مرارة الفنجان .. قصة قصيرة بقلمى بنوتة أسمرة
مرارة الفنجان .. قصة قصيرة بقلمى بنوتة أسمرة
جلس على مقعده المتحرك أمام الطاولة الخشبية المستديرة التي تتوسط حجرة بسيطة الأثاث .. وفي يده اليمنى ملعقة يقلب بها فنجان القهوة .. فتثير دوامات سريعة .. تدور و تدور في حلقات مصمتة .. ثم تتوقف ساكنة على سطح الفنحان وكأن شيئا لم يكن …….
انطلقت من حنجرته صرخة مدوية .. فزعة .. متألمة .. وهو ينظر الي تلك الحية بعيونها اللامعة .. وفمها المتسع وأنيابها البارزة التي تخضبت بدماء معصمه .. نفض يده سريعا فوقعت الحية علي الأرض ثم ما لبثت أن ابتعدت مسرعة متراقصة في ممرات حلزونية الى أن اختفت خلف أحد الأبواب المغلقة منسلة من الفتحة التي تفصله عن الأرض
تحسس الرجل بفزع آثار نابى الحية على معصمه وتلك الدماء التي تنفجر منهما .. أسرع بتحريك مقعده تجاه النافذة .. فتح المصراع ليجد في المبنى القابع أمامه شيخا كبيرا يرتدي البياض جالس في شرفة منزله منهمكا في قراءة أحد الكتب .. صرخ الرجل مستنجدا به قائلا :
– يا شيخ .. انقذني يا شيخ .. لقد لدغتني حية في ذراعي .. ساعدني
هب الشيخ واقفا ينظر الي الرجل بتأثر .. فاستطرد الرجل قائلا :
– انني رجل قعيد .. ساعدني لأخرج من بيتي وأوصلني الي المشفي فتنقذ حياتي
ترقرقت العبرات في عيني الشيخ ثم قال بحماس :
– كلا .. انتظر .. لا داعي للذهاب الى المشفى .. فقد يضطر الطبيب الى بتر ذراعك .. سأبحث لك عن وصفة علاجية في أحد الكتب !
دار الشيخ على عقبيه متوجها الي مكتبته الكبيرة المملوءه بالكتب والمجلدات .. يبحث عن الوصفة الضائعة في الكتاب المفقود !
تعجب الرجل لفعل الشيخ وأخذ يناديه ويستجديه .. لكن الشيخ بدا مستغرقا في بحثه ولم يتمكن من سماع صوت الرجل المكلوم ..
نظر الرجل الي الشرفة المجاورة لشرفة الشيخ ليجد شابا جالسا في زاويتها .. يلقى القمر بآشعته على الشجرة الصغيرة المزروعة في أقصيص بجواره فتسدل ظلها على وجهه الوسيم فتزداد ملامحه غموضا .. يحتضن بذقنه كامنجا .. يعزف عليها مقطوعة موسيقية شجية ..
صرخ به الرجل القعيد :
– يا أنت .. أرجوك انقذني .. لقد لدغتني حية .. ساعدني من فضلك
توقف الشاب عن العزف .. وكسى وجه امارات الضيق والنفور وهو ينظر الي الرجل قائلا ببرود :
– وكيف تريدني أن أساعدك ؟
قال الرجل بأسى :
– ساعدني لأصل الى المشفى .. فزميلي في السكن غير موجود .. سافر من وقت بعيد .. والى الآن لا يبغى الرجوع .. ولا أستطيع التحرك بمفردي .. ارجوك اصنع خيرا بحياتك وانقذني
نهض الشاب وزفر بحنق قائلا :
– أتريدني أن أترك عزفى الساحر من أجل مساعدتك .. أتعلم كم شخصا ينتظر مقطوعتي الجديدة .. أتعلم كم أسعد من أناس وأنا معتلى منصة الأوبرا فأداوى بعزفى القلوب الجريحة وأسعد النفوس الشقية ..
ثم رفع رأسه قائلا بإعتزاز :
– لا شئ في الدنيا أسمى مما أفعل .. ولن يفهم أمثالك الخير الذي أجود به على هذا الكون
ترك الشاب الشرفة .. ودخل مصطحبا كمانجته ليكمل عزفه في بقعة أخرى من منزله
نظر الرجل القعيد الي جرحه الذي لم يتوقف عن النزف .. ثم دار بعينيه علي باقي شرفات المبنى المقابل حتي وجد بغيته في امرأة تطعم صغارها بحنان وهي تمرح معهم وتمسح الرؤس وتقبل الوجوه
فانتفض من مكانه يتمسك في مصراعي النافذة وهو يهتف :
– أرجوك ساعديني .. لقد لدغتني حية .. ليس عندي هاتف .. من فضلك اتصلي بالاسعاف .. أرجوك ساعديني
نظرت اليه المرأة بتوجس ثم نهضت فجأة وهي تحيط أطفالها بذراعيها وتضمهم اليها كمن يحميهم من عدو غاشم .. ثم دفعتهم الي الداخل وهي تنظر اليه قائلة بإحتقار :
– توقف عن الكذب .. ألا يعيب رجل ناضج مثلك أن يكذب أمام أطفال صغار .. أمثالك يجب أن يخجلوا من أنفسهم !
غادرت المرأة الشرفة ثم أغلقت مصراعيها بقوة كبيرة سرى صداها في الحي الهادئ في هذا الوقت المتأخر من الليل .. أخذ الرجل ينظر بدهشة الي الشرفة الخالية وهو يتعجب من رد فعل المرأة العجيب !
سمع صوت في الشارع فتعلق بحافة نافذته وتدلي برأسه منها وهو ينظر الي الرجل الأنيق الذي يسير في الشارع بوقار يطرق بنعل حذاءه الجديد فوق الأرض الأسفلتية فتصدر صوتا رتيبا أثناء سيرة المنتظم
ناداه الرجل بعلو صوته :
– يا أنت .. أرجوك ساعدني
رفع الرجل الأنيق رأسه عاليا لترتطم عيناه بعينا الرجل المتلهفة وقال له بصوته الرخيم :
– ما بك يا أخي .. اأمرني تطع
هتف الرجل القعيد بلهفة والدماء تتساقط من كفه الممسك بحافة الشرفة كزخات المطر أمام حذاء الرجل الأنيق :
– لقد عرفتك .. أنت رئيس الحي أليس كذلك ؟
انتفخت أوداج الرجل الأنيق ورد بحبور :
– بلى
بدأت قطرات العرق في الانبات فوق جبين الرجل القعيد بعدما بدأ الاعياء ينهشه وقال بلهفة وهو يزدرد ريقه بصعوبة :
– لقد لدغتني حية .. وأنا رجل أقعدني المرض .. ساعدني تثب
تجهم وجه الرجل الأنيق وهو يصيح بغضب :
– كيف وصلت تلك الحية اليك في عقر دارك .. ألم تتبع تعليمات الأمان التي تصدرها ادارة الحي؟
قال الرجل القعيد وحبات العرق تزاحم بعضها البعض بكثافة فوق جبينه :
– قرأتها .. وأطبقها بحذافيرها .. لكن سيدي تعليمات الأمان ليس بها طريقة لمكافحة الأفاعي !
انعقد جبين الرجل الأنيق وهو يقول بإستنكار :
– كيف ؟! .. ألم تقرأ باب تحصين المنازل من السحالي ؟!
قال الرجل القعيد بصوت ملأته الدهشة :
– وما علاقة السحالي بالأفاعي سيدي ؟!
ابتسم الرجل الأنيق ساخرا وهو يقول بحماس :
– كلاهما من الزواحف أيها الرجل الجاهل !
قال الرجل القعيد وقد بلغ منه الاعياء مبلغه :
– سيدي هذا ليس الوقت المناسب لحصة علم الأحياء فرع الزواحف ! .. انني أحتضر !
في صفاقة وغرور أكمل الرجل الأنيق سيرة الرتيب وهو يقول بغير اهتمام :
– تلك مشكلتك .. فلا تلم تعليمات الأمان !
عاد صوت حذاءه الجديد يصفع سكون الليل البهيم ..
كان الرجل القعيد مذهولا من تصرفات جيرانه .. استدار مجبرا يفتح باب بيته ويحاول بمفرده الذهاب الى المشفى القريب
فوجئ الرجل .. بجاره الأعمى يقف أمام بابه قائلا :
– جاري العزيز .. سمعت صراخك الذي أيقظني من سباتي العميق .. فجئت لأطمئن عليك
قال الرجل القعيد بلهفة ورجاء :
– أرجوك ابحث لي عمن يساعدني .. لقد لدغتني حية شمطاء .. أنزف منذ وقت كثير .. ولم أجد من يجيب النداء
اندفع الرجل الأعمى يتحسس بيديه الهواء
حتى ارتطمتا بالمقعد المتحرك .. وبحركة سريعة وقف خلفه يدفعه في ثبات .. التفت الرجل القعيد قائلا بتوتر :
– أستستطيع معرفة الطريق ؟ .. أخشي أن توقعني في احدى الحفر
رد الرجل الأعمى وهو مستمر في دفعه الحثيث :
– اوصف لي الطريق .. ولا تخف لن أسمح لك بالوقوع
انطلق الرجلان في مشهد غريب .. أعمى يقود قعيد .. وقعيد يقود أعمى !
وصلا الي المشفى بغير عناء .. هب الطبيب لمساعدة للقعيد بينما الأعمى يدعو لجاره بالنجاة
مرت الأيام واستقرت حالته الصحية فغادر المشفى بصحبة جاره الأعمى سعيدا بإزاحة الغمة يحمد الله على النجاة .. صار والأعمى صديقين مقربين مما أعاد النور والحركة الى الحياة ..
في طريقهما الي منزلهما رأى القعيد الشاب ذو الكامنجا وهو يسير بجواره محاولا التظاهر بأنه غير موجود .. أما رئيس الحى فلم يجد له أثرا على الاطلاق .. وحين سأل عن الشيخ الوقور .. فقيل له أنه لايزال يبحث في الكتب !
وأمام بيتهما أوقفهما أحد الرجال قائلا للقعيد :
– حمدا لله على سلامتك
نظر اليه الرجل القعيد وهو يتفرس ملامحه الغير مألوفه .. فقال الرجل بإرتباك :
– أنا زوج المرأة التي وسمتك بالكذب ورفضت مساعدتك .. عذرا فزوجتي تخشى “الغرباء” .. وأنا منشغل دائما بعملي وشركاتي وصفقاتي .. فلم أكن في البيت وقتها .. فيا أخي الكريم ألا تقبل دعوتي أنت وصديقك على فنجان قهوة بمنزلي كإعتذار مني على ما بدر منا في حقك
وافق الصديقان على الذهاب الي بيت الرجل وقبول الاعتذار .. جلس الرجل في غرفة فاخرة الأثاث وعلى الطاولة الرخامية وضع رب البيت صنية فضية عليها فناجين القهوة تتصاعد منها الأبخرة الذكية .. امتدت يد القعيد الي فنجان القهوة العربية التى لطالما عشقها .. وأخذ يضيف اليها مكعبات السكر ويقلبه فتثير تلك الدوامات التي يشعر معها بالتوهان ! .. تناول رشفة من الفنجان لتصدمه مرارتها .. أضاف المزيد من مكعبات السكر .. لكن مذاق القهوة المر بقى ملازماً لها غير عابئة بكم مكعب سكر غُمر فيها ..
بقيت مرة كمرارة يجدها بداخله .. لا يستطيع أن ينسى خذلان جيرانه .. وتخليهم عنه فى محنته .. لا يستطيع أن ينسى كم كلفه خذلانهم من دماء جرح غائر على جبين الأيام .. لا يستطيع أن ينسى تكذيب المرأة له .. ولا تجاهل عازف الكمانجا .. ولا وهن الشيخ .. ولا قسوة رئيس الحى
على الرغم من شفاؤه
على الرغم من نجاته
على الرغم من سعادته
إلا أن شعور القهر لازمه
لا شئ فى هذا الكون قادر على تعويض الدم المُراق
وكذلك لا شئ قادر على أن يعيد الى القهوة حلاوتها المفقودة
أسند ظهره الى الوراء حاملاً فنجانه بيده .. شرب منه رشفة بعد رشفة .. حتى ذاب مرغماً في مرارة الفنجان !
-انتهت-
….منقولة