؟

على وجه أمي !

كانت والدتي تجلس على مقعد جواري ، و تنظر إلي ، و دمعة معلقة على خدها الأيمن ، فيما فمها يبتسم !

جلست بسرعة ، و قد اعتراني القلق المفاجئ و زالت الابتسامة و السعادة من وجهي ، و قلت باضطراب :

” أماه ! ماذا حدث ؟؟ ”

والدتي أشارت بيدها إلي قاصدة أن أطمئن ، و قالت :

” لا لا شيء ، لا تقلق بني ”

لكنني لم أزل قلقا ، فقلت مرة أخرى :

” ماذا حدث ؟؟ ”

هزت أمي رأسها و مسحت دمعتها و زادت ابتسامتها و قالت :

” لا شيء وليد ، أردت فقط أن أروي عيني برؤيتك ”

ثم انخرطت في البكاء …

نهضت عن سريري و أقبلت ناحتها و قبلت رأسها و عانقتها بحرارة …

” لقد عدت أخيرا ! لا شيء سيبعدني عنكم بعد الآن ”

~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

 

طبعا لم يستطع أحدنا النوم تلك الليلة ، غير وليد !

نام وليد في غرفة سامر ، إذ لم يكن لدينا أي سرير احتياطي أو غرفة أخرى مناسبة .

أنا لا أستطيع أن أصدق أن وليد قد عاد !

لقد آمنت بأنه اختفى للأبد

كنت اعتقد بأنه فضل العيش في الخارج حيث الأمان و السلام على العودة لبلدنا و الحرب و الدمار …

لكنه عاد … و بدا كالحلم !

لا يزال طويلا و عريضا ، لكنه نحيل !

كما أن أنفه قد تغير و أصبح جميلا !

البارحة لم أتمالك نفسي عندما رأيته أمام عيني …

كم تجعلني هذه الذكرى أبتسم و أتورد خجلا !

” رغد ! كم من السنين ستقضين في تقليب البطاطا ! لقد أحرقتها ! ”

انتبهت من شرودي الشديد ، على صوت دانة ، و حين التفت إليها رأيتها تراقبني من بعد ، و قد وضعت يديها على خصريها …

ابتسمت و قلت :

” ها أنا أوشك على الانتهاء ”

دانة حدقت بوجهي قليلا ثم قالت :

” لقد احمر وجهك من طول وقوفك قرب النار ! هيا انتشليها و انتهي ! ”

أنا اشعر بأن خدي متوهجان ! و لكن ليس من حرارة النار !

انتهيت من قلي البطاطا ثم رتبتها في الأطباق الخاصة.

مائدتنا لهذا اليوم شملت العديد من الأطباق التي كان وليد يحبها

والدتي أصرت على إعدادها كلها ، و جعلتنا نعتكف في المطبخ منذ الصباح الباكر !

ربما كان هذا الأفضل فإن أحدنا لم يكن لينام من شدة الفرح …

و الآن هي بالتأكيد في غرفة سامر !

” دانه ”

كانت دانة تقطع الخضار لتعد السلطة ، و التفتت إلي بنفاذ صبر و قالت :

” نعم ؟؟ ”

قلت :

” هل كان وليد يفضل عصير البرتقال أم الليمون ؟؟ ”

رفعت دانة رأسها نحو السقف لتفكر ، ثم عادت ببصرها إلي و هزت رأسها أسفا :

” لا أذكر ! حضّري أيا منهما ”

قلت :

” أريد تحضير العصير الذي يفضله ! تذكري يا دانة أرجوك ”

رمقتني بنظرة غضب و قالت :

” أوه رغد قلت لك لا أذكر ! اسألي أمي ”

وقفت أفكر لحظة ، و استحسنت الفكرة ، فذهبت مسرعة نحو غرفة سامر !

في طريقي إلى هناك صادفت والدي …

” إلى أين ؟ ”

استوقفني أبي ، فقلت بصوت منخفض :

” أريد التحدث مع أمي ”

ابتسم أبي و قال :

” إنها عند وليد ! ”

تقدمت خطوة أخرى باتجاه غرفة سامر ، إلا أن أبي استوقفني مرة أخرى

” رغد ”

التفت إليه

” نعم أبي ؟؟ ”

لم يتكلم ، لكنه رفع يده اليمنى و بإصبعه السبابة رسم دائرة في الهواء حول وجهه

و فهمت ماذا يقصد …

انعطفت نحو غرفتي ، و ارتديت حجابا و رداءا ساترا ، ثم قدمت نحو غرفة سامر و طرقت الباب طرقا خفيفا …

سمعت صوت أمي يقول :

” تفضل ”

ففتحت الباب ببطء ، و أطللت برأسي على الداخل … فجاءت نظراتي مباشرة فوق عيني وليد !

رجعت برأسي للوراء و اضطربت ! و بقيت واقفة في مكاني …

أقبلت أمي ففتحت الباب

” رغد ! أهلا … أهناك شيء ؟؟ ”

قلت باضطراب :

” العصير ! أقصد الليمون أم البرتقال ؟ ”

أمي طبعا نظرت إلي باستغراب و قالت :

” عفوا ؟!! ”

كان باستطاعتي أن أرى وليد واقفا هناك عند النافذة المفتوحة ، لكني لا أعرف بأي اتجاه كان ينظر !

” هل أصنع عصير الليمون أم البرتقال ؟؟ ”

ابتسمت والدتي و قالت :

” كما تشائين ! ”

قلت :

” ماذا يفضل ؟؟ ”

و لم أجرؤ على النطق باسمه !

والدتي التفتت نحو وليد ، و كذلك فعلت أنا ، فالتقت أنظارنا لوهلة …

قالت أمي :

” ماذا تفضل أن تشرب اليوم ؟ عصير البرتقال أم الليمون ؟ أم كليهما ؟ ”

ابتسم وليد و قال :

” البرتقال قطعا ! ”

ثم التفتت والدتي إلي مبتسمة ، و قالت :

” هل بقي شيء بعد ؟ ”

” لا … تقريبا فرغنا من كل شيء ، بقي العصير … و السلطة ”

” عظيم ، أنا قادمة معك ”

ثم استأذنت وليد ، و خرجت و أغلقت الباب .

و عندما ذهبنا للمطبخ ، وجدنا سامر هناك ، و كان قد عاد لتوه من الخارج حيث أحضر بعض الحاجيات …

بادلانا بالتحية ثم سأل :

” ألم ينهض وليد ؟ ”

قالت أمي :

” بلى ! استيقظ قبل قليل ”

” عظيم ! أنا ذاهب إليه ”

و ذهب سامر مسرعا ، فهبت دانة واقفة و رمت بالسكين و قطعة الخيار التي كانت بيدها جانبا و قالت بانفعال :

” و أنا كذلك ”

و لحقت به و هي تقول موجهة كلامها إلي :

” أتمي تحضير السلطة ! ”

و في ثوان كانا قد اختفيا …

ماذا عني أنا ؟؟

أنا أيضا أريد أن أذهب إليه …. !

نظرت إلى أمي فقالت :

” أنا سأقطع الخضار ، حضري أنت العصير …

 

~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

 

 

قبل قليل ، جاءت رغد و وقفت عند باب الغرفة لعدة ثوان …

أظن أنها جاءت تسال والدتي عن عصيري المفضل !

يبدو أنها نسيت ذلك … لطالما كنت آخذها معي إلى في نزهة بالسيارة ، نتوقف خلالها لتناول البوضا أو عصير البرتقال ، أو حتى أصابع البطاطا المقلية !

يا ترى … ألا تزال تحبها كما في السابق ؟؟

طرق الباب ، ثم دخل أخي سامر و دانة …

أقبل الاثنان نحوي يحييانني و يعانقانني من جديد …

قال سامر :

” أحضرت لك بعض الملابس يا أخي ! إنك بحاجة إلى حمام طويل جدا ! ”

ابتسمت بشيء من الخجل ، فأنا أعرف أن هندامي كان سيئا … و شعري طويلا … و لحيتي نابتة عشوائيا بلا نظام ، و الملابس التي اشتراها لي سيف على عجل خالية من الجمال و الأناقة !

قلت :

” هل أبدو مزريا ؟؟ ”

ضحكت دانة و قالت :

” بل تبدو كأحد نجوم السينيما الأبطال ! ”

ضحكنا نحن الثلاثة ، ثم قلت :

” بطل بلا عضلات !؟ لا أناسب حتى لدور مجرم ! ”

و جفلت للكلمة التي خرجت من لساني دون شعور … ( مجرم ) … ألست كذلك ؟؟

لكن أحدا لم يلحظ تغير تعابير وجهي ، بل استمرت دانة تقول :

” بل بطل ! أليس كذلك يا سامر ؟ إنه ليس رأيي وحدي بل هذا ما تقوله رغد أيضا ! ”

أثارت جملتها هذه اهتمامي البالغ ، هل قالت رغد عني ذلك حقا ؟ هل أبدو كذلك في نظرها ؟

تعلمون كم يهمني معرفة ذلك !

لقد كانت تعتبرني شيئا كبيرا عاليا في الماضي ، و الآن بعدما كبرت … ترى ماذا أصبحت أعني لها ؟؟

فيما بعد ، نعمت باستحمام طويل و مركز !

نظفت جسدي و ذاكرتي من كل ما علق بهما من أيام السجن … و بلاء السجن …

بدوت بعدها ( شخصا محترما ) ، إنسانا مكرما … رجلا يستحق الاهتمام ….

حينما حضر سامر للغرفة بعد ذلك ، أطلق صفرة حادة مداعبا !

” ما كل هذه الوسامة يا رجل ! بالفعل كأبطال السينيما ! ”

ابتسمت ، ثم قلت :

” يجب أن تصحبني إلى الحلاق اليوم لأقص شعري ! ”

قال :

” أبقه هكذا يا رجل ! تبدو جذابا به ! ”

ضحكنا كثيرا ، ثم خرجت معه من الغرفة فإذا بي أرى أمي و أبي يقفان في الردهة …

ابتسما لرؤيتي ، و تبادلنا حديثا قصيرا ، ثم ذهبنا أنا و أبي و سامر لتأدية صلاة الظهر في المسجد .

عندما عدنا ، و ما أن وطأت قدمي أرض مدخل المنزل ، حتى هاجمت أنفي روائح أطعمة شهية جدا !

أخذت نفسا عميقا متلذذا بالرائحة الرائعة !

ظهرت أمي ، و قادتنا إلى غرفة المائدة …

و ذهلت للأطباق الكثيرة التي ملأت المائدة عن آخرها …

” أوه ! كل هذا !؟ ”

نظرت إلى أمي بتعجب ، فابتسمت و قالت :

” تفضل بني بالهناء و العافية ”

لا أخفيكم أن معدتي كانت تستصرخ !

انقبضت مصدرة نداء استغاثة ، ثم توسعت أقصى ما أمكنها استعدادا للكميات الكبيرة التي أنوي التهامها !

في هذه اللحظة تذكرت صديقي سيف ، قلت :

” سيف ! يجب أن اتصل بسيف ! ”

و ذهبت إلى حيث يجلس الهاتف بسكون ، و اتصلت به في الشقة حيث كنا

اعتذر سيف عن الحضور و قال أنه لا يود التسبب بأي حرج على أفراد العائلة في هذا الوقت ، لكنه وعد بالحضور مساء …

اتخذت مجلسي حول المائدة ، على يمين والدتي … ، فيما سامر إلى يسار والدي . و أخيرا أقبلت الفتاتان ، دانة و رغد … فجلست دانة إلي يمين والدي ، و بقي الكرسي الأخير … المقابل لي شاغرا …

أقبلت رغد فجلست مقابلي على ذلك الكرسي ، و اتضح لي فيما بعد أنني جلست على الكرسي الذي تجلس هي عليه في العادة !

كانت ترتدي رداءا طويلا ، و حجابا .

لا أخفيكم أنني كنت أشعر بشيء كلسعة الكهرباء كلما التقت نظراتنا عفويا

إنها صغيرتي رغد !

محبوبتي المدللة التي حرمت من رؤيتها و العناية بها لثمان سنين …

تعرفون ما تعني لي …

و قد كبرت و لم يعد بإمكاني مداعبتها كالسابق …

إنني أريد أن أطعمها هذه البطاطا المقلية بيدي !

إنني أشعر بأنها تراقبني !

ليست هي فقط … بل الجميع يراقبني

إنني رغم شهيتي العظمي للطعام تصرفت بلباقة و تهذيب ، و أكلت بنفس السرعة التي بها يأكلون ….

و لكن لوقت أطول … و لكميات أكبر !

ما أشهى أطباق أمي !

كل شيء يبدو لذيذا جدا … حتى الماء …

لم أذق للماء طعما منذ ثمان سنين …

و هل للماء طعم ؟؟

أنا أعتبر نفسي دخلت الجنة بخروجي من ذلك الجحيم … السجن …

الحمد لله …

أمور كثيرة قد تحدثنا عنها إلا أن السجن لم يكن من ضمنها مطلقا

كما و أنني لم أكن مقبلا على الحديث ، بل الاستماع … و علمت عن أشياء كثيرة و تطورات جديدة حدثت في البلاد و الحياة خلال سنوات غيابي .

و كانت رغد أقلنا حديثا ، بل إنها بالكاد تنطق بكلمة أو كلمتين من حين لآخر

كنت أريد أن أتحدث معها …

أسألها عما عملت في غيابي …

أمسك بيديها …

أمسح على شعرها …

أضمها إلي …

كما كنت أفعل سابقا … فهي طفلتي التي اشتقت لها كثيرا جدا جدا … أكثر من شوقي لأي شخص آخر …

لست بحاجة لوصف المزيد فأنتم تعرفون …

لكنها الآن أمامي فتاة بالغة ترتدي الحجاب … لا أجرؤ حتى على إطالة النظر إليها أكثر من بضع ثوان …

هل تتصورون كيف هو شعوري الآن ؟؟

لقد قضيت ثمان سنوات من العذاب… تغير في الدنيا خلالها ما تغير ، إلا أن حبي لهذه الفتاة لم يتغير … و إن لم أعد الماضي الجميل و علاقتي الرائعة بها فسوف أصاب بالجنون !

قلت ، في محاولة مستميتة لإحياء الماضي الميت و إشعارها و إشعار نفسي بأن شيئا لم يتغير :

” رغد … صغيرتي … إلى أين وصلت في الدراسة ؟ ”

رغد رفعت بصرها إلي في خجل ، و قد تورد خداها ، و قالت :

” أنهيت الثانوية ! و سوف ألتحق بإحدى الكليات العام المقبل ”

ابتسمت بسعادة ! فطفلتي الصغيرة ستدخل الجامعة !

” عظيم ! مدهش ! أبهجتني معرفة ذلك ! وفقك الله ”

ابتسمت رغد بخجل شديد ، ثم قالت :

” و أنت ؟ هل أنهيت دراستك أم لا زال هناك المزيد بعد ؟؟ ”

تصلبت تماما لدى سماعي هذا السؤال …

و نقلت بصري إلى أمي … أبي … سامر … و دانة …

و علامات الذهول صارخة في وجهي …

أبى قال مرتبكا :

” يكفي لحد الآن ! هل تظنين أننا سنتركه يغادر ثانية ! مستحيل ”

نظرت إلى أمي و سامر ، فإذا بهما يتحاشيان النظر إلي …

أما دانة فكانت مشغولة بتقطيع الطعام و مضغه …

و رغد ، حين عدت ببصري إليها وجدتها تبتسم …

شعرت باستياء كبير لهذه الحقيقة التي فاجؤوني بها …

لم يبد على رغد أنها تعلم … أنني كنت في السجن !

هل أخبروها بأنني سافرت لأدرس ؟؟

ألم أطلب أنا منهم ذلك ؟

ألا يزالون محتفظين بالسر ؟؟

انزعجت كثيرا لاستنتاج ذلك ، و فقدت شهيتي لتناول المزيد …

لكنني شربت حصتي من عصير البرتقال كاملة ، لعلمي المسبق بأن رغد هي التي حضرته …

بعد الغذاء ذهبت مع أهلي في جولة داخل المنزل لأتعرف على أجزائه ، و كان موضوع جهل رغد بأمر سجني يسيطر على تفكيري … و يتعسني …

و انتهزت أول فرصة سنحت لي فسألت والدي :

” ألا تعلم رغد بأنني … كنت في السجن ؟؟ ”

والدي تردد قليلا ثم أجاب :

” لم يكن بإمكاننا إخبارها بشيء كهذا ذلك الوقت … ثم كبرت … و دانة … و لم نجد داعيا لإعلامهما بالحقيقة ”

غضبت كثيرا من هذا التصرف ، فأنا الآن وضعت في وجه المدفع … لا أعرف كيف ستتصرف رغد حين تعلم بالأمر … و لا حتى دانة …

الاستياء كان واضحا على وجهي ، فقال أبي :

” هون عليك يا وليد … نتحدث عن ذلك فيما بعد ”

كان الأمر شديد الأهمية بالنسبة لي …

في المساء ، كنت أشاهد التلفاز مع والدي و والدتي في غرفة المعيشة ، ثم أردت الاتصال بصديقي سيف لأؤكد عليه الحضور

لم أشأ استخدام الهاتف الذي يقع فوق التلفاز مباشرة لذلك خرجت من غرفة المعيشة و توجهت نحو المطبخ … و هو الأقرب إلى الغرفة ..

لقد كان الباب مغلقا ، لذا طرقته أولا …

فتح الباب قليلا و ظهرت دانة

” أهلا وليد! أتريد شيئا ؟؟ ”

” أردت استخدام الهاتف ”

ابتسمت دانة و قالت :

” اذهب إلى غرفة المعيشة أو الضيوف !”

استغربت ، فقلت :

” هاتف المطبخ لا يعمل ؟ ”

ابتسمت مجددا و قالت :

” بلى ! لكن رغد بالداخل ! ”

شيء أثار جنوني … فقبضت يدي بقوة … و قهر

بعد أن كانت رفيقتي أينما ذهبت ، أصبحت ممنوعا من الدخول إلى حيث توجد هي …

لن يستمر الوضع هكذا لأنني سأجن حتما …

لسوف أتحدث مع أبي بهذا الشأن في أقرب فرصة … لا … بل الآن !

و استدرت قاصدا غرفة الضيوف إلا أنني وقفت فجأة و بذهول … حين رأيت باب المطبخ يتحرك ، و يفتح ، و يخرج سامر منه !

خرج سامر مبتسما و أغلق الباب ، و بقيت محملقا فيه بذهول …

سامر نظر إلي و ابتسم و قال :

” غرفة الضيوف من هنا ”

أنا بقيت واقفا مصعوقا … و أخيرا تحرك لساني المعقود فقلت :

” رغد … بالداخل ؟؟ ”

أجاب مبتسما :

” نعم ! … لم تجلب الحجاب معها ”

جننت ، و لم أعد قادرا على فهم شيء أو تصور شيء !

ببلاهة و اضطراب و تشتت فكر قلت ، و أنا أشير بإصبعي إلى سامر :

” لكن … أنت … ؟؟؟ ”

سامر رفع حاجبيه و فغر فاه بابتسامة استنتاج ، كمن فهم و أدرك لتوه أمرا لم ينتبه له من قبل …

” آه ! تقصد أنا … ؟؟ نعم … فـ… نحن … ”

و ضحك ضحكة خفيفة ، ثم أتم الجملة التي قضت على آخر آخر ما كان في ّ من بقايا فتات وليد :

” نحن … مخطوبان ! ”

رواية انت لي

الحلقة الثانية عشر

 

لقد قضيت اليوم بكامله في المطبخ !

فبعد وجبة الغذاء العظيمة التي أعددناها صباحا ، الآن نعد وجبة عشاء من أجل وليد و صديقه الذي سيتناول العشاء في منزلنا .

إنني أشعر بالتعب و أريد أن أنام ! لكن دانة لي بالمرصاد ، و كلما استرخيت قليلا طاردتني بقول :

” أسرعي يا رغد ! الوقت يداهمنا ! ”

كان سامر يساعدنا و لكنه خرج قبل لحظة ، و الآن أستطيع أن أتحدث عن وليد دون حرج !!

” أخبريني يا دانة ، ما هو التخصص الذي درسه وليد ؟؟ ”

دانة منهمكة في صف الفطائر في الصينية قبل أن تزج بها داخل الفرن …

قالت :

” أعتقد الإدارة و الاقتصاد ! ”

صمت قليلا ثم قلت :

” و أي غرفة سنعد له ؟ أظنها غرفة الضيوف ! فالبيت صغير … ألا توافقينني ؟ ”

قالت :

” بلى ”

انتظرت بضع ثوان ثم عدت أسأل :

” ألا يبدو أنه قد نحل كثيرا ؟ ألم يكن أضخم في السابق ؟ ”

قالت :

” بلى … كثيرا جدا ! لابد أنه لم يكن يأكل جيدا هناك ”

قلت :

” أ رأيت كيف التهم البطاطا التي أعددها كلها ؟ لابد أنها أعجبته ! ”

التفتت دانة إلي ببطء و قالت :

” و كذلك أكل السلطة التي أعددتها ، و الحساء الذي أعدته أمي ، و الدجاج و الرز و العصير و كل شيء ! بربك ! هل تعتقدين أن طبقك المقلي هذا هو طبق مميز ! ”

قلت مستاءة :

” أنت دائما هكذا ! لا يعجبك شيء أصنعه أنا ”

انصرفت دانة عني لتضع صينية الفطائر داخل الفرن ، و ما أن فرغت حتى بادرتها بالسؤال :

” ألا يبدو أقرب شبها من أبي ؟ فأنت و سامر تشبهان أمي ! ”

قالت :

” لا أعرف ! ”

ثم التفتت إلي و قالت :

” و أنت ِ !؟ من تشبهين ؟؟ ”

صمت قليلا ، ثم قلت :

” ربما أمي المتوفاة ! ”

لكنها قالت :

” لا ! تشبهين بل شخصا آخر ! ”

سألت باهتمام :

” من ؟؟ ”

ابتسمت بخبث و قالت :

” الببغاء ! فأنت ثرثارة جدا ! ”

رميت بقطعة من العجين ناحيتها فأصابت أنفها ، فأطلقتُ ضحكة كبيرة !

أما هي فقد اشتعلت غضبا و أقبلت نحوي متأبطة شرا !

تركت كرة العجين التي كنت ألتها من يدي و ذهبت أركض مبتعدة و هي تلاحقني حتى اقتربت من الباب و كدت أفتحه

” انتظري ! وليد بالخارج ”

أوقفت يدي قبل أن تدير المقبض و التفت إليها و قلت :

” صحيح ؟؟ ”

قالت :

” نعم فهو من طرق الباب قبل لحظة ، دعيني أستوثق من انصرافه أولا ”

تنحيت جانبا ، منتظرة منها أن تفتح الباب ، فأقبلت نحوي و على حين غرة ، و بشكل مفاجئ ، ألصقت قطعة العجين على أنفي و ضحكت بقوة و ركضت مبتعدة قبل أن أتمكن من الفرار منها !

أنا فتحت الباب بسرعة لأهرب لكن بعد فوات الأوان !

و تخيلوا من لمحت في الثانية التي فتحت الباب فيها ثم أغلقته بسرعة ؟؟

لقد كان وليد !

كم شعرت بالإحراج و الخجل و ابتعدت عن الباب في اضطراب

لا بد أنه رآني هكذا … و قطعة العجين ملتصقة بأنفي ! أوه يا للموقف المخجل !

نزعت العجين و رميت به نحو دانة و أنا أقول :

” لماذا تقولي لي أن وليد خلف الباب ؟؟ ”

رفعت دانة حاجبيها و قالت :

” بلى قلت لك ! ”

” ظننتك تمزحين للإيقاع بي ! لقد رآني هكذا ! ”

دانة ابتسمت ابتسامة صغيرة ، ثم قالت :

” أنت و وليد مشكلة الآن ! يجب ألا تغادري غرفتك بعد اليوم ! ”

قلت :

” شكرا لك ! إذن أتمي تحضير الفطائر و أنا سأذهب للنوم ! ”

في هذه اللحظة فتح الباب فدخل سامر …

نظر مباشرة إلي و قال :

” ذهب إلى غرفة الضيوف ، إن كنت تودين الخروج ”

نظرت إلى دانة ثم إلى سامر ، و الحمرة تعلو خدّيّ و قلت بمكر :

” نعم سأذهب ! ”

و انطلقت مسرعة نحو غرفتي …

غير آبهة بنداءات دانة المتكررة !

بعد أن غسلت وجهي و يدي في الحمام المشترك بين غرفتي و غرفة دانة توجهت نحو سريري و استلقيت باسترخاء

كم كنت متعبة !

إنني لم أنم البارحة كما ينبغي و عملت كثيرا في المطبخ

و للعلم ، فإن العمل في المطبخ ليس أحد هواياتي ، فأنا لا أهوى غير الرسم ، لكنني أردت المساعدة …

تقلبت على سريري يمينا و يسارا و أنا أفكر …

ما الذي سيقوله وليد عني !؟

فالفتيات البالغات لا يغطين أنوفهن بقطع العجين !

إلا إذا كانت طريقة جديدة لترطيب البشرة و تغذيتها !

شعرت بالدماء تصعد إلى وجهي بغزارة … لابد أن وجهي توهج الآن … لم لا ألقي نظرة !

قفزت من السرير و أسرعت نحو المرآة … و رأيت حمرة قلما أرى لها مثيلا على وجهي هذا !

أبدو جميلة ! و لابد أنني مع بعض الألوان سأغدو لوحة رائعة !

نزلت ببصري للأسفل و فتحت أحد الأدراج ، قاصدة استخراج علبة الماكياج بفكرة جنونية لتلوين وجهي هذه اللحظة !

الشيء الذي وقعت عليه يدي بمجرد أن أدخلتها داخل الدرج كان جسما معدنيا باردا .. أمسكت به و أخرجته دون أن أنظر إليه ثم رفعت به نحو عيني ّ مباشرة …

إنها ساعة وليد …

نسيت فكرتي السخيفة بوضع المساحيق ، و عدت حاملة الساعة إلى سريري و استلقيت ببطء

الآن .. الفكرة التي تراودني هي إعادة هذه الساعة لوليد …

لابد أنه سيفاجأ حين يراها … و يعرف أنني ظللت محتفظة بها و أرتديها أيضا خلال السنوات الماضية !

قمت فجأة عن سريري و ارتديت ردائي و حجابي و طرت مسرعة للخارج

دعوني أخبركم بأنني قلما أفكر في الشيء مرتين قبل أن أقدم عليه !

لقد أخبرني سامر أنه في غرفة الضيوف و مع ذلك مررت بغرفة سامر ، ثم غرفة المعيشة ، و بالطبع تجنبت المطبخ ، قبل أن أذهب إلى غرفة الضيوف حاملة ساعة وليد بيدي …

حين وصلت عند الباب ، و كان مفتوحا ، استطعت أن أرى من بالداخل ، و لم يكن هناك أحد غيره …

وليد كان جالسا على أحد المقاعد ، بالتحديد المقعد المجاور للمنضدة التي تحمل الهاتف و قد كان مثنيا جدعه للأمام و مسندا رأسه إلى يديه ، و مرفقيه إلى ركبتيه في وضع يشعر الناظر بأنه … حزين

طرقت الباب طرقا خفيفا ، ألا أنه لم يسمعه

فأعدت الطرق بشكل أقوى و أقوى ، حتى رفع رأسه ببطء و نظر إلي …

و ما أن التقت أنظارنا حتى علت وجهه تعابير غريبة و مخيفة …

بدت عيناه حمراوين و جاحظتين و مفتوحتين لحد تكادان معه أن تخرجا من رأسه !

و لمحت زخات العرق تقطر من جبينه العريض

حملق وليد بي بشدة أثارت خوفي … فرجعت خطوة للوراء … و حالما فعلت ذلك وقف هو فجأة كمن لدغته أفعى !

أنا ازدردت ريقي بفزع ثم حاولت النطق فجاءت كلماتي متلعثمة :

” كنت … أعني … لدي شيء أود إعطائك إياه … ”

وليد ظل واقفا في مكانه كالجبل يحدّق بي بحدّة … ربما أزعجه أن أحضر بمفردي … أو ربما … ربما …

لم أستطع حتى إتمام أفكاري المبعثرة لأنه تقدم خطوة ، ثم خطوة ، تلو خطو باتجاهي

لقد كنت أمسك بالساعة في يدي اليمنى ، و لا شعوريا تحركت يدي للخلف و اختبأت بالساعة خلف ظهري …

لا أظن أن وليد رآها و لكن …

حين صار أمامي مباشرة ، مد يده بسرعة و انقض على يدي اليمنى و سحبها للأمام بعنف

ارتعدت أطرافي و جفلت !

وليد قرّب يدي من عينه و أخذ يحدق بها بنظرات مخيفة و قاسية ، فيما يشد بقبضته عليها حتى يكاد يهشم عظامها …

نطق لساني بفزع و اضطراب :

” أنا … لم … كنت … سأعيدها إليك ! ”

وليد ظل قابضا على يدي بقوة ، و يحدّق في عيني بنظرات تكاد تخترق عيني و رأسي و الجدار الذي خلفي …

في تلك العيون الحمراء القادحة بالشرر … رأيت قطرات الدموع تتجمع … ثم تفيض … ثم تنسكب … ثم تشق طريقها على الخد العابس … ثم تنتهي عند الفك المنقبض …

لقد تهت في بحر هذه العيون و غرقت في أعماقها …

أخذتني إلى ذكرى قديمة موجعة … حاولت جهدي أن ألغيها من ذاكرتي … فرأيت وليد و هو يبكي بمرارة و شدة ذلك اليوم و هو جاث ٍ فوق الرمال قرب السيارة ..

يمد يده إلي و يقول :

” تعالي يا رغد ”

” وليد … ”

نطقت باسمه فإذا به يغمض عينيه بقوة و يعض على أسنانه بشدة .. و يشدد قبضته على يدي و يؤلمني …

بعدما فتح عينيه ، ظل يحدق في يدي قليلا ، ثم فجأة انتزع الساعة من بين أصابعي و رمى بها نحو الجدار و زمجر بقوة :

” انصرفي ”

أنا انتفضت بذعر … و ارتجفت جميع أطرافي … فتحركت خطوة للوراء … ثم انطلقت بأقصى ما أمكنني … و بأوسع خطى … و ذهبت إلى غرفتي … فدخلت و أغلقت الباب بل و أوصدته مرتين ، ثم تهالكت على سريري …

كان قلبي ينبض بسرعة عجيبة و أنفاسي تعصف رئتي بقوة … و أنظر إلى يدي فأراها ترتعش … فيما تشع احمرارا أثر قبضة وليد القوية عليها …

بعدما هدأت قليلا اقتربت من المرآة فهالني المظهر الذي كساني

أصبحت مرعبة !

ألم أكن جميلة قبل قليل ؟؟

لا أعرف لماذا فعل وليد ذلك …

هل غضب لأنني ظهرت من المطبخ و العجين يغطي أنفي ، فبدوت كطفلة غبية ؟؟

أم لأنني لم أكن ارتدي الحجاب وقتها ؟؟

أم ماذا ؟؟

و جعلت الأفكار تلعب في رأسي حتى أتعبته …

الساعة !

لقد حطّمها !

لقد احتفظت بها كل هذه السنين لأعيدها إليه … لماذا فعل ذلك ؟؟ لماذا ؟؟

شعرت بشيء يسيل على خدي رغما عني

بكيت من الذعر و الخوف … و الحيرة و الدهشة …

لا أعرف كيف سيكون لقاؤنا التالي …

لم يعد هذا وليد !

وليد لم يكن يصرخ في وجهي و يقول :

” انصرفي ”

كان دائما يبتسم و يقول :

” تعالي يا رغد !! ”

 

~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

 

 

رميت بجسدي المثقل بالهموم على أقرب مقعد للباب .. و أطلقت العنان لشلالات الدموع لأن تعبر عن قسوتها بالقدر الذي تشاء

لم يكن أمامي شيء يرى … أو يسمع .. أو يثير أي اهتمام

لا شيء يستحق أن أعيش لأجله … بعدما فقدت أهم شيء عشت على أمل العودة إليه حتى هذه اللحظة

رفعت رأسي إلى السقف و أردت لأنظاري أن تخترقه و تنطلق نحو السماء …

يا رب …

لقد كانت لدي أحلامي و طموحي منذ الصغر …

و أمور ثلاثة كانت تشغل تفكيري أكثر من أي شيء آخر …

الحرب ، و ها قد قامت و تدمر ما تدمر ، و لم يعد يجدي القلق بشأن قيامها

الدراسة ، و ها قد انتهت و ضاعت … و قضيت أهم سنوات عمري في السجن بدلا من الجامعة … و انتهى كل شيء و لم يعد يقلقني التفكير فيه …

و رغد …

رغد ..

أول و آخر و أهم أحلامي …

رغد الحبيبة … مدللتي التي رعيتها منذ الصغر …

و راقبتها و هي تنمو و تكبر …

يوما بعد يوم …

و قتلت عمار انتقاما لها …

و قضيت أسوأ و أفظع سنوات حياتي حتى الآن … في السجن

منفيا مبعدا مهجورا معزولا عن الأهل و الدنيا و الحياة … و نور الشمس …

و ذقت الأمرين … و سهرت الليالي و أنا أتأمل صورتها و أعيش على الأمل الأخير لي … بالعودة إليها و لو بعد سنين …

أعود فأراها مخطوبة لغيري !

و من ؟؟

لشقيقي ..؟؟

يا رب

رحمتك بي

فانا لست حملا لكل هذا

و لم يعد بي ذرة من القوة و الاحتمال …

كنت أبكي بحرقة و لا أشعر بشيء من حولي ، حتى أحسست بيد تمسك برأسي و تأخذني إلى حضن لطالما حننت إليه …

” ولدي يا عزيزي ما بك ؟ لماذا تبكي يا مهجة فؤادي ؟”

و أجهشت أمي بكاءا و هي تراني أبكي بحرارة

حاولت أن أتوقف لكنني لم استطع …

لقد تلقيت صدمة لا يمكن لقلب بشر أن يتحملها …

رغد !؟

رغد صغيرتي أنا … أصبحت زوجة لأخي ؟؟

إن الأرض تهتز من حولي و جسدي يشتعل نارا و تكاد دموعي تتبخر من شدة الحرارة …

لم أجد في جسدي أي قوة حتى لرفع ذراعي و تطويق أمي … بكيت في حضنها كطفل ضعيف هزيل جريح … لا يملك من الأمر شيئا …

بعد فترة من الزمن لا أستطيع تحديدها ، حضر والدي و حالما رآنا أنا و أمي على هذا الوضع قال :

” يكفي يا أم وليد … دعي ابننا يلتقط أنفاسه أما اكتفيت ؟؟ ”

والدتي أخذت تحدق بي بين طوفان الدموع …

قلت بلا حول و لا قوة و بصوت أقرب إلى النحيب منه إلى الكلام :

” أنا متعب … متعب جدا … لقد انتهيت … انتهيت … ”

و بعد حصة البكاء هذه صعدا بي إلى غرفة سامر ، و جعلاني أضطجع على السرير و هما يقولان :

” ارتح يا بني … نم لبعض الوقت ”

ثم غادرا …

و أنا مضطجع على الفراش و وجهي ملتف ٌ نحو اليمين … و دموعي لا تزال تنهمر و تغرق الوسادة ، وقع ناظري على الهاتف …

مددت يدي و أخذته و استرجعت بصعوبة رقم هاتف الشقة التي يقيم سيف بها و اتصلت به

” يجب أن تحضر الليلة ”

 

 

 

بعدها … جاء سامر يخبرني بأن سيف قد حضر …

كان سامر يبتسم ، و إن بدت من نظراته علامات القلق … خصوصا و هو يرى الوجوم الغريب على وجهي الذي كان مشرقا طوال النهار

ذهبت معه إلى حيث كان سيف و والدي يجلسان و يتبادلان الأحاديث …

لابد أن الجميع قد لاحظ شرودي … و عدم إقبالي على الطعام ، على عكس وجبة الغذاء التي التهمت حصتي منها كاملة تقريبا

” ما بك لا تأكل يا وليد ؟ كُلْ حتى تسترد الأرطال التي فقدتها من جسمك ! ”

أجبت ببرود و بلادة :

” اكتفيت ”

و بعد العشاء جلسنا في غرفة الضيوف نشرب الشاي ، و كانوا هم الثلاثة ، أبي و سامر و سيف ، في قمة السعادة و يتبادلون الأحاديث و الضحك …

أما تفكيري أن فكان متوقفا و جامدا عند اللحظة التي قال فيها آخي :

( نحن مخطوبان )

بعد ساعة ، استأذن سيف للانصراف و أخذ يصافح الجميع و حين أقبل نحوي قلت :

” سأذهب معك ”

أبي و سامر تبادلا النظرات ثم حدقا بي ، كما يفعل سيف … و قالا سوية و باستغراب :

” ماذا ؟؟ ”

و أنا لا أزال ممسكا بيد سيف و ناظرا إليه أجبت :

” إذ لا سرير لي هنا … ”

و توقفت قليلا ثم تابعت :

” و لا أريد ترك صديقي وحيدا ”

كان سيف يعتزم السفر بعد يوم آخر ، لينال قسطا أوفر من الراحة بعد مشقة الرحلة الطويلة التي قطعناها …

و انتهى الأمر بأن خرجت معه دون أن أودع غير والدي ، و سامر …

في السيارة بعد ذلك ، فتحت الخزانة الأمامية و استخرجت علبة السجائر التي كنت قد دسستها بداخلها أثناء تجوالنا

و فتحت النافذة ، ثم أشعلت السيجارة و التفت إلى سيف و قلت :

” أتسمح بأن أدخن ؟؟ ”

صديقي سيف لم يكن من المدخنين ، أومأ برأسه إيجابا و فتح نافذته ، و انطلق بالسيارة …

بقيت صامتا شاردا طوال المشوار ، و لم يحاول سيف خلخلة صمتي بأي كلام

بعد فترة ، و نحن نقف عند الإشارة الأخيرة قبل المبنى حيث نسكن ، و فيما أنا في شرودي و دهليز أفكاري اللانهائي ، قال سيف :

” متى بدأت تدخن ؟؟ ”

لم أجبه مباشرة ، ليس لأنني لم أسمعه أو أستوعب سؤاله ، بل لأن لساني لم يكن يدخر أي كلام …

” السجن يعلّم الكثير … ”

قلت ذلك و ابتسمت ابتسامة ساخرة باهتة شعرت بأن سيف قد رآها رقم تركيزه على الطريق …

تذكرت لحظتها تلك الأيام …

و أولئك الزملاء في السجن …

لماذا أشعر بهم الآن حولي ؟؟

كأني أشم راحة الزنزانة !

ربما أثارت رائحة السيجارة تلك الذكريات السوداء !

و هل يمكن أن أنساها ؟

و هل يعقل أن تختفي و أنا لم أبتعد عنها غير أيام فقط …؟؟

ليتهم …

ليتهم قتلوني معك يا نديم …

ليتنا تبادلنا الأرواح …

فمت ُّ أنا

و بقيت أنت … و خرجت لتعود لأهلك و بلدك و أحبابك …

أنا … لا أهل لي و لا بد …

و لا أحباب …

لمحت الإشارة تضيء اللون الأخضر و أنا أسحق سيجارتي في ( المطفئة)

ثم انطلق وليد بالسيارة …

أنوار كثيرة كانت تسبح في الظلام …

مصابيح السيارات القادمة على الطريق المعاكس

مصابيح المنازل

مصابيح الشارع …

لافتات المحلات الضوئية

نور على نور على نور …

كم هو أمر مزعج … لم أعد أرغب في رؤية شيء …

أتمنى ألا تشرق الشمس يوم الغد …

أتمنى ألا يعود الغد …

أتمنى … ألا أذكر رغد …

كانت المرة الثانية في حياتي ، التي تمنيت فيها لو أن رغد لم تخلق …

عندما دخلنا الشقة، و هي مكونة من غرفة نوم و صالة صغيرة و زاوية مطبخ و حمام واحد … أسرعت الخطى نحو غرفة النوم و دون أن أنير المصباح دخلت و ألقيت بجسدي المخدر أثر صدمة النبأ على أحد السريرين …

ثوان ، و إذا بسيف يقبل و يشعل المصباح

” كلا .. أرجو أطفئه ”

قلت ذلك و أنا أرفع يدي ثم أضعها فوق عيني المغمضتين لأحجب عنهما النور …

سيف بادر بإطفاء المصباح و بقي واقفا برهة … ثم أقلق الباب و أحسست به يتقدم … ثم يجلس فوق السرير الآخر و الموازي لسريري …

ساد السكون لبعض الوقت ، إلا من ضوضاء تعشش في رأسي بسبب الأفكار التي تتعارك في داخله …

” ماذا حدث ؟؟ ”

سألني سيف بصوت هادئ منخفض …

لم أجبه … و مرت دقائق أخرى فاعتقدت أنه حسبني قد دخلت عالم النيام … لكنه عاد يقول :

” أخبرني … ، إنك لست على ما يرام ”

بعد ذلك أحسست بحركته على السرير المجاور و بصوته يقترب أكثر …

” وليد ؟؟ ”

الآن فتحت عيني قليلا و لدهشتي رأيه يقف عند رأسي و يحدق بي …

الظلام كان يطلي الغرفة بسواد تام ، إلا عن إضاءة بسيطة تتسلل بعناد من تحت الباب

و يبدو إنها كانت كافيه لتعكس بريق الدموع التي أردت مواراتها في السواد .

لحظة من لحظات الضعف الشديد و الانهيار التام .. توازي لحظة تراقُص الحزام في الهواء … ثم سكونه النهائي على الرمال … إلى حيث لا مجال للعودة أو التراجع … فقد قضي الأمر …

جلست ، ليست قوتي الجسدية هي التي ساعدتني على النهوض ، و لا رغبتي الميتة في الحراك ، بل الدموع التي تخللت تجويف أنفي و ورّمت باطنه و سدت المعبر أمام أنفاسي البليدة البطيئة … و كان لابد من إزاحتها …

تناولت منديلا من العلبة الموضوعة فوق المنضدة الفاصلة بين السريرين و جعلت أعصف ما في جوفي و صدري و كياني … خارجا

إلى الخارج …

يا دموعي و آلامي

يا أحزاني و ذكرياتي الماضي

إلى الخارج يا حبي و مهجة قلبي

إلى الخارج يا بقايا الأمل

إلى الخارج يا روحي …

و كل ما يختزن جسمي من ذرات الحياة ….

و إلى الخارج …

يا اعترافات لم أكن أتوقع أنني سأبوح بها ذات يوم … لأي إنسان …

” هل واجهت مشكلة مع أهلك ؟؟ … بالأمس كنت … كنت َ … ”

و صمت …

فتابعت أنا مباشرة :

” كنت ُ أملك الأمل الأخير … و قد ضاع و انتهى كل شيء …

إنني لم أعد أرغب في العودة إليهم ! سأرحل معك يا سيف ”

قلت ذلك و كانت فكرة وليدة اللحظة ، ألا أنها كبرت فجأة في رأسي و احتلت عقلي برمته ، ففتحت عيني و حملقت في الفراغ الذي خلقت منه هذه الفكرة ثم استدرت نحو سيف و قلت :

” أنا عائد معك إلى مدينتنا ! ”

طبعا سيف تفاجأ و لم يكن الظلام ليسمح لي برؤية ظاهر ردود فعله أو سبر غورها

سمعته يقول :

” ماذا ؟ ! ”

قلت مؤكدا :

” نعم ! سأذهب معك … فلم يعد لي مكان أو داع هنا ”

سيف صمت ، و لم يعلق بادئ الأمر ، ثم قال :

” أما حدث … كان سيئا لهذا الحد ؟؟ ”

و كأن جملته كان شرارة فجرّت برميل الوقود …

ثرت بجنون ، قفزت من سريري مندفعا هائجا صارخا :

” سيئ ٌ فقط ؟؟ بل أسوأ ما يمكن أن يحدث على الإطلاق … إنها خيانة ! إنهما خائنان … خائنان … خائنان ”

مشيت بتوتر و عصبية أتخبط في طريقي … أبحث عن أي شيء أفرغ فيه غضبي بلكمة قوية من يدي لكنني لم أجد غير الجدار …

و هل يشعر الجدار ؟؟

آلام شديدة شعرت أنا بها في قبضة يدي أثر اللكمة المجنونة نحو الجدار ، و استدرت بانفعال نحو سيف الذي ظل جالسا على السرير يراقبني بصمت …

” لقد سرقوا رغد مني ! ”

لأن شيئا لم يتحرك في سيف استنتجت أنه لم يفهم ما عنيته … قلت :

” أعود بعد ثمان سنوات من العذاب و الألم … و الذل و الهوان الذي عشته في السجن بسبب قتلي لذلك الحقير الذي أذاها … ثمان سنوات من الجحيم … و المرارة … و الشوق … فقدت فيها كل شيء سوى أملى بالعودة إليها هي … أعود فأجدها … ”

و سكت …

لأنني لم أقو على النطق بالكلمة التالية …

و درت حول نفسي بجنون ، ثم تابعت ، و قد خرجت الكلمة من فمي ممزوجة بالآهة و الصرخة و الحسرة :

” أجدها مخطوبة ؟؟ ”

هنا وقف سيف …

إلا أنني لم أكن قد انتهيت من إفراغ ما لدي

قلت بصوت صارخ جاد مزمجر :

” و لمن ؟؟ لأخي ؟؟؟ أخي ؟؟؟ ”

حتى لو كانت الغرفة منارة لم أكن لأستطيع رؤية شيء وسط انفعالي الشديد ساعتها …

لذا لا أعرف كيف كانت تعابير وجه سيف …

و لكن بإمكاني رؤية خياله واقفا هناك …

اندفعت كلماتي مقترنة بدموعي و زفيري القوي و صوتي الأجش المجلل … و أنا أقول :

” لو كان … لو كان شخصا آخر … أي شخص … لكنت قتلته و محوته من الوجود … لكنه أخي … أخي يا سيف … أخي …

كيف تجرأ على سرقتها مني ؟؟

كيف فعلوا هذا بي ؟؟

أهذا ما أستحقه ؟؟

ليتني لم أخرج من السجن

ليتني مت هناك

ليتني أفقد الذاكرة و أنسى أنني عرفتها يوما

الخائنة …

الخائنة …

الخائنة … ”

و انتهيت جاثيا على الأرض في بكاء شديد كالأطفال …

” لقد أطعمتك ِ بيدي … كيف تفعلين هذا بي يا رغد ؟؟ أنا قتلته انتقاما لك ِ أنت ِ …

أيتها الخائنة … أكان هذا حلمك …؟

اذهبي بأحلامك إلى الجحيم … ”

و أدخلت يدي إلى جيبي ، و أخرجت منه الصورتين اللتين رافقتاني و لازمتاني لثمان سنين ، لستين دقيقة من كل ساعة من كل يوم …

أخرجتهما و أخرجت معهما القصاصة التي وجدتها تحت باب غرفتي …

لم أكن أرى أيا مما أخرجت ، و لكن يدي تحس … و تدري أيها صورة رغد … فلطالما أمسكت بالصورة و احتضنتها في يدي لساعات و ساعات …

الدموع بللت الصورتين و كذلك الورقة …

” أيتها الخائنة … اذهبي و أحلامك إلى الجحيم … ”

و قبل أن أتردد أو أدع لعقلي المفقود لحظة للتفكير …

مزقت الورقة … إربا إربا …

و رميت بها في الهواء …

و مزقت صورة رغد … قطعة قطعة … و بعثرتها في الفراغ … إلى حيث تبعثرت آخر آمالي و أحلامي …

و انتهت آخر لحظات حبي الحالم …

و تلاشت آخر ذرات غبار الماضي …

و لم يبق لي …

غير حطام قلب ٍ منفطر …

عرض التعليقات (17)