بائعه الزيتون
بائعه الزيتون
بائعة الزيتون
كان السيد مصطفى متوجّهاً إلى مكتبه حين جاءه اتّصالٌ على هاتفه،
سيّدي أعتذر على إزعاجك… صاحبة الدكان المجاور خرجت أخيراً عن صمتها وهي تصيح الآن على باب الدكّان بشكلٍ جنوني، وأنت كنت تنتظر هذه اللحظة فلربّما اقتنعت الآن ببيع دكّانها.
أشار مصطفى للسائق بيده، فعلم أنّه يريد أن يتوجّه إلى متجره الجديد، كان السيّد مصطفى يمتلك سلسلةً من المتاجر “السوبرماركت” التي ملأت البلاد طولاً وعرضاً، وكان يختار لهذه المتاجر أرقى الأحياء بحثاُ عن الزبون الثري، لكنّ بعض مستشاريه أشار عليه بأن يتوجّه إلى إحدى المناطق الشعبيّة لعل فيها من يرغب في التسوّق بمثل هذه المحلّات، وكان أن وقع الاختيار على مكانٍ مناسب، لا يعيبه إلاّ دكّانٌ صغيرٌ على طرفه، مملوكٌ لفتاةٍ أبت أن تترك الدكان، فبقي كالندبة في واجهة السوبرماركت الحديث بواجهاته الزجاجيّة، ومداخله ومخارجه ذات الطابع الحديث، وكان صاحب العقار يقول أنّه قطع وعداً لوالدها أن لا يخرجها من الدكّان ما دامت تدفع الإيجار.
كان اليوم هو اليوم الأخير للاستعداد لافتتاح المتجر، والعمل على أشدّه، لعلّ الفتاة أدركت أن لا فرصة لها بالبقاء أمام هذا المتجر الحديث، هكذا حدّثته نفسه وهو ينزل من باب السيارة، وينظر إلى العمّال يدخلون ويخرجون وهم يحملون البضائع، وما كانت عينه لتخطئ الفتاة التي تقف بين هذا الكمّ من الرجال وتحرّك يديها بعنف وهي تصرخ في وجوههم، تقدم لها ونظر من خلف نظارته الشمسيّة، قال بهدوء تكلّمي معي فأنا مالك المتجر.
نظرت إليه بغضب وقالت: لماذا يلقي رجالك قمامتهم على باب متجري؟ لم أبع شيئاً منذ الصباح لأن الزبائن يهربون من الأوساخ التي تجمّعت على باب الدكّان.
تكلّم مصطفى: وقال لم لا تبيعين هذا الدكان؟
صرخت من جديد: قلت مليون مرّة لرجالك أنّي لا أريد بيعه… ألا تفهم؟
بدت على وجه الرجل ذي الستين عاماً ملامح الغضب سريعاً، فهو لم يسمع أحداً يوبّخه بهذه الطريقة من زمنٍ طويل…
قال لها بغضب: أنتم الفقراء تستحقّون الفقر لأنّكم بلا عقول، سنزيل القمامة من باب دكانك لكن المشكلة بالقمامة التي في الداخل…
أدار ظهره ودخل متجره ورحل معه كثيرٌ ممّن كان يقف في المكان، وما بقي إلا قليلٌ من الرجال يرمقونها بعين الشماتة والاستصغار.
بعد يوم عملٍ شاق أحبّ أن يقضيه السيد مصطفى مع عمّاله، خرج من المتجر فإذا ظلام الليل قد ملأ برهبته الشارع الذي خلا من أيّ نور، سوى ذلك الضوء الخافت الذي انبعث من الدكان الصغير.
توجّه السيد مصطفى إلى سيارته فرأى السائق وهو ينام في كرسيّه نوماً عميقاً يتحدّث عن ساعات الملل التي قضاها وهو ينتظر خروجه… لم يفتح مصطفى باب السيارة بل قرّر أن يستجيب لتلك الرغبة بمعرفة ما تبيعه تلك الفتاة قليلة الأدب في دكانها…
دخل مصطفى من الباب بهدوء، كان رجلاً طويلاً فانحنى برأسه قليلاً ليدخل من الباب الذي لم يكن مهيّأً لاستقبال من هم في مثل حجمه، لمح الفتاة تجلس في آخر الدكان ومعها كتابٌ تقرأ منه، تقدّم إليها ولم تحسّ به إلاّ وقد صار أمامها، وما بينهما إلاّ تلك “البسطة” التي كانت تضع عليها بضاعتها…
ارتعدت الفتاة وظهرت عليها معالم الخوف والاستعداد لجولةٍ جديدة من الصراخ، تماماً كقطٍ صغير ينحني بجسده ليوهم من أمامه بشراسته، لكنّ مصطفى لم ينظر في وجهها، لكنّه نظر في تلك البضاعة التي أمامها، أول ما وقع نظره عليه كان طبقاً من ورق العنب بالزيت، لم يتذوّقه منذ زمن، قال: بكم تبيعين هذا؟
قالت: هذا ليس للبيع
رمقها بعينه معاتباً ولسان حاله يقول: لا ينبغي أن تعامليني بهذه الطريقة وأنت في عمر ابنتي، بل حفيدتي…
استدركت قائلة: نحن نبيع ورق العنب بالزيت بالطلب فقط، هذا الطبق لامرأةٍ دفعت ثمنه بالأمس، وأنا أجلس الآن في انتظارها…
قال: أعطيني أوقية من هذا الزيتون، ونصف أوقيّة من هذه اللبنة… أعطته ما سأل، لكنّه بدل أن يرحل نظر في الدكان القديم الذي كانت جدرانه تروي قصصاً يكاد أن يسمعها بأذنيه، رأى كرسيّين خشبيّين صغيرين في زاوية الدكان، توجّه إليهما دون استئذان، جلس على أحدهما، ووضع ما بيده من طعامٍ على الكرسيّ الآخر.
نظر إلى الفتاة وقال: أعندك خبز؟
تعجّبت الفتاة وأخرجت من الجارور رغيفاً بقي من غدائها، تقدمت للرجل فناولته الرغيف، ثمّ أحضرت قليلاً من الزيت فوضعته أمامه، بدأ الرجل يأكل بشراهة، كان انهماكه بالعمل قد أنساه أن يأكل، وحتماً أنساه أن يرسل طعاماً لسائقه الذي انتظره طول اليوم كما كان يفعل في الماضي
فرغ الرجل من الطعام، قال “الحمد لله” ثمّ نظر إلى الفتاة وقال: لم لا تبيعينني هذه الدكان…
قالت بصوتٍ حزين: أنت إن أعطيتني مالاً أنفقته في شهرٍ أو شهرين، ثمّ ماذا أفعل بستّة أخوةٍ صغار وأمٍّ مريضة تركهم لي أبي حين مات، وأوصاني بهم قائلاً: قدرك يا ابنتي أن تحملي همّ الرجال، ولا أملك شيئاً أعطيه لك إلاّ هذا الدكان، فاعذريني، فما الموت بضيفٍ تسأله الرحيل فيرحل، إنّما هو قدرٌ ينزل بالإنسان دون إذن، ولو كنت أملك أن أبقى معك لبقيت، لكنّي راحلٌ وأنت مع همومي باقية، أدعو الله أن يشدّ أزرك يا حبيبتي… ثمّ رحل…
فرغت الفتاة من كلامها وصمتت، لم ينطق السيد بعد ذلك بكلمة، بقي جالساً مكانه لا يتحرك، بدا المكان مهجوراً تماماً، لم يقطع صمته إلاّ تلك المرأة التي جاءت لتأخذ ما طلبت من ورق العنب، فلمّا خرجت عاد الصمت للمكان… كادت الفتاة تطلب من الرجل أن يغادر الدكان لكنّها تراجعت لما رأته من نظرته المنكسرة في أرض الغرفة… بدأت تقلب صفحات الكتاب الذي بين يديها وهي تتظاهر بقراءته…
لم يقطع صمت المكان إلاّ صوت بكاءٍ أجش في زاوية الدكان، بدأ الرجل الضخم يبكي كطفلٍ صغير، ملأ صوت بكائه كلّ زوايا الدكان، سارعت الفتاة بمنديلٍ للرجل، وهي لا تعلم ما يبكيه، لكنّها تعجبت أن يبكي رجلٌ مثله، فلقد كانت تظن أنّ البكاء حكرٌ على المحرومين، يسكبون دموعهم على آلامهم فتندمل جروحهم وتهدأ نفوسهم،
تناول الرجل المنديل ومسح دموعه التي انسكبت بغزارة مع صوته المجهش ببكاءٍ يقطّع نياط القلوب،
والغريب… نعم الغريب… أنّ الرجل لم يكن يعلم لم كان يبكي! لكنّه استسلم لرغبةٍ كامنةٍ في نفسه فأجهش دموعاً ربّما اختزنها سنين طوالاً، في عالمٍ لا يأبه للضعفاء ولا يلقي لهم بالاً، حتى غدت القسوة والخشونة سمة القوي الذي يليق به الاحترام.
لا بدّ أنّ قصّة هذه الفتاة آلمته، لا بدّ أنّه تذكّر كلماته القاسية لها في هذا الصباح، لا بدّ أنّه رأى بها صورة ابنته الغائبة في بلادٍ بعيدة…
كذلك آلمه أن يرى هذه الفتاة تجلس في هذا الدكان وهي لا تدري أيكون الداخل عليها زبونٌ يريد أن يشتري زيتوناً، أو وحشٌ آدميٌّ يريد أن يتلذّذ بالنظر إلى ما أبقى الفقر من أنوثتها…
ولعلّها ذكرياتٌ بعيدة، أعادت الرجل إلى سنوات الطفولة، حيث كانت أمّه تضع له صحن اللبنة والزيتون، فيجد فيهما لذّةً لا يجدها بأي طعامٍ آخر، وكأنّ هذه الفتاة تملك شيئاً من روح أمّه الغائبة وضعت سرّه في هذا الطعام وأعادته إلى عمر الطفولة، وكأنّ الزمان قد استدار استدارةً عجيبة فما عاد يذكر أهي الفتاة المشاكسة التي كانت تصرخ في وجهه هذا الصباح، أم هي زهرةٌ يانعة تحمل معها رحيقاً لامرأةٍ كانت أجمل النساء وأكثرهم طيبةً ورقّةً وحنانا…
توقّف الرجل عن البكاء فجأة، مسح دموعه، توجّه للفتاة وتناول محفظته، أراد أن يعطيها خمسين ديناراً ثمن ما أكل، لكنّه سرعان ما تذكّر أن الفقير الذي يعمل، يترفّع عن قبول هذه الصدقات التي لو كان يريدها لما استساغ مرارة العمل، نظر إلى الفتاة وقال: بكم اشتريت؟ نظرت له وقالت: لا داعي… هزّ رأسه وقال: التجّار لا يعرفون الكرم في متاجرهم، فهذا باب رزق…
صمتت الفتاة قليلاً ثمّ قالت: دينار ونصف،
بحث في محفظته وأخرج دينارين، أخذت النقود وسرعان ما امتدّت يدها النحيلة داخل كأسٍ أمامها فأخرجت منه نصف دينار، تناوله بيده وأحس ببقايا الزيت قبل أن يضعه في جيبه، قالت: نعتذر فنقودنا تختلط بالزيت..
همّ الرجل بالخروج من الدكان، غير أنّه توقّف قليلا وهو ينظر إلى جدران الدكان المتهالكة، كان يودّ أن يساعد الفتاة في ترميم هذه الدكان، لكنّه علم أنّها لن تقبل عرضاً كهذا من رجلٍ لا تعرفه، خرج من الباب واختفى في ظلام الليل…
في الصباح التالي كان افتتاح المتجر الكبير، جاء الناس بالعشرات … لا بالمئات… ومن الغريب أنّ الفتاة باعت في سويعات الصباح ما كانت تبيعه في شهر، اتصلت بتاجرٍ كان يبيعها الزيتون ورجته أن يرسل لها المزيد، وما هي إلا سويعاتٌ أخرى حتّى نفذت بضاعتها من جديد…
أغلقت باب الدكان وهمّت بالعودة إلى بيتها، لكنّها أحبّت أن تزور المتجر الكبير في طريقها…
وقفت أمام الباب الزجاجي فتباعدت درفتاه آذنةَ لها بالدخول… تقدّمت داخل المتجر فوجدت كل ّ أنواع البضاعة والطعام، سارت بحرصٍ وسط زحام المشترين، رأت من بعيد يافطة مكتوب عليها: الزيتون والمخلّلات…
تقدّمت إلى ذلك المكان، فوجدت ثلّاجة كبيرة، لكنها فارغة تماماً،
مكتوبٌ على زجاجها:
نحن لا نبيع الزيتون، ففي الدكان المجاور زيتونٌ من أجود الأنواع…
منقول
.
❀⌘قصص و روايات⌘❀
@qasas2
••┈┈•┈┈••✦✿✦••┈┈•┈┈••