روايه انت لي الحلقه 7 و 8
روايه انت لي الحلقه 7 و 8
لأن أخي وليد لم يعد موجودا ، فسأخبركم أنا ببعض ما حدث في بيتنا بعد المصيبة العظمى .
لم يكن تقبل أي منا لا أنا و لا والديّ أو دانة أو رغد لغياب وليد بالشيء السهل مطلقا و خصوصا رغد ، فهي متعلقة به كثيرا و رحيله أحدث كارثة بالنسبة لها
مرضت رغد في بداية الأمر بشكل ينذر بالخطر .
وليد قبل أن يخرج مع أبي من المنزل ذلك اليوم إلى حيث لم نكن نعلم ، مر بغرفة رغد و قد كانت مقيلة بعد الظهيرة .
أظنه ظل ّ يبكي هناك لفترة طويلة …
فتش جيوبه ثم أخرج مجموعة من تذاكر ألعاب حديقة الملاهي ، و وضعها إلى جانبها كما وضع ساعة يده … ثم قبل جبينها و غادر
أتى إلينا واحدا واحدا و جعل يعانقنا بحرارة و دموع مستمرة …
عندما سألت دانة :
” إلى أين تذهب يا وليد ؟؟ ”
أجاب أبي :
” سيسافر ليدرس كما تعلمون ”
الذي نعلمه أن موعد السفر لم يكن في ذلك اليوم … و لو يكن قد تحدد
إنني لم أعرف أنه في السجن غير اليوم التالي ، و قد أجبرت على كتم السر هذا عن الصغيرتين .
صحيح أنني تمنيت أن يهلك عمّار لحظة أن سحر مني و جعل الناس من حولي يضحكون علي ، إلا أنني لم أتمنى أن يكون شقيقي الأكبر و أخي الوحيد هو من يهلكه…
خلال السنوات الماضية ، كثيرا ما كان الشجار ينشب بينهما و عراكنا الأخير لم يكن غير حلقة من السلسلة …
خاتمة السلسلة
الحلقة الأخيرة …
فيما كنا جالسين في غرفة المعيشة بعد مغادرة أبي و وليد وصلنا صراخ غير طبيعي من غرفة رغد
أسرعنا جميعا نحوها فوجدناها في حالة فظيعة من الذعر و الخوف … و تصرخ ” وليد … وليد …”
تلت ذلك مرات و مرات و حالات و حالات من الذعر و الفزع و الانهيار التي أودت بصحة الصغيرة لأسابيع …
في كل يوم ، بل كل ساعة ، تقوم رغد بالاتصال بهاتف وليد لكن دون جدوى
” لقد قال أنه سينتظر اتصالي كل يوم ”
لقد كانت تعتقد أنه سافر ..
” أنا وفيت بوعدي … يجب أن يفي بوعده ”
و الكثير من الهلاوس و الوساوس … و التصرفات الغير طبيعية التي صدرت منها …
و بدلا من أن تكبر … أظنها صغرت و عادت للوراء ست سنين ، أي كما جاءتنا أول مرة …
بكاء مستمر ، و خوف لا مبرر له ، تشبث جنوني بأمي ، حتى في النوم .
رفضت الذهاب للمدرسة أول الأيام ، كثيرا ما كانت تدخل غرفة وليد و تستلقي على سريرة و تبدأ بالبكاء ثم الصراخ ، حتى اضطرت والدتي لقفل تلك الغرفة لحين إشعار آخر …
توالت الأيام ، و بدأت حالتها تهدأ شيئا فشيئا ، و تعتاد فكرة أن وليد لم يعد موجودا ، و أنه سيعود بعد زمن طويل …
أما تذاكر اللعب ، فحين أردت أخذها ذات مرة لتلهو في الحديقة ، رفضت … و قالت :
” سأذهب مع وليد حينما يعود ”
و أما الساعة ، فلا تزال تحتفظ بها بين أشيائها النفيسة …
” سأعيدها لوليد حين يعود ”
لأنه نقل إلى سجن العاصمة ، فإننا لاقينا بعض الصعوبات في زيارته ، خصوصا و أوضاع البلد تدهورت كثيرا و الحرب اشتدت و الدمار حل و انتشر و حطّم ما حطم من المباني و الأراضي و الشوارع … و كل شيء ، و اضطررنا لترك منزلنا و الانتقال لمدينة أخرى …
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
في كل يوم ، و بين الفينة و الأخرى يزج بشخص جديد إلى السجن .
في الفترة الأخيرة ، كان معظم السجناء من مرتكبي الجرائم السياسية
أو المتهمين بها ظلما .
كنت أنا أصغر الموجودين سنا ، إذ أنني لم أبلغ العشرين بعد و كان وجودي بين السجناء مثيرا للاهتمام .
تعرفت على ( زميل ) يدعى نديم .
نديم هذا كان متهما بإحدى الجرائم السياسية و قد حكم عليه بسنوات طويلة من السجن و الحرمان من الحياة …
” و من يعتني بزوجتك و ابنتك الآن ؟ ”
سألته أثناء حديث لنا ، و هل كنا نملك غير الأحاديث ؟؟
أجابني :
” ليس لدي الكثير من الأقارب ، إلا أنني اعتقد أنهما ستلجأان إلى أخي غير الشقيق ( عاطف ) فهو مقتدر ماديا و يستطيع مساعدتهما ـ إن قبل ”
و اكتشفت فيما بعد ، أن عاطف هذا لم يكن غير والد عمّار الذي قتلته !
الذي جعل الأمر يمر مرور الكرام هو أن نديم لم يكن على علاقة وطيدة بأخيه غير الشقيق عاطف او ابنه المتوفى عمّار …
و الذي حدث هو أننا مع الوقت أصبحنا صديقين حميمين رغم ذلك .
لقد كان هو الداعم الوحيد لي و المشجع على عيشة السجن المريرة …
و أي مر ؟؟
أي عذاب ؟
أي ضياع …؟؟
في كل ليلة ، اضطجع على السرير الضيق المهترىء المتسخ ، عوضا عن سريري الواسع المريح ، و أغطي جسدي المنهك بأغطية بالية ممزقة ، بدلا من البطانيات الناعمة النظيفة …
اغمض عيني ّ و أفكر … و أتذكر … و أبكي …
أخرج الصورتين من تحت الوسادة القديمة المسطحة، و أحدق بهما …
هنا ، يقف أفراد عائلتي جميعا ، هذا أبي … هذه أمي … هذا شقيقي سامر ، و هذه الندبة التي شوّهت وجهه منذ ذلك اليوم … و هذه دانة … بظفيرتيها المتدليتين على كتفيها …
و هذه … هذه …
من هذه ؟؟
إنها دنياي …
حبيبتي الصغيرة المدللة …
طفلتي الغالية …
نبضة قلبي … رغد
تقف إلى جانبي ممسكة برجلي …
كانت تريد مني أن أحملها إلا أنني فضلت أن نلتقط الصورة و هي واقفة إلى جواري …
و في هذه الصورة … مع دفتر تلوينها …
ما أجملها .. و ما أجمل شعرها الخفيف الناعم … كم أحب أن أمسح على رأسها … ما أنعم هذا الملمس …
مسحت بيدي … شعرت بخشونة …
خشونة السرير الذي ألقي بجسدي عليه …
خشونة الواقع الذي أعيشه …
رفعت يدي و أخذت أحدق براحتي …
و أرى ما علق بها من غبار و حبات رمل تملأ السرير …
صرخت …
صرخت فجأة رغما عني …
” رغد … أعيدوني إلى رغد … أخرجوني من هنا … ”
في الصباح … أنهض عن سريري بكل كسل و كل ملل و إحباط
فأنا سأنتظر دوري في طابور السجناء الذاهبين إلى دورات المياه ، ثم أخرج من ذلك المكان البغيض و أنا أشعر أنني كنت أكثر نظافة قبل دخولي إليه ، و أذهب إلى حيث يقدّم لنا فطور الصباح … و أي فطور …
عوضا عن شاي أمي و أطباقها الشهية اللذيذة ، التي كنت أتناولها عن آخرها ، يقدم لنا مشروبا سيء الطعم ، لا أستطيع الحكم عليه بأنه شاي أو قهوة أو أي مشروب آخر …
و أجبر معدتي الجوفاء على هضم طعام رديء لا طعم له و لا رائحة ، حتى أنني أترفع عن مضغه و ازدرده ازدرادا …
و يبدأ يوم فارغ لا أحداث فيه … تمر الساعة تلو الأخرى دون أن يكون هناك أي تغيير … لا مدرسة أذهب إليها … لا رفاق أتصل بهم … لا أهل أتبادل الأحاديث معهم … و لا أطفال أرعاهم و أعلمهم … و لا رغد تظهر فجأة عند باب غرفتي و تقول :
” وليــــــــــد … لوّن معي ! ”
آه يا رغد …
ما الذي تفعلينه الآن ؟
ما الذي فعلته بعد غيابي ؟
هل يعتنون بك جيدا ؟؟
رغد …
أكاد أموت شوقا إليك …
ليتك تقفزين من مخيلتي و تظهرين أمامي ، كما كان يحدث سابقا ….
” أخرجوني من هنا … أخرجوني من هنا .. ”
لو لم يكن نديم موجودا ، أظن … أنني كنت سأصاب بالجنون .
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
اليوم سيأتي أهلي لزيارتي حسب الاتفاق .
في مثل هذا اليوم أكون أنا محلقا في السماء و في حالة توتر مستمرة …
أهلي بعد أن كانوا يزورونني 3 مرات في الأسبوع ، اقتصروا على واحدة بسبب صعوبة الحضور و مشقة المشوار …
أذرع الغرفة ذهابا و إيابا في توتر شديد … منتظرا لحظة مجيئهم .
” ما بك يا وليد ! اجلس ! ألم تتعب من المشي ذهابا و عودة ؟ لقد أصبتني بالدوار ! ”
” لا أستطيع التوقف يا نديم … والداي و أخي سامر سيحضرون في أية لحظة ! أنا مشتاق لهم كثيرا جدا ”
” على الأقل … أنت لديك من يزورك ! أما أنا فلا علم لي بحال زوجتي و ابنتي … ربما أصابهما مكروه ”
التفت إلى نديم و أنا مندهش من صبر هذا الرجل و قدرته على التحمل …
من هذا الرجل العظيم ، تعلّمت أشياء كثيرة … و أدين له بالكثير …
قلت :
” لا بد أنهما لم تحصلا على تصريح لزيارتك … خصوصا و أنت ( مجرم سياسي ) و يخشى منك ! ”
ابتسم نديم ، و قال مازحا :
” نعم ! فأنا ألعب بمصير دولة و شعب كامل ، لا رجل واحد ! لم لا تعمل معي بعد خروجنا من هنا ؟ ”
” بعد خروجي من هنا ، فإن آخر شيء أفكر به هو العودة ! أبقني بعيدا عن السياسة و الدولة و الشعب … إنني فقط أريد العودة إلى أهلي … ”
نعم ، فمن يجرّب عيشة كهذه لا يمكن أن يسلك طريقا قد يعيده إليها .
هنا ، فُتح الباب ، فاقشعر بدني و تأهبَت أذناي لسماع ما سيقوله الحارس …
ربما جاء دوري للزيارة …
وقفنا جميعا ، أنا و نديم و جميع من كان معنا لدى سماعنا جلبة و ضوضاء قادمة من ناحية الباب ، و من ثم رؤيتنا للحراس و الضباط يدخِلون ثلاثة من الرجال المكبلين بالحديد إلى داخل السجن ، و يدفعون بهم دفعا و ينهالون عليهم بالضرب العنيف …
لقد كان مشهدا مريعا هزّ قلوبنا جميعا ، و حين قاوم أحدهم رجال الشرطة و حاول مهاجمته ، رُمي بالرصاص … و خر صريعا .
حمل بعض الحراس الجثة و أبعدوها خارج الزنزانة ، فيما واصل بعضهم ضرب الرجلين الآخرين حتى أفقدوهما الوعي …
كان منظرا فظيعا جفلت أفئدتنا و اكفهرت وجوهنا لدى رؤيته …
ترك الضباط و الحراس السجينين الجديدين ، و غادروا .
وقفت جامدا في مكاني لا أقوى على الحراك ، بعد أن كنت في قمة النشاط و الحركة ، أجول بالغرفة دون سكون ….
اقترب بعض الزملاء من الرجلين و حملوهما إلى سريرين متجاورين ، و اعتنوا بهما حتى أفاق أحدهما ، و علمنا منه أنهم ـ أي الثلاثة ـ ( متهمون بجرائم سياسية ) و محكوم عليهم بالإعدام .
أخبرنا المجرم الجديد هذا عن الأوضاع التي ازدادت تدهورا بشكل كبير جدا ، و أنه تم القبض على مجموعة كبيرة جدا من الشبان بتهم سياسية مختلفة و زج بهم في السجون ، في انتظار حكم الموت ، و أن عدد القتلى من جنود الحرب و كذلك من عامة الناس في ازدياد مطرد ، و أن الحرب حامية الوطيس و المقابر ممتلئة و الفوضى تعم البلاد …
بقيت واقفا عند الباب انتظر … الوقت يمر و أهلي لم يحضروا … فهل أعاقهم شيء ؟ أم هل أصابهم مكروه لا قدّر الله ؟
نديم كان يراقبني ، و كلما التفت إليه التقت نظراتنا ، أنا في قلق ، و هو يصبّر … و كلما التفت إلى الناحية الأخرى ، وقع بصري على الدماء المراقة على الأرض … فأرفع بصري في ذعر نحو السقف ، فأرى مجموعة من حشرات الجدران تتجوّل بلا رادع …
فأشعر باختناق في صدري ، و أحاول شهق نفس عميق ، فتنجذب إلى أنفي روائح كريهة مختلطة ، مزيج من روائح العرق … و الدماء … و الأنفاس …
و بقايا الطعام المتعفن في سلة المهملات … و دخان السيجارة التي يدخنها الحارس خلف الباب …
” أين والداي ؟ لماذا لم يحضرا ؟ أخرجوني من هنا … لم أعد أحتمل … أخرجوني من هنا … ”
انهرت و أنا أبكي كطفل أضاع والديه في متاهة ، فأقبل نديم نحوي يواسيني ، بينما أطلق مجموعة من السجناء هتافات الانزعاج و الاستياء أو السخرية مني و من بكائي و نحيبي المتكرر …
إنني ابن العز و النعمة و الرخاء …
و قد تربيت في بيت نظيف وسط عائلة راقية محترمة … كيف لي أن أتحمّل عيشة كهذه ، و لدهر طويل ، لمجرد أنني قلت شخصا يستحق الموت ؟
لم يحضر والداي في ذلك اليوم ، و لا اليوم الذي يليه ، و لا الأسبوع الذي يليه ، و لا الشهر الذي يليه ، و لا السنين التي تلته واحدة تلو الأخرى ….
أصبحت منقطعا بشكل نهائي عن أهلي و عن الدنيا بأسرها
اعتقد أن مكروها قد ألم بهم ، و لا أستبعد أن يكونوا قتلوا في الحرب …
الشخص الوحيد الذي حضر لزيارتي بعد عامين كان صديقي القديم سيف .
” لا أصدق أنك تذكرتني ! لا بد أنني أحلم ؟ ”
قلت ذلك ، و أنا مطبق بكل قوتي على صديقي ، كمن يمسك بخيال يخشى ذهابه …
” لم أنسك أيها العزيز … إنني عدت للبلد بصعوبة قبل أيام ، فكما تعلم كنت مسافرا للدراسة في الخارج … أوضاع البلد لم تسمح لي بالعودة قبل الآن ”
سألته بلهفة و خوف :
” و أهلي ؟ عائلتي ؟ ما هي أخبارهم ؟؟ أما زالوا أحياء ؟ لماذا لا يزورونني ؟ ”
سيف طأطأ برأسه و تنهد بمرارة ، فأغمضت عيني ّ و وضعت يدي فوقهما لأتأكد من أن الخبر المفجع لن يصلني …
سيف ربت على كتفي و قال :
” لا علم لي بأخبارهم يا وليد … إذ يبدو أنهم اضطروا للرحيل عن المدينة و ربما سافروا لمكان بعيد … و لم يتمكنوا من العودة … ”
تأوهت …
و شعرت بشيء يخترق صدري فتألمت … تهت بعيدا …
هل انتهى كل شيء ؟
أمي و أبي …
سامر و دانة …
و الحبيبة رغد …
حياتي كلها …
هل انتهى كل ذلك ..؟؟
شعر سيف بألمي فعانقني بعاطفة ملتهبة … و قال :
” سأحاول تقصي أخبارهم يا وليد … الدنيا في الخارج مقلوبة رأسا على عقب … ربما تكون أنت قد نجوت بدخولك هذا السجن ! ”
أبعدت سيف عني قليلا بما يسمح لأعيننا باللقاء …
قلت :
” أريد أن أخرج من هنا … ”
أمسك سيف بيدي و شدّ عليها … عيناه تقولان أن الأمر ليس بيده …
قلت :
” سيف … سيف أنت لا تعلم كم الحياة هنا سيئة ! إنهم … إنهم يا سيف يضعون الحشرات عمدا في طعامنا و يجبروننا على قضم أظافرنا … و المشي حفاة في دورات المياه القذرة !
سيف … إنهم لا يوفرون لنا الأشياء الضرورية كالمناديل و شفرات الحلاقة !
أنظر كيف أبدو ؟ ألست مزريا ؟
عدا عن ذلك ، فهم يضربون و بعنف كل من يبدي استياء ً أو يتذمر !
زنزانتي يا سيف … لا يوجد فيها فتحة غير الباب المقفل … لا هواء و لا نور إنني مشتاق إلى الشمس … إلى الهواء النقي … إلى أهلي … إلى الحياة … إلى كل شيء حرمت منه … أبسط الأشياء التي تجعلني أحس بأنني بشر … مخلوق كرّمه الله ! إلى … فرشاة أسنان نظيفة أنظّف بها أسناني ! ”
و لو كنت استمررت في وصف حالي له ، لكان فقد وعيه من الذهول … إلا أنني توقفت حين شعرت بيده ترتخي من قبضها على يدي و رأيت الدموع تتجمع في مقلتيه منذرة بالهطول …
أغمضت عيني ّ بحسرة و أنا أتخيل و أقارن بين حياتي في البيت ، و حياتي في هذه المقبرة … و جاء طيف رغد و احتل مخيلتي …
الآن …
أراها و هي تقول في لقائنا الأخير :
” لا ترحل … لا تتركني ”
و تتلاشى هذه الصورة ، ثم تظهر صورتها و هي مذعورة و ترتجف بين ذراعي ، ذلك اليوم المشؤوم ….
ثم تظهر صورة عمّار ، و ابتسامته الخبيثة لحظة رميه الحزام في الهواء …
” إلى الجحيم … ”
قلت دون وعي مني :
” كان يجب أن أقتله … و لو يعود للحياة … لقتلته ألف مرّة … ”
انتبه صديقي سيف من شروده و تخيله لحالتي الفظيعة ، قال :
” لماذا ؟ ”
نظرت إله ، بصمت موحش … فعاد يقول :
” لماذا يا وليد ؟… الذي دفعك لأن ترمي بنفسك في حياة كهذه لابد أنه …؟؟ ”
و لم يتم جملته ، استدرت موليا إياه ظهري …
تماما كما استدرت حين سألني يوم الحادث .
سيف لم يصبه اليأس مني … قال :
” أخبرني يا وليد … فقد يكون أمرا يقلب الموازين و يخرجك من هنا بمدة أقصر … والدي أكد لنا ذلك فيما مضى و قد يستطيع إعادة النظر في قضيتك بشكل ما … ”
بدا و كأن قلبي قد تعلّق بأمل الخروج … و البحث عن أهلي و العودة إليهم …
و لكن … ألم يفت الأوان …؟؟
” وليد … ”
استدرت لأواجه سيف … كانت نظرات الرجاء تملأ عينيه … إنه الوحيد الذي أتى ليزورني من بين أصحابي و أهلي و الناس أجمعين …
” لماذا وليد …؟ ”
” سيف … ”
” كنتَ على وشك الوصول لقاعة الامتحان … ما الذي أخبرك به ، ثم أجبرك على ترك الامتحان و الذهاب إلى تلك المنطقة ؟ و بالتالي … قتله ؟؟ ”
” كان يجب أن أقتله … ”
” لماذا قل ؟ أخبرني … ”
” لأنه … ”
” أجل ..؟؟ ”
” لأنه … … لأنه اختطف صغيرتي رغد … و هددني بإيذائها ما لم أسرع بالحضور لتلك المنطقة … ”
أصيب سيف بالذهول … و اتسعت حدقتا عينيه و انفغر فاه مصعوقا …
قال ، دون أن تتلامس شفتاه :
” و … ؟ ”
” و انتهى كل شيء …. ”
رواية انت لي
الحلقة الثامنة
ذات يوم …
و فيما كنا أنا و نديم و بعض شركاء الزنزانة نسلي أنفسنا باللعب بالحصى ، و هي لعبة سخيفة اخترعناها من أجل قطع الوقت الذي لا ينتهي ، و كنا نسر أو نتظاهر بالسرور أو نقنع أنفسنا به ، فتح الباب و دخل مجموعة من العساكر .
توقفنا جميعا عن اللعب ، و انسابت أنظارنا نحوهم . لم نكن نشعر بأي طمأنينة لدى دخول إي منهم … فمجيئهم ينذر بالشر و الخطر
بدأ العساكر يجولون بأبصارهم فيما بيننا بازدراء و تقزز . ثم تقدم أوسطهم خطوة للأمام و قال :
” نديم وجيه ”
و جعل ينقل بصره من واحد لآخر …
نديم أجاب بعد برهة :
” أنا ”
استدار العسكري إلى رفاقه و أومأ إليهم
تقدّم اثنان منهم و أقبلا نحو نديم … و قالا بحدة :
” انهض ”
نهض نديم ببرود ، فإذا بهما يطبقان عليه بشراسة و يقودانه نحو الباب …
نديم سار معهما دون مقاومة ، فيما كانت أفئدتنا وجلة متوقعة شرا .
لم ينبس أحدنا ببنت شفة ، و بقينا في صمت رهيب و نحن نراقب نديم بقلق ، فيستدير هذا الأخير ليلقي علينا نظرة و يبتسم …
خرج العساكر بنديم و أقفلوا الباب و بقينا في صمت فظيع لبضع دقائق …
كنت أنا أول من أصدر صوتا اخترق جدار الصمت الموحش حين قلت :
” إلى أين أخذوه ؟ ”
هز البقية رؤوسهم في حيرة و تساؤل …
مضت ساعتان أو أكثر و نحن في هدوء و قلق … في انتظار عودة نديم و بدا أنه لن يعود ..
بدأت أذرع الزنزانة ذهابا و جيئة و أنا أدعو الله ألا يكون نديم قد أعدم …
و بينما أنا كذلك ، إذا بالباب يفتح مجددا ، و يدخل اثنان من العساكر يحملان نديم و يلقيان به أرضا ، ثم ينصرفان …
أقبلنا بسرعة نحو نديم فإذا بالدماء تلطخ جسمه و ملابسه…
و إذا بالجروح و الكدمات الملتهبة تغطي جسده …
” نديم ! ماذا فعلوا بك ؟؟ ”
صرخت في ذعر و أنا أرفع رأسه و أسنده على ركبتي …
لم يكن نديم بقادر على الكلام من شدة الإعياء
و كان جليا لنا أنه تعرض لتعذيب شديد …
تناوبنا جميعا في العناية به حتى بدأت الحياة تجري في عروقه .
أخبرنا فيما بعد بأنهم أوسعوه ضربا من أجل الإدلاء بمعلومات لا علم له بها …
و أنهم في طريقهم لإعدامه حتما
في اليوم التالي ، حضر العساكر أيضا ، و ما أن دخلوا السجن حتى ارتعشت قلوبنا جميعا و اشرأبت أعناقنا و تعلقت أبصارنا بهم في حالة لا توصف من الذعر
في تلك اللحظة كنت أجلس جوار نديم أنظف بعض جروحه و بلا شعور مني أمسكت بذراعه بقوة خشية أن يأخذوه …
هتف أحدهم :
” معتز أنور ”
انتفضنا جميعا ، و كان معتز ، و هو أحد زملاء الزنزانة ، و أحد مجرمي السياسة، أكثرنا انتفاضا و ذعرا
صرخ معتز بفزع :
” لا ”
و تقدم العساكر نحوه ، و هو يتراجع للوراء و يداه ترتجفان و العرق يغرق جسمه الهزيل …
تقدم العساكر بلا رحمة و أمسكوا به و هو يصرخ و يقاوم في عجز ، و قادوه خارجا .
و ما هي إلا ساعة و نصف الساعة ، حتى أعيد إلينا بحالة سيئة ، مليئا بالجروح و الكسور أيضا .
أصبحنا نعيش حالة مستمرة من الخوف الشديد ، و لم يستطع أحدنا النوم بعدها . و أصبحنا لمجرد سماعنا لأي صوت يصدر من ناحية الباب ، يركبنا الفزع المهول
و جاء اليوم التالي ، و جاء العساكر مجددا …
كنا جميعا متكومين قرب بعضنا البعض ، و أعيننا محدقة بهم ، و كل منا في خشية من أن يكون التالي …
” وليد شاكر ”
عندما نطق باسمي صعقت ، بل و صعق جميع من معي …
أخذ قلبي يخفق بعنف ، و أنا أراقب العساكر يتقدمون نحوي خطوة خطوة
صرخت :
” لكنني لست على علاقة بالسياسة ”
لم أكد أنهي جملتي إلا و العساكر قد أمسكوا بي …
حاولت سحب يدي من بين أيدهم بكل ما استطاعت عضلاتي إمدادي به القوة …
و فشلت …
” أنا هنا لجريمة قتل … لا شأن لي بالسياسة ”
حاولت مستميتا التخلص منهم و مقاومتهم دون جدوى
قادوني عنوة نحو الباب و لم يستطع أحد زملائي النطق بكلمة واحدة
و أنا أسحب إلى الخارج نظرت إلى نديم و قلت :
” ماذا سيفعلون بي ؟ ما الذي فعلته أنا ؟ ”
نديم أغمض عينيه بقوة ، في أسف و ألم و كأنه يقول : أرثي لك ، ويل لك مما ستلقى …
و لقيت ، ما لم ألقه في حياتي مطلقا …
لقيت…
أصنافا من العذاب التي أتوجع و أتلوّى من مجرد ذكرها …
عذابا … ينسي المرء اسمه و جنسه
تمنيت ساعتها ، لو أن أمي لم تلدني
لو أنني قتلت نفسي يوم قتلت عمّار
لو أن الله خلقني بلا أعصاب و إحساس …
و لا قلب …
و لو أن الدنيا خلت من اسم العذاب
و اسم السجون
و حتى من اسم رغد …
الأوقات الوحيدة في حياتي كلها ، التي تمنيت فيها لو أن رغد لم تكن … و لم توجد …
أصبت بكسر في أنفي جعل شكله يتغير و تظهر انحناءة صغيرة أعلاه .
بقيت ممدا على سريري بلا حراك ليومين ، كان فيها من بقى من زملائي سالما يعتني بي ، و بنديم و معتز ، و اثنين آخرين …
بعدها بأيام ، علمنا من الحارس أن اسمي قد أدرج خطأ ضمن قائمة المجرمين السياسيين !
مجرد خطأ … !
كان ذلك بعد عدة أشهر من زيارة سيف الأولى و قبل أشهر أخرى من زيارته التالية و التي ابتدأها بقول :
” وليد ! ماذا فعلت بأنفك !؟ ”
سردت على سيف ما حصل ، و وعدني بان يتم ذكر هذا في ملفي .
عندما سألته عما جد في موضوعي أخبرني بأن والده لا يزال يدرس الأمر ، و لدى سؤالي عن أهلي قال :
” اختفوا ! ”
زاد ذلك ضيقي و إحباطي الشديدين و قضى على بقايا الأمل بالخروج من هذا المكان …
بدأت أؤمن بأنهم قد قتلوا جميعا في الحرب … و إن كان الأمر كذلك ، فإنني لا أرغب في الخروج …
بل أرغب في الموت ….
أحقا لم يعد لأهلي أي وجود ؟؟
أماتوا ؟
أم تخلوا عني ؟
أم ماذا ؟؟
و رغد ؟؟
ماذا حل برغد ؟؟
في تلك الليلة ، رأيت كابوسا أفزعني …
رغد و سامر يلهوان بالدراجة الهوائية ، ثم يهويان في حفرة مليئة بالجمر المتقد
ثم تشتعل النيران و تكبر ، و تحرق منزلنا …
و آتي صارخا أحاول إخراج رغد من الحفرة …
و أمد يدي فإذا بي أخرج حزاما طويلا تأكله النيران …
و أقرب وجهي من الحفرة ، فإذا بي أرى وجه عمّار في الداخل ، يبتسم ثم يقهقه
و أسمع صراخا يدوي السماء
صراخ رغد …
” و ليـــــــــد … أنا خائفة … تعال ”
أفقت من نومي مذعورا ، و العرق يبلل ملابسي و فراشي ، كما تبلل الدموع وجهي المفزوع …
كنت أرتجف ، و أتنفس بصعوبة بالغة … و بلا إدراك اهتف
” رغد … رغد ”
صديقي نديم أقبل نحوي و أخذ يهدئني و يطمئنني …
” هوّن عليك يا وليد … لم يكن إلا كابوسا ”
لم أشعر بنفسي و أنا ارتمي على صدر نديم و أبكي بقوة و أهذي …
” أريد العودة لأهلي … دعوني أراهم و لو مرة واحدة ثم اقتلوني … لا أريد الموت قبل ذلك … أريد أن أحقق أحلامي …
أريد أن أكمل دراستي …
أريد العودة إلى رغد …
كان يجب أن أقتله …
انتظريني يا رغد فأنا قادم … ”
و نهضت كالمجنون … و توجهت نحو الباب و أخذت أضربه بعنف و أصرخ :
” أخرجوني من هنا … أخرجوني من هنا أيها الأوغاد ”
لحق بي نديم ليمنعني من إثارة مشكلة ألا أنني أبعدته عني بركلة قوية من رجلي … و ظللت أركل الباب بشدة و أنا مستمر في الصراخ …
حضر مجموعة من الحراس و فتحوا الباب ، ثم انهالوا علي ضربا بعصيهم حتى شلوا حركتي … و انصرفوا …
لم يجرؤ أحد السجناء على فعل شيء حتى لا يلقى ذات المصير
و منع عني الطعام في اليوم التالي
تدهورت صحتي الجسدية و النفسية بشدة بعد تلك الليلة ، و قضيت عدة أسابيع طريح الفراش …
و ربما هذا ما منع العساكر من تطبيق نظام التعذيب اليومي على جسدي …
إلا إن أدركوا أنهم كانوا مخطئين !
جسدي ، و الذي كان ضخما و قويا ، تحول إلى عظام متراكمة فوق بعضها البعض
بلا حول و لا قوة …
بعد فترة وجيزة ، صدر قرار يمنع زيارة السجناء ، و لم يعد سيف للظهور مجددا
و انتهى أملي الوهمي بالخروج من هنا ….
و استسلمت أخيرا لحياة السجون ….
حاولت أن أصف لكم بعض الذي قاسيته في ذلك السجن الذي قضيت فيه فترة شبابي اليافع … و التي ضاعت سدا …
فترة جافة قاسية أكسبتني جفافا و خشونة لم أولد بهما و لم أتربى عليهما
و غيرت في بعض طباعي ، و بدأت أدخن السجائر
كان الحارس يتصدق علينا بسيجارة واحدة ، ندور بها فيما بين شفاهنا جميعا …
و تقتسم همومنا و نقتسم سمومها ….
و مر عام آخر …
و أكثر …
ألمّ المرض بصديقي نديم من جراء التعذيب المستمر …
كان على فراشه ، و كنت اعتني بجروحه و إصاباته التي لم شملت حتى أطراف أصابعه …
” وليد .. ”
” نعم يا عزيزي ؟ ”
” يجب أن تخرج من هنا … ”
قال نديم ذلك ثم رفع يده و مسح على رأسي ، ثم وضعها فوق كتفي .
” يجب أن تخرج من هنا يا وليد و إلا لقيت حتفك ”
” إنني هالك لا محالة … لا جدوى و لا أجمل … ”
” افعل شيئا يا وليد و غادر هذا المكان … إنك لا زلت شابا صغيرا … ”
كنت الأصغر سنا بين الجميع ، و أكثرهم تذمرا و شكوى ، و بكاءا ، إلا أنني هدأت و استسلمت لما فرضته الأقدار علي … و لم يعد الأمر يفرق معي …
ابتسمت ابتسامة استهتار و سخرية ، و يأس …
نديم كان ينظر إلي بعين عطف شديد و محبة أخوية … قال :
” اسمعني يا وليد …
لدي مزرعة في المدينة الشمالية ، حيث كنت أعيش مع ابنتي و زوجتي … متى ما خرجت من هنا … فاذهب إليهما و أخبرهما بأنني كنت أفتقدتهما كثيرا و أنني بقيت على أمل العودة إليهما دون يأس لآخر لحظة في حياتي … ”
” نديم … ”
قاطعني قائلا :
” لا تنس ذلك يا وليد … و إن احتاجتا مساعدة منك … فأرجوك … ابذل ما باستطاعتك ”
أقلقتني الطريقة التي كان نديم يتحدث بها ، هززت رأسي و قلت :
” لماذا تقول ذلك يا نديم …؟ ”
و انتظرت أن يجيب
لكنه لم يجب …
و تحركت يده الممدودة على كتفي ، ثم هوت للأسفل … و ارتطمت بالفراش … و سكنت سكون الموت …
إنا لله … و إنا إليه راجعون ….
بعد سنتين من ذلك …
و في أحد الأيام …
و فيما أنا مضطجع على سريري بكسل و عدم إكتراث ، أدخن بقايا السيجارة بلا مبالاة ، و انظر إلى السقف و أرى الحشرات تتجول دون أن يثير ذلك أي اهتمام لدي …
إذا بالباب يفتح ، ثم يدخل بعض الضباط
معظم زملائي وقفوا في قلق …
أما أنا ، فلم أحرك ساكنا … و بقيت أراقب سحابة الدخان التي نفثتها من صدري ترتفع للأعلى … و تتلاشى …
” وليد شاكر ”
هتف أحد الضباط …
فقمت بتململ و التفت إليه ببرود
لم يعد يهمني إن كان لدي أي درس جديد في الضرب أو غيره …
عاد الضابط يهتف بحدّة :
” وليد شاكر ”
نهضت عن فراشي و وقفت ازاء الضباط و أجبت بضجر :
” نعم ؟ ”
و أقبل بعضهم نحوي ، فرميت بالسيجارة أرضا و سحقتها باستسلام …
أمسكوا بي و قادوني نحو الباب ، فسرت بخضوع تام …
عندما صرت أمام الضابط الذي ناداني ، رمقني بنظرة احتقار شديدة
و هي نظرة قد اعتدت عليها و لم تعد تؤثر بشعوري …
قال :
” وليد شاكر ؟ ”
أجبت :
” نعم أنا ، و لا علاقة لي بالسياسة ، أرجو أن تتاكد من ذلك جيدا ”
رفع الضابط يده و صفعني على وجهي صفعة قوية كادت تكسر فكي …
ثم قال :
” هذه تذكار ”
التفت إلى زملائي و عيني تقدح بالشر ، و قابلتني نظراتهم بالتحذير …
فكتمت ما في صدري ، ثم قلت :
” ثم ماذا ؟ ”
ابتسم الضابط ابتسامة خبيثة دنيئة ، ثم قال :
” لاشيء ! فقط … أفرجنا عنك ”