عندما تموت القطط
عندما تموت القطط
كنت في طريق العودة من البلد …
أو لنكون أكثر تحديداً … طريق مغادرة البلد … فقد اختلطت علينا البلاد … بلاد بالميلاد وبلاد بالسكن… تماماً كما اختلط علينا كثير مما نسمع ونرى ونحس…
انتهيت لتوّي من دفن خالي الحبيب … ولكن دمعة من عيني لم تسقط بعد …
رجل ظلمته الأيام التي لا تكفّ عن الظلم يوماً ولم نكفّ نحن عن اتهامها بذلك… وقد يكون وراء ظلم الأيام حكمة … وقد نكون محقّين في اتهامها بالظلم… هو رجل عاش فتعب … ثم مات فاستراح… هكذا بكل بساطة… اختصار موجِز معجِز لحياة انسان كان عظيماً لديّ ومؤثراً إلى أبعد مدى … قاسى المرض وجحود الزوجة والأولاد والأصدقاء فتمنّينا له أن يموت… إلا إنه عندما نفّذ وعده ومات أحسسنا كم فقدنا وأنّه ما كان يجب له أن يموت… لولا أنّه فعل …
تذكرت واقعة غريبة…
خالي كان مصاباً بالسكر… وعندما أصابت ساقه الغرغرينا واضطر الجراحون لبترها إنقاذاً لحياته… استخرجنا شهادة وفاة وإذن دفن للساق المبتورة… وكان استخراج الأوراق حاملة اسم خالي مرعباً إلى حد الذعر… إلا أنه عندما فعلنا لم نشعر أننا فقدنا أيّ شيء… إلا أنه كان لا بد يشعر بأن جزءً منه قد مات ودُفن و لا عودة له… هل اشتاقت أعضاء جسده لعضوها الميت المبتور؟! أنشتاق نحن للأشياء الكثيرة التي كانت لدينا وفينا لكنها ماتت ودُفنت وبُترت دون أن نشعر؟!
قاهر هو الموت … ومحيط بنا من كل جانب…
وجبار هو الاحساس بالفقد…
ربما لهذا السبب بالذات يتمنّى المحبّون دوماً الموت قبل أحبّائهم… إنه ألم الفقد… ذلك الفظيع المريع المفزع… هو يمزّق فيك تمزيقاً ولكنك لا تشعر من أين يأتيك… ولا كيف تتغلّب عليه…
أما الموت فقد صار سهلاً وفيراً متاحاً في كل وقت وزمان… ولأي عمر… ولا يشترط مرضاً ولا علّة… مفاجئ لص… يسرق منا جمال ذكريات مضت وأمل أمنيات لأشياء لم تـُحقـّق بعد…
يأتي الموت في عبّارة … أو على شريط قطار…
في حادث أتوبيس… أو غارة جوية… أو ضربة وقائية برية…
في أمراض وبائية تفاجئك بالصباح… وتزهق روحك بالمساء…
في عيوب خلقية ووراثية في قلبك ومخّك ورئتيك وأنت لا تدري…
لا حماية منه… وليس له تطعيم…
لا وقت لتوقعه… ولا لحظة أمان منه…
انقبضت روحي وأحسست غصة في حلقي…
وإذ دخلت المدينة…
إذ اختلت عجلة القيادة في يدي… وكدت اصطدم بسيارة كانت تجاورني… لم يكن شرودي السبب ولا التفكير في الموت…
بـل هــو الـمـــوت …
هو الموت الذي كان أمامي في تلك اللحظة بالذات…
كأنّي استحضرته بكل قوته ونفوذه ليمثل أمامي الآن…
كان الموت في قطة!!!
أجل … صحيح ما قرأته عيونكم … وإن أخطأت عقولكم الظن بي…
فأمامي مباشرة…
رقدت قطة تنازع الرمق الأخير… دهستها سيارة مسرعة دون أن تلتفت إليها… إذا كان الناس اعتادوا على أن يتم دهسهم شخصياً ولا يلتفت أحد إليهم فهل من المفروض أن يلتفتوا لقطة دهسوها؟!
لم تكن القطة قد ماتت بعد… ولكن من الواضح أن اصابتها بالغة وأن عمودها الفقري لا بد تهتّك إذ أن تشنجاً غريباً كان يشمل أطرافها السفلية وذيلها كأنه مسّ الكهرباء… حتى أن نصف القطة السفلي كان يرتفع عن الأرض في الهواء لكأنما يستغيث… بينما نصفها العلوي فاقد لكل أثر للحياة… بل أكاد أجزم من الوهلة السريعة حين رأيتها أنه مدهوس مختلط بأسفلت الطريق…
القشعريرة الباردة بدأت من منصف عمودي الفقري وصعدت لتشمل كتفيّ فذراعيّ فرقبتي… دوار شديد يكتنفني… منظر الرجفة العنيفة لنصف القطة السفلي سرّى في جسدي احساساً بالخدر والشلل… سهم نافذ اخترق عمودي الفقري وأصاب نخاعي الشوكي في مقتل…
الآن بدأت دموعي تنساب حارة ساخنة…
أهي دموعي على القطة المعذبة حتى الموت … أم هي دموعي التي جاهدت لحبسها إثر وفاة خالي…
كانت الدموع غزيرة لغاية… وبدأت أنشج وأنتحب…
كأنها دموع كل الموتى…
دموع كل شيء وكل شخص فقدته … بعد أن أحببته…
أتراك تعذبت هكذا يا خالي قبل أن تموت؟!!
ماذا عنك يا جدتي… حتى لو كنتِ قد متِّ وأنا بعد طفل…
ماذا عن أخي الصغير الذي ولدته أمي ميتاً… هل أدرك شيئاً من الحياة قبل أن يموت… هل تعذب أيضاً؟!
ماذا عن صديقي في الكلية الذي لم يستجب لمحاولات والديه وأخته لإيقاظه صباحاً فقد كان قد مات في نومه!!
قررت أن أعود ثانية لقطتي المعذبة المسكينة…
لم يكن في ذهني أيّ شيء محدد أفعله لها… ولكني سأعود إليها… على الأقل أشاركها لحظاتها الأخيرة… تلك التي فشلت في مشاركة خالي فيها فندمت… كنت أعلم أنه متعب للغاية منذ فترة وجيزة… ولكن ظروفاً حالت دون وجودي ورجاء شديد للموت أن يتمهّل ويعطيني الفرصة لأراه مرّة أخيرة… ولكنه لم يفعل…
الآن سأشارك القطة لحظاتها الأخيرة…
الموت هو الموت أليس كذلك؟!
ألأيس نا قبض روح هالي قبلاً هو نفسه ما سيقبض روح هذه القطة الآن؟!
ربما أتمكن أن أراه…
أو أشمه…
أو أسمعه…
أو أشعر به…
إلا أنني وبعد أن استدرت للعودة فوجئت بتوقف سير المرور…
لا زلت مرتبكاً مشلولاً منقبض النفس والغصة تمزق حلقي وصدري… هل أترجل من السيارة وأذهب سيراً لقطتي المسكينة؟!!
أجل … سأفعل… أضأت أنوار الانتظار التي حقيقة لا تهم… فالطريق متوقف متوقف… وإذ بدأت في الاقتراب من موقع القطة المحتضرة… إذ رأيت أغرب منظر في حياتي…
امرأة حبلى في شهرها الأخير… فاجأتها آلام الوضع وتدفق ماؤها وسال وهي راكبة على ظهر موتوسيكل مما اضطر سائقه – ربما زوجه أو أخوها – للتوقف… وتجمع بعض المارة والسائرين وأصحاب السيارات في مثل هذه المواقف للتدخل…
الموقف الأخّاذ انتشلني من حالة الموت التي كنت أرزح تحت وطأتها…
نسيت الخال الميت… والقطة المحتضرة…
الكون كله صار في لحظة ترقب طفل يولد من بين فخذي امرأة حبلى على ظهر موتوسيكل… ممرضة متمرسة أخذت وضعها القيادي… أناس لا أعرفهم وربما لا يعرفهم أحد بدءوا في احضار الملاءات النظيفة وجرادل المياه الساخنة…
لم أسمع سيارة واحدة تتذمر أو أداة تنبيه واحدة تُضرب…
الحدث الجلل وقع…
وصرخة الطفل الوليد شقت السكون السابق…
بقعة دم كبيرة لوثت أسفلت الطريق… ولكن لم يكترث لها أحد…
ابتسامة عجيبة في قوتها… فرضت نفسها على ملامحي… وجه تبلّله الدموع وتظلّله كآبة متشح بالحزن… الآن تغزوه ابتسامة…
تبدأ الابتسامة صغيرة… ثم تبدأ في الاتساع حتى تملأ الوجه كله…
الآن تذكرت ثانية…
خالي الميت… وقطتي المسكينة المحتضرة…
وإذ هداني تفكيري أن أتناول أحد الملاءات التي استخدمتها الممرضرضة لتوليد المرأة الحبلى… إذ عبرت الطريق… لأجد قطتي المسكينة قد ماتت… الآن زال كل ألم داخلي… لأنها ماتت… بل أني كدت أنسى منظرها المرعب المريع حينما كانت تتشنج… فهي الآن قد ماتت… ماتت واستراحت…
القطة كفّت عن التألم…
كفّت عن الاستغاثة والشكوى والتظلّم…
بمنتهى الرفق في العالم…
غطيتها بالملاءة التي لا زالت تحمل بعضاً من إفرازات الطفل الوليد والأم الحبلى… لففتها في حرص… ومشيت في بطء مهيب جهة الرصيف المقابل… كأني في موكب تشييع… القطة النبيلة قد ماتت… ولكنها ما زالت تستحق بعضاً من الاحترام… فقد كانت قطة عظيمة… تماماً كما كان خالي رجلاً عظيماً…
في حنان شديد…
أسندت جثة القطة على الحائط المجاور…
بوجهي ذاته…
ذاك الباكي… والمبتسم في آنٍ معاً !!!!