روايه انت لي الحلقه 4
روايه انت لي الحلقه 4
لم استطع النوم تلك الليلة
جعلت أتقلب على فراشي و الأمور الثلاثة : الدراسة ، الحرب ، و رغد تآمرت علي و سببت لي أرقا و صداعا شديدا
أوه يا إلهي … أنا متعب … متعب !
فلتذهب الدراسة للجحيم !
ولتذهب الحرب كذلك للجحيم !
و رغد …
رغد …
فلأذهب أنا إلى رغد !
قفزت من سريري في رغبة ملحة جدا لرؤية الصغيرة …
لابد أنها غارقة في النوم الآن … كم كنت قاسيا معها ! كم أنا نادم !
سرت ببطء حتى دخلت غرفة رغد ، و تعجبت إذ رأيت الظلام مخيما عليها !
صغيرتي تخاف النوم في الظلام الشديد و تصر على إضاءة النور الخافت
اقتربت من السرير و أنا أدقق النظر بحثا عن وجه الصغيرة ، إلا أنني لم أره
أضأت ُ المصباح الخافت المجاور لسريرها ، و أصبت بالفزع حين رأيت السرير خاليا …
نهضت مذعورا … و تلفت من حولي … ثم أنرت المصباح القوي و دققت النظر في كل شيء … لم تكن رغد في الغرفة …
خرجت من الغرفة كالمجنون و ذهبت رأسا إلى غرفة دانة ، ثم سامر ، ثم جميع غرف المنزل و أنحائه و لم أبق منه مترا واحدا دون تفتيش … عدا غرفة والديّ
سرت و أنا أترنح و متشبث بأملي الأخير بأن تكون رغد هناك …
توقفت عند الباب ، و رفعت يدي استعدادا لطرقه فخانتني قواي
ماذا إن لم تكن رغد هنا ؟أين يمكن أن تكون ؟
القلق بل الفزع و الخوف على رغد تملكاني و ألقيا جانبا أي تفكير سليم من رأسي
طرقت الباب طرقات متوالية تشعر أيا كان بالذعر !
ثوان ، و إذا بأمي تقف أمامي في فزع :
” وليد ؟ خير يا بني ؟ ”
التقطت عدة أنفاس متلاحقة ثم قلت :
” هل رغد هنا ؟ ”
كنت أحدق بعين والدتي و كأنني أريد أن أخترقها إلى دماغها لأعرف الجواب قبل أن تنطق به …
قولي نعم أمي … أرجوك !
” نعم ! نامت هنا ”
كأن جبلا جليديا قد وقع فوق رأسي لدى سماعي إجابتها
ارتخت عضلاتي كلها فجأة ، فترنحت و أنا أعود خطا للوراء حتى جلست على أحد المقاعد
والدتي أقبلت نحوي ، و ألقت نظرة سريعة على ساعة الحائط ، ثم عادت تنظر إلي بقلق …
” وليد ؟ ما بك عزيزي ؟ ”
أغمضت عيني لثوان ، و أنا عاجز عن تحريك أي عضلة من جسمي …
ثم نظرت إليها و قلت بصعوبة :
” قلقت حين لم أجدها في غرفتها … بل كدت أموت قلقا … ”
اقتربت مني والدتي ، و مسحت على رأسي و قالت :
” هوّ ن عليك يا بني …
جاءتني تبكي البارحة و تقول أنك غاضب منها و أخرجتها من غرفتك !
كانت حزينة جدا ! ”
ربما تريد أمي معاتبتي لتصرفي مع رغد
أرجوك أمي يكفي فأنا قد نلت من تأنيب الضمير ما يكفي و يزيد …
ألا ترين أنني لم أنم حتى هذه الساعة بسبب ذلك …؟؟
” آسف لإزعاجك أماه ، تصبحين على خير ”
رغد !
ما الذي تفعلينه بي !؟
نهضت متأخرا في الصباح التالي ، و حينما ذهبت إلى المطبخ وجدت أمي مشغولة في إعداد الطعام فيما تلعب رغد ببعض الدمى إلى جوارها
عندما رأتني رغد ، ابتسمت لها ، ألا أنها قامت و التصقت بأمي ، كأنها تطلب الحماية !
تضايقت كثيرا من هذا … هل أصبحت طفلتي الحبيبة تخاف مني ؟؟
” رغد ! تعالي إلي … ”
لم تتحرك بل تشبثت بوالدتي أكثر ، الأمر الذي أشعرني بضيق شديد جدا فغادرت المطبخ فورا
ستنسى بعد قليل … إنها مجرد طفلة و الأطفال ينسون بسرعة !
بل من الأفضل ألا تنسى حتى تبقى بعيدة عني و أتخلص من أحد همومي !
في المساء ، حضرت أم حسام بطفليها حسام و نهلة لزيارتنا
أم حسام هي خالة رغد الوحيدة و التي كانت ترعاها في السابق ، بعد وفاة والديها
حسام هو ابنها الأكبر و البالغ من العمر سبع أو ثمان سنوات على ما أظن ، أما نهلة فتصغر رغد ببضعة أشهر
و يبدو أن ( أخا جديدا ) على وشك الانضمام لهذه العائلة !
رغد تحب خالتها هذه كثيرا ، و الخالة تتردد علينا من حين لآخر للاطمئنان على رغد
تحوّل بيتنا إلى ملعب أطفال … لعب ، ضحك، بكاء ، شجار ، عراك ، هتاف ، صراخ !
كانوا جميعا سعداء ، أما أنا فقد لزمت غرفتي و عكفت على الدراسة .
اختفت الأصوات تماما فيما بعد ، فاستنتجت أن الضيوف قد رحلوا .
في وقت العشاء ، كنت أول الجالسين حول المائدة فقد كنت جائعا ، و لم أكن قد تناولت أي وجبة رئيسية لهذا اليوم .
الكرسي المجاور لي هو الكرسي الذي تجلس عليه صغيرتي رغد عادة
و كنت أساعدها في تناول الطعام دائما
اجتمع أفراد أسرتي حول المائدة ، إلا أن الكرسي المجاور ظل شاغرا !
” أين رغد ؟؟ ”
وجهت سؤالي إلى والدتي ، فأجابت :
” أصرت على الذهاب مع خالتها و بما أن الغد هو يوم جمعة تركتها تذهب لتبات عندهم ! ”
اندهشت ، فهي المرة الأولى التي يحدث فيها شيء كهذا … لطالما كانت الخالة تزورنا فلماذا تصر على الذهاب معها اليوم و اليوم فقط ؟؟
لقد فقدت شهيتي للطعام ، و لم أتناول منه إلا اليسير …
مساء الجمعة ذهبت مع أبي لإحضار رغد من بيت خالتها
دخلت أنا للمنزل فيما ظل والدي ينتظر في السيارة
لقد كان الأطفال ، رغد و نهلة و حسام ، يلعبون ببعض الألعاب في إحدى الغرف
عندما رأوني توقفوا عن اللعب ، و اخذوا يحدقون بي !
هل أبدو مرعبا ؟؟
ربما لأنني طويل و ضخم البنية نوعا ما !
ابتسمت لهذه المخلوقات الصغيرة ثم قلت :
” مرحبا أعزائي ! ألم تكتفوا من اللعب ! ”
لم يبتسم أي منهم أو يحرك ساكنا !
وجهت نظري إلى صغيرتي رغد ، و قلت أخاطبها :
” صغيرتي الحلوة ! حان وقت العودة إلى البيت ”
” لا أريد ”
كانت أول جملة تنطق بها رغد ! إنها لا تريد العودة للبيت !
” ماذا رغد ؟ يجب أن نعود الآن فغدا ستذهبين إلى المدرسة ! ”
” سأبقى هنا ”
” رغد ! سوف نأتي بك إلى هنا لتلعبي كل يوم إن أردت ! هيا فوالدنا ينتظر في السيارة ”
لم يبد ُ أنها عازمة على النهوض .
و الآن ؟؟ ماذا أفعل مع هذه الصغيرة ؟؟
كيف يجب أن يكون التصرف السليم ؟؟
تدخلت أم حسام قائلة :
” بنيتي رغد ، غدا سيحضرك وليد إلى هنا من جديد . و كل يوم إذا أردت اللعب مع نهلة فتعالي و أحضري ألعابك أيضا ”
” لا أريد ”
ثم بدأت بالبكاء …
ربما تظن خالتها أننا نسيء إليها بشكل ما !
ماذا جرى لهذه الصغيرة ؟ لماذا أصبحت لا تريد الاقتراب مني ؟ أكل هذا لأنني أخرجتها من غرفتي بقسوة تلك الليلة ؟
أم حسام أخذت تمسح على رأس الصغيرة و تهدئها و تكرر
” غدا سيحضرك وليد إلى هنا عزيزتي ”
قلت ، محاولا إغراءها بالحضور بأي طريقة :
” سنمر بمحل البوضا و نشتري لك النوع الذي تحبين ! ”
يبدو أن الفكرة أعجبتها ، فتوقفت عن البكاء و آخذت تنظر إلي …
قالت خالتها مشجعة :
” هيا بنيتي ، و عندما تأتين غدا سنشتري لك و لنهلة و حسام المزيد من البوضا و الألعاب ”
و أخذت تقربها نحوي حتى صارت أمامي مباشرة
رفعت رغد رأسها الصغير و نظرت إلي
إنها نظرة لا أستطيع نسيانها ما حييت …
كأنها تعاتبني على قسوتي معها … و تقول … خذلتني !
مددت يدي و رفعت الصغيرة عن الأرض و ضممتها إلى صدري و قبلت جبينها
كيف لي أن أعتذر ؟
إنها اليتيمة التي و لو بذلت الدنيا كلها لأجلها ، ما عوضتها عن لحظة واحدة تقضيها في حضن أمها أو أبيها …
قلت :
” ماذا تودين بعد ؟ لعبة جديدة أم دفتر تلوين جديد ؟ ”
قالت :
” أريد لعبة و أريد دفترا ”
قلت :
” يا لك من سيدة طماعة ! حاضر ! كما تأمرين سيدتي ! ”
فابتسمت لي أخيرا …
شعرت بشيء ما يحرك بنطالي …
نظرت إلى الأسفل فإذا بها نهلة تمسك ببنطالي و تهزه ، ثم تقول :
” احملني ! ”
نظرت إليها بدهشة و استغراب !
” رغد تقول أنك قوي جدا و كنت تحملها مع دانة سوية ”
ربّاه !!
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
في تلك الليلة ، جعلت رغد تنام على سريري للمرة الأخيرة … و لونت معها كثيرا و قرأت لها أكثر من قصة ، و طبعا اشتريت لها أكثر من لعبة و أكثر من دفتر تلوين إضافة إلى البوضا !
ربما كانت هذه طريقتي في الاعتذار !
إن كنت أدلل صغيرتي كثيرا فهذا لأنني أحبها كثيرا …
و هي نائمة على سريري بسلام ، أخذت أتأملها بعطف و محبة …
كم هي رائعة !
و كم أنا متعلق بها !
كم يبدو هذا جنونا !
ذهبت إلى حيث وضعت صندوق الأماني ، فأخذته و جعلت أنظر إليه بحدة
كم تمنيت لو أن بصري يخترق الصندوق إلى ما بداخله !
ليتني أعرف … الاسم الذي تلا هذه الجملة
( عندما أكبر سوف أتزوج …. ؟ )
عندما تكبرين يا رغد …
فقط عندما تكبرين ….
فإنني …
~ ~ ~ ~ ~ ~
في أحد الأيام ، قررنا تناول بعض المشويات في المنزل
في حديقة المنزل أعد والدي ما يلزم و أشعل الفحم
كان يوما جميلا ، و كنا مسرورين لهذه ( النزهة المنزلية ) التي قلما تحدث
الأطفال ، سامرـ إن كنت أعتبره طفلا ـ و دانة و رغد كانوا يتجولون هنا و هناك
سامر مهووس بدراجته الهوائية و التي لا يتوقف عن قيادتها و العناية بها في جميع أوقات فراغه ، و رغد تهوى كثيرا الركوب معه ، و قد تعلمت كيف تقودها بنفسها
كانت تقود الدراجة فيما يجلس سامر على المقعد الحفي ، و كانت تترنح ذات اليمين و ذات الشمال و تسقط بالدراجة من حين لآخر
ألا أنها كانت سقطات خفيفة غير مؤذية ، يستمتعان بها و يضحكان مرحين !
دانة كانت تساعد أمي في إعداد اللحم ، فيما والدي يهف الجمر فيزيده اشتعالا
كنت أنا أراقب الجميع في صمت و برود ظاهري ، بينما أشعر بشيء يتحرك و يشتعل في صدري مثل ذلك الجمر … لا أعرف ما يكون …؟؟
ذهب والدي لإحضار شيء ما …
و ابتعاده عن الجمر أعطاني مجالا أوسع لأراقب اشتعاله و تأججه …
و جحيمه !
إن عيني ّ كانتا تتنقلان بين رغد و سامر على الدراجة ، و بين الجمر المتقد …
ثم شردت …
فجأة … ترنحت الدراجة و هي تسير بسرعة ، تقودها رغد الصغيرة ، و قبل أن يتمكن سامر من إيقافها ارتطمت بشيء فسقطت …
كان يمكن لهذه السقطة أن تكون عادية كسابقاتها لو أن الشيء الذي ارتطمت الدراجة به لم يكن صينية الجمر المتقد ….
تعالت الأصوات و انطلق الصراخ القوي يزلزل الأجواء …
ركضنا جميعا نحو الاثنين بفزع …
والدتي تولول ، و دانة تصرخ … و رغد تصرخ … و سامر يتخبط مستنجدا … صارخا … من فرط الألم …
جمرة واحدة أصابت رغد بحرق في ذراعها الأيسر …
أما سامر …
فقد انتهى بوجه مشوه مخيف ، و جفن منكمش يجعل العين اليمنى نصف مغلقة … مدى الحياة …
لقد كان حادثا سيئا جدا … و انتهى يومنا الجميل بندبة لا تمحى …
و رغم العمليات التي خضع لها ، ألا أن وجه سامر ظل يحمل أثر الحادثة المشؤومة إلى الأبد
رغد و التي خرجت من الحادث بأثر حرق واحد في الذراع ، خرجت منه بآثار عميقة لا تمحى في الذاكرة و القلب
أما دانة ، فقد غرست في نفس رغد الاعتقاد الأكيد بأنها السبب فيما حدث لسامر لأنها من كان يقود الدراجة وقتها
رغد أصبحت مرعوبة فزعة متوترة معظم الأوقات … و أصبحت تخشى النوم بمفردها و تصر على أن أبقى إلى جانبها حتى تدخل عالم النوم ، و كثيرا ما كانت تستيقظ فزعة من النوم في أوائل الأيام … و تركض إلي …
و المرة التي كنت أعتقد أنها الأخيرة ، تلتها مرات أخرى ، نامت فيها الصغيرة في غرفتي … طالبة الأمان و الطمأنينة …
” وليد أنا خائفة … النار مؤلمة … ”
” وليد لن أركب الدراجة ثانية ً … ”
” وليد لا أريد أن أبقى وحدي … الجمر يلاحقني … ”
” وليد … عندما أكبر سأصبح طبيبة و أعالج سامر ” !
و في إحدى تلك المرات ، كتبت إحدى أمانيها و أدخلتها في ذلك الصندوق !
و هذه المرة لم تسألني عن أية كلمة …
لكنني أكاد أجزم بأنها كتبت :
( يا رب اشف سامر ) !
توالت الأيام و الشهور … و تأقلم الجميع مع ما حدث ، و سامر اعتاد رؤية وجهه المشوه في المرآة و تقبله ، و استسلم الجميع إلى أنها حادثة قضاء و قدر …
أما أنا …
فأشك في أن شيطانا قد خرج من صدري و قاد الدراجة نحو الجمر المتقد …
و احرق سامر و رغد بنار كانت في صدري …
و لم تزد النار صدري إلا اشتعالا
و لم تزد الحادثة الاثنين إلا اقترابا …
و لم تزدني الأيام إلا تعلقا و تشبثا و جنونا برغد ….