قصص واقعية قرآن الفجر
قصص واقعية قرآن الفجر
الباب برفق, وخرجت دون أن يشعر بها أحد، ثم انطلقت تعدو في طرقات القرية، ودموعها تنهمر على خدَّيها بينما المطر يهمي, وثيابها تزداد بللا، وهي تضمُّ صغيرها إلى صدرها، تحميه من زخَّات الماء، في سباقٍ مع الزمن، قبل أن ينهض زوجها صالح من فراشه, ويذهب لصلاة الفجر. لقد سئمت هذه الحياة، وكابدت شظف العيش في هذا البيت البسيط الذي قررت مغادرته هذه اللحظات دون رجعة, لقد ظنت الزواج عسلا مصفّى، وحسبت أنها حين زفُّوها على صالح، ستطيرُ إلى مملكة وردية، لتسكنَ جنةً أرضية، وتعيش مع فارسِ أحلامها حياةً حالمة, لكنها سرعان ما اصطدمت بصخرة الواقع المؤلمة. تقوم من نومها على صياح الديك تتوضأ للصلاة، وتوقد التنور, وتعدُّ الفطورَ ريثما يصحو زوجُها ويذهب للصلاة، ليعود ويتناول طعامه خبزا وجُبنا مع حبة خيار أو طماطم، يحتسي بعدها قدحا من القهوة، ثم ينطلق للحقل بهمَّة ونشاطٍ، بينما تقوم أم عاصم بتنظيف البيت، وإطعام الطيور، وجلبِ الماء من الصنبور القريب من سوق القرية، وتنظِّف الحظيرة والأعشاش والقنانيّ، حينها تبدأ في جمع الحطب وإعداد الغداء، ثم تحمل صرة الطعام لزوجها بالحقل على بعد ميلينِ، وتساعده قليلا، ثم تعود حين تميل الشمسُ للغروب، لتعد البيت لاستقبال زوجها من الحقل، وتستعد لعودة البقرة فتحلبها في المساء، وهكذا دواليك. صالح شاب طيب وشهم لولا ضيق ذات اليد، وبؤس الفقر الذي باض وأفرخ في بيتنا, يجهد نفسه في الحقل لتوفير القوت بالكاد، بينما لا يستطيع الوفاء بباقي مطالب الحياة، ومواجهة الضرورات التي تتفاقم وتزداد كلفتُها كل يوم. أما لرحلة الشقاء هذه من نهاية؟ ثلاثة أعوام ونحن على هذه الحال! سأعود لبيت أبي, سأعود لأحضان أمي, آن لي أن أستريح من هذا العناء, أشتاقُ الراحة والدعة! حين كنت فتاة مدللة أعيش في كنف أبوي, قطع تفكيرَها صوتُ كلابٍ تنبح، مازال ظلام الليل يخيم برهبته وسكونه، ولكن خيوط الفجر الفضيَّة تلمع في الأفق، تؤذن بقدوم صباحٍ جديد, وأم عاصم على أطراف القرية، أحست بوحشة وخوف وترقُّب، حين اقتربت من الساقية المهجورة التي نسجت حولهاعشرات الحكايات، خلع قلبَها صوتُ ارتطام جسم في البئر أسفل الساقية. نبضات قلبها تزيد في الخفقان، وجسدها يرتجف وخطواتها تتثاقل، لولا صوت المؤذن يصدح بأذان الفجر ليعلن انتصارا جديدا لكتائب النور على جحافل الظلام، فيبدد الخوف، ويزيل الوساوس التي استبدَّت بقلبها. وقد انطلق الرجال والفتيان إلى المسجد الذي يشرف على النهر، فيحكي الماء صورته بأضوائه الخافتة. توقفت أم عاصم لتلتقط أنفاسها، وجلست على جذع شجرة قريبة من المسجد، وأنوار القرية التي يقطنها أبواها تلوح لها، فتزيد من لواعج شوقها وحنينها, وقد هبت نسمةٌ باردة تحمل عبق زهور البرتقال من البساتين التي تتثاءب على ضفةِ النهر, أقام المؤذن للصلاة, بدأ بقراءة الفاتحة بصوتٍ عذبٍ نديٍّ, وهي تنصت بإمعان كأنها تسمعها لأول مرة، تغمرُ السكينة قلبها، وتشعر بالسكينة تغشاها. (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) حمدا لك ربنا على كل حال, فنعمك لا تعد ولا تحصى. (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) يا من وسعت رحمته كل شيء, ما أرحمك بعبادك. (مَالِكِ يَوْمِ الدِّين) لابد من يوم يثاب المحسن فيه على إحسانه، ويعاقب المسيء على تقصيره وإساءته، واهًا لهذا اليوم ماذا أعددت له. (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) سبحانك ما عبدناك حق عبادتك. أنت المستعان على كل أمر. منك العون على كل عمل. لولاك ما أنجزنا شيئا. (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ) منك الهداية ربنا، فاهدنا لما فيه صلاح ديننا ودنيانا، وألحقنا بركب الصالحين المنعمين, وجنبنا طريق الجاحدين المكابرين والضالين المتخبطين. آمين وهنا أخذت تتساءل في حيرة: هل أنا على صواب فيما قررت؟ هل كنت محقة في مفارقة بيتي؟ هل كان علي أن أصبر وأتحمل؟ قطع حبل تفكيرها صوت الإمام وهو يقرأ من سورة البلد {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)}. يا الله! يقسم ربنا ببلده الحرام أعظم البلاد, ويقسم بكل والد وما ولد أن الإنسان خلق في شقاء وعناء ومكابدة. إنه طريق واحد يسلكه الجميع الغني والفقير.. الوزير والأجير.. الملك والمملوك. الكل يعاني في هذه الحياة ويكافح من أجل تحقيق آماله وأداء رسالته. وما نيل المطالب بالتمنّي *** ولكن تؤخذ الدنيا غلابا فلماذا الضَّجر والتملُّل؟ ولماذا التبرُّم والهروب من الواقع؟ أحست أم عاصم بسكينة تغمرها, نظرت لطفلها فقرت عينُها, وابتهج فؤادُها, وقد أخذت قرارها أن تعود أدراجها إلى عُشِّها ومملكتها، لترعى زوجَها وتربِّي ولدها، وتصبر على لأواء الحياة، وشظف العيش، حتى يشرق الفجر الباسم ويغير الله الحال إلى سعة وخصب. والحادثات وإن أصابك بؤسُها *** فهي التي تنبيك كيف نعيمُها قالت وهي تسرع الخطى: صدق ربنا ذو الجلال (لقد خلقنا الإنسان في كبد).