روايه انت لي الحلقه 15 و 16

20 12٬193
 

روايه انت لي الحلقه 15 و 16

روايه انت لي الحلقه 15

روايه انت لي الحلقه 15 و 16

روايه انت لي الحلقه 15 و 16 , معكم صديقة زاكي الشيف الموهوبة ,leen
رواية انت ليالحلقة الخامسة عشر

أكاد أطير من الفرح … لأن وليد سيأتي اليوم …

إنني منذ وقعت عيناي عليه يوم حضوره قبل شهر ، و أنا أحس بشيء غريب يتحرك بداخلي !

أهي كريات الدم في عروقي ؟؟

أم شحنات الكهرباء في أعصابي ؟؟

أم تيارات الهواء في صدري ؟؟

بين الفينة و الأخرى ، أخرج إلى فناء المنزل … و أترقب حضوره

متى سيصل ؟؟

سامر أيضا سيعود هذه الليلة ، فمنذ سافر للمدينة الأخرى قبل أسابيع من أجل العمل لم نره …

استدرت للخلف ، فإذا بأمي واقفة عند المدخل الرئيسي ، تنظر إلي !

” رغد … ما ذا تفعلين ؟؟ ”

اضطربت قليلا ، ثم قلت :

لا شيء …

والدتي ابتسمت ، و قالت :

” لقد قال سامر إنه سيصل ليلا ! لا تُقلقي أعصابك ! ”

شعرت بغصة في حلقي و كدت أختنق !

إنني لم أر سامر منذ أسابيع … و أعلم أنه سيعود ليلا … لكنني … لكنني كنت أرتقب وليد !

كان هذا يوم الأربعاء … ، و في هذا المساء سيتم عقد قران دانة …

إنها مشغولة جدا هذا اليوم ، و كذلك هي أمي … و الاضطراب يسود الأجواء …

” تعالي و ساعدينا ! ”

ألقيت نظرة على الباب الخارجي للمنزل ، و مضيت مذعنة لطلب أمي !

كانت دانة تجفف شعرها بمجفف الشعر الكهربائي المزعج ، قلت :

” فيم أساعدك ؟؟ ”

و يبدو أن صوته الطاغي منعها من سماعي ، فكررت بصوت عال :

” دانة فيم أساعدك ؟؟ ”

انتبهت لي أخيرا ، و قالت :

” تعالي رغد و جففي هذا المتعب ! ”

دانة كان لها شعر طويل و كثيف مع بعض التموج ، على العكس من شعري القصير الأملس الناعم !

تناولت المجفف الساخن من يدها و بدأت العمل !

صوت هذا الجهاز قوي و أخشى أن يعيق أذني عن سماع صوت جرس الباب !

مرت الدقائق و أنا أحاول الإسراع من أجل العودة للفناء !

” رغد ! جففي بأمانة ! ”

قالت ذلك دانة و هي تنظر إلي عبر المرآة … فابتسمت !

فستان دانة كان جميلا و أنيقا جدا ، و موضوعا على سريرها بعناية

لدانة ذوق رائع جدا في اختيار الملابس و الحلي و أدوات التجميل !

لدى عبور هذه الفكرة برأسي تذكرت طقم الحلي الذي رأيته ليلة الأمس و أثار إعجابي الشديد و أردت اقتنائه ، غير أن نقودي لم تكن كافية فأجلت الأمر لهذا اليوم

” يجب أن أذهب مع آبى لشراء ذلك الطقم قبل أن يحل الظلام ! ”

” حقا ستشترينه ؟ إنه باهظ الثمن ! ”

” طبعا سأشتريه ! ماذا سأضع هذه الليلة إذن ؟؟ ”

” لم لا تضعين العقد الذي أهدتك إياه والدتي قبل أسابيع ؟؟ ”

لم تعجبني الفكرة ، فلقد رأته لمياء ـ شقيقة نوّار ، خطيب دانة ـ يوم حفلة تخرجي !

إنها أمور نكترث لها نحن الفتيات !

أو على الأقل ، معظمنا !

قلت :

” بل سأشتري شيئا جديدا ! يليق بقرانك ! ”

و ضحكنا !

لمحت والدتي مقبلة من ناحية الباب فأوقفت تشغيل الجهاز و قلت بسرعة :

” هل حضر ؟ ”

ثم أضفت بسرعة ، تغطية على الحقيقة :

” أقصد والدي ؟ أريد أن يصحبني لسوق المجوهرات ! ”

قالت والدتي :

” ماذا تودين من سوق المجوهرات ؟؟ ”

” سأشتري عقدا جديدا أرتديه الليلة ! ”

بدا على والدتي بعض الاستياء … ثم قالت :

” أليس لديك ما يناسب ؟ سأعيرك مما عندي إن شئت ”

عرفت من طريقة كلامها أنها لا تريد مني شراء المزيد .

أعدت تشغيل الجهاز و واصلت تجفيف شعر دانة الطويل حتى انتهيت … بصمت …

بعدها خرجت من الغرفة قاصدة الذهاب إلى غرفتي ، إذ أن بي شحنة استياء أريد إفراغها …

و أنا أمر من والدتي قالت :

” رغد اذهبي للمطبخ و أتمي تحضير الكعك ، سأوافيك بعد قليل ”

أذعنت للأمر … و قضيت قرابة الساعة في عمل المطبخ الممل ، حتى أتت والدتي وتقاسمنا العمل …

بعد فترة همت بالانصراف ، فبالي مشغول بانتظار وليد ، و حين رأتني أمي سائرة نحو الباب :

” إلى أين رغد ؟؟ ”

” سأذهب للاستحمام ! ”

” انتظري ! تعرفين ما من مساعد لي غيرك اليوم … ! اغسلي الأطباق و الصواني و رتبي الأواني في أماكنها ، ثم تولي كي و طي الملابس ! العمل كثير هذا اليوم ! ”

شعرت بالضيق ! لم أكن أحب العمل في المطبخ و كنت أتولى أقل من ثلث العمل المقسم بيننا نحن الثلاث ، أمي و دانة و أنا ، لكنني اليوم مضطرة للتضحية بنعومة يدي !

أثناء ترتيبي للأواني سمعت صوتا مقبلا من جهة مدخل المنزل الرئيسي

ربما يكون وليد !

أسرعت بوضع الأواني على عجل فانزلق من يدي بعضها و تحطم على الأرضية الملساء الصلبة !

” أوه رغد ! ماذا فعلت ! ”

والدتي نظرت إلي بانزعاج ، فزاد ضيقي ..

” انزلقت من يدي ! ”

و تركت كل شيء و هممت بالانصراف

” إلى أين ؟؟ ”

” سأرى من عند الباب أمي ! ”

و لم أكد أغادر ، إذ أن والدي قد وصل ، و دخل المطبخ يحمل الكثير من الأغراض

عدت إلى الأواني المحطمة أرفعها عن الأرض و أنظف الأرضية من شظايا الزجاج

ثم كان علي ترتيب الأغراض التي جلبها أبي في أماكنها المخصصة … و الكثير الكثير قمت به فيما دانة في غرفتها ، تسرح شعرها و تتزين !

حالما انتهيت من جزء من عمل المطبخ ، قلت لوالدي و الذي كان يجلس على المقعد عند الطاولة يكتب بعض الملاحظات على ورقة صغيرة :

” أبي … هل لا اصطحبتني إلى أحد محلات الحلي ؟ لي حاجة سأشتريها و أعود ”

أمي نظرت إلي و قالت مباشرة :

” عدنا لذلك ؟ خذي ما تشائين من حليي و لا داعي لإضاعة المال و الوقت ! لدينا الكثير لنفعله الآن ! ”

قلت :

” و لكن … إنه جميل جدا و أريد أن أرتديه الليلة ! ”

قالت :

” هيا يا رغد ! عوضا عن ذلك رتبي الملابس أو غرفة الضيوف و الصالة … النهار يودعنا ”

لم أناقش أمي ، بل نظرت إلى أبي و هو منهمك في تدوين كلمات على الورقة و قلت :

” أبي … لن أتأخر ! سأشتريه و نعود فورا ! ”

والدي قال دون أن يرفع عينيه عن الورقة :

” فيما بعد رغد ، لدي مهام أخرى أقوم بها الآن ”

خرجت من المطبخ و أنا أشعر بالخيبة و الخذلان … و ذهبت إلى الغرفة الخاصة بالملابس ، أكويها و أطويها و أرتبها ، و دمعة تتسلل من بين حدقتي من حين لآخر …

كنت أكوي فستاني الجديد الذي سأرتديه الليلة بشرود و أسى …

لماذا علي أن أعمل بهذا الشكل !؟

لماذا لا يجلب والدي خادمة للمنزل ؟؟

هنا سمعت صوت جرس الباب يقرع …

لابد أنه وليد !

تركت كل شيء بإهمال و طرت نحو باب المخرج ، في نفس اللحظة التي أقبل فيها والدي نحو الباب …

قال :

” اذهبي و ارتدي الحجاب ، قد يكون وليد ! ”

رجعت فورا إلى غرفة الملابس و سحبت حجابا لي من كومة الملابس

( المجعدة ) و لبسته كيفما اتفق ، و هرعت نحو المدخل …

فتحت باب المدخل لأطل على الفناء الخارجي ، و أرى أبي و وليد متعانقين عند البوابة الخارجية …

أقبلت أمي مسرعة و فتحت الباب و خرجت مهرولة إلى وليد …

وقفت أنا عند الباب الداخلي أنظر و دموعي تفيض من عيني رغما عنها …

لقد كان وليد واقفا بطوله و عرضه و جسده العظيم ، يحجب أشعة الغروب عن وداع ما غطاه ظله الكبير ، يضم والديه إلى صدره و ينهال برأسه البارز على رأسيهما بالقبل …

وقفت أراقب … و أنتظر …

لقد طال العناق و الترحيب … و لم يلتفت أو لم ينتبه إلي !

و فيما أنا كذلك ، و إذا بالباب يفتح ، و تنطلق منه دانة مسرعة كالقذيفة الموجهة نحو وليد !

تعانقا عناقا حميما جدا ، و دانة تقول بفرح :

” كنت واثقة من أنك ستحضر ! كنت واثقة من ذلك ”

و وليد يضمها إلى صدره ثم يقبل جبينها و يقول :

” طبعا سآتي ! كم شقيقة لدي ؟؟ … ألف مبروك عزيزتي ”

كل هذه الحرارة المنبعثة من اللقاء الحميم أمام عيني جعلتني أنصهر !

و بدا أن دموعي على وشك التبخر من فرط حرارة خدي ّ

وليد !

من أي طينة خلقت أنت ؟؟ و لماذا تنبعث منك حرارة حارقة بهذا الشكل !

ألا تحس الأشجار أن الشمس قد ارتفعت بعد الغروب !؟

و أخيرا ، تحرك الثلاثة مقبلين نحوي … نحو المدخل …

أخيرا لامست نظراتي الجمرتين المتقدتين ، المتمركزتين أعلى ذلك الرأس … مفصولتين بمعقوف حاد ، يزيدهما شرارا … و حدة … و اشتعالا !

توهج وجهي احمرارا و تلعثم قلبي في نطق دقاته المتراكضة … و شعرت بجريان الأشياء الغريبة في داخلي …

الدماء

سيالات الأعصاب

و الأنفاس !

و هو يخطو مقتربا ، و حجمه يزداد … و رأسه يعلو … و عنقي يرتفع !

سقطت أنظاري فجأة أرضا و كأن عضلات عيني قد شلت ! لم أستطع رفعهما للأعلى لحظتها …

و جاء صوته أخيرا يدق طبلتي أذني …

بل يكاد يمزقهما !

” كيف حالك صغيرتي ؟؟ ”

و كلمة صغيرتي هذه تجعلني أحس أكثر و أكثر بصغر حجمي و ضآلتي أمام هذا العملاق الحارق !

رفعت عيني أخيرا ببعض الجهد و أنا أضم شفتي مع بعضهما البعض استعدادا للنطق !

” بخير … ”

و لكن … حين وصلت عيناي إلى جمرتيه ، كانتا قد ابتعدتا …

لم يكن وليد ينظر إلي ، و لا حتى ينتظر جوابي !

لقد ألقى سؤاله بشكل عابر و أشاح بوجهه عني قبل أن يسمع حتى الإجابة … و هاهي دانة تفتح الباب … و هاهو يدخل من بعدها … و يدخل والداي من بعده … و ينغلق الباب من بعدهم !

وقفت متحجرة في مكاني لا شيء بي يتحرك … حتى عيناي بقيتا معلقتين في النقطة التي ظنتا أنهما ستقابلان عيني وليد عندها …

مرت برهة … و أنا أحدق في الفراغ !

هل كان وليد هنا ؟؟

هل مر وليد من هنا ؟؟

هل رأته عيناي حقا ؟؟؟

لم أجد جوابا حقيقيا …

بدا كل شيء كالوهم و الخيال !

أفقت من شرودي و استدرت ، و فتحت الباب فدخلت … و وصلتني أصوات أفراد أسرتي من غرفة المعيشة …

حركت قدمي بإعياء شديد متجهة إلى حيث هم يجلسون …

كان وليد يجلس على مقعد كبير ، و هم إلى جانبيه … لا أظن أن أحدا انتبه لوجودي ! وقفت عند مدخل الغرفة أراقبهم و جميعهم مسرورون و أنا تعيسة !

بعد قليل ، أمي قالت فجأة :

” أتشمون رائحة شيء يحترق ؟؟ ”

الشيء الذي قفز إلى رأسي هو المقعد الذي يجلسون عليه ! ربما احترق من حرارة وليد !

و بالفعل شممت الرائحة !

” إنها قادمة من هناك ! ”

و أشارت والدتي نحوي … طبعا كانت تقصد من خارج الغرفة إلا أنني ألقيت نظرة سريعة على ملابسي لأتأكد من أنها لا تقصدني !

و قفت أمي و كذلك وقف الجميع ، و أقبلت هي مسرعة قاصدة التوجه نحو المطبخ …

لم تجد ما يحترق هناك … ثم سمعت صوتها تنادي بقوة:

” رغد تعالي إلى هنا ”

ذهبت إليها ، كانت في غرفة الملابس … تفصل سلك المكواة عن مقبس الكهرباء !

صحت :

” أوه ! يا إلهي ! ”

و أسرعت إلى الفستان الذي نسيت المكواة فوقه و خرجت مسرعة لاستقبال وليد !

” انظري ما فعلت ! سترتدينه الليلة محروقا بهذا الشكل ! ”

أخذت الفستان و جعلت أدقق النظر في البقعة المحروقة ، و أعض شفتي أسفا و حسرة …

” ماذا سأفعل الآن ؟؟ ”

قلت بيأس … فأجابت أمي بغضب :

” ترتدينه محروقا ! فنحن لم نشتره لنرميه ”

عند هذا الحد … و لم أتمالك نفسي …

و انخرطت في بكاء شديد رغما عني …

في نفس اللحظة التي كانت أمي تغادر فيها الغرفة كان البقية مقبلين يتساءلون عما حدث و ما احترق …

والدي قال :

” ماذا حصل ؟؟ ”

أمي أجابت باستياء :

” تركت فستانها يحترق ! و قبل قليل كسرت الأطباق ! لا أعرف متى ستكبر هذه الفتاة ”

كان الأمر سيغدو مختلفا لو أن وليد لم يكن موجودا يرى و يسمع …

كم شعرت بالحرج و الخجل …

إنني لست طفلة و مثل هذه الأمور لم تكن لتحدث لو أنني لم أكن مضطربة و مشتتة هذا اليوم … كما و أن أمي لم تكن لتصرخ بوجهي هكذا لو لم تكن هي الأخرى مضطربة و قلقة ، بسبب الليلة …

رميت بالفستان جانبا و أسرعت الخطى قاصدة الهروب و الاختفاء عن الأنظار …

كان وليد يقف عند الباب و يسد معظمه ، و حين وصلت عنده لم يتحرك …

كنت أنظر إلى الأرض لا أجرؤ على رفع نظري إلى أي منهم ، إلا أن بقاء وليد واقفا مكانه دون أن يتزحزح جعلني أرفع بصري إليه ….

الدموع كانت تغشي عيني عن الرؤية الواضحة …

وليد نظر إلي نظرة عميقة دون أن يتحرك …

” إذا سمحت … ”

قلت ذلك ، فتنحى هو جانبا ، و انطلقت أسير بسرعة نحو غرفتي …

في غرفتي ، أطلقت العنان لدموعي لتفيض بالقدر الذي تريد

كان يومي سيئا ! كم كنت سعيدة في البداية !

و الآن …

حزينة … محرجة … مجروحة الخاطر … مخذولة …

بدموع جارية … و قلب معصور … و فستان محروق ! و بلا حلي !

أكثر ما أثر بي … هو الاستقبال البليد الذي استقبلني به وليد …

و أنا من كنت أحترق شوقا لرؤيته !

غمرت وسادتي البريئة من أي ذنب بالدموع الحارة المالحة … و بقيت حبيسة الألم و الغرفة فترة طويلة ….

بعد مدة سمعت طرق الباب … قمت بتململ و فتحته ، فرأيت أمي …

تحاشيت النظر إليها ، فأنا خجلة منها و لست مستعدة لتلقي أي توبيخ هذه الساعة …

أمي قالت :

” رغد ! على الأقل ابدئي الاستعداد ! ألم تستحمي بعد ؟؟ ”

وجدت نفسي أقول بغضب و انفعال :

” لن استحم ، و لن أحضر معكم و سأنام حتى الغد ”

أمي صمتت قليلا ثم قالت بنبرة عطوفة :

” يا عزيزتي لم أقصد توبيخك ، لكنك تتصرفين بشكل غريب اليوم ! هيا ابدئي الاستعداد … ”

رفعت رأسي إليها و قلت :

” بم ؟ لا فستان و لا حلي ! ”

تنهدت أمي و قالت :

” ارتدي أي شيء ! ما أكثر ما لديك ”

لم اقتنع ، فأنا أريد أن أظهر جديدة في كل شيء الليلة ! أليست ليلة مميزة؟ إنه عقد قران أختي دانه !

قلت :

” لن أحضر دون فستان جديد و مجوهرات ! دعوني أبقى في غرفتي فهذا أفضل و متى ما انتهيتم سأساعدكم في تنظيف المنزل ”

و بكيت

بكيت بشدة ، و ليس سبب بكائي هو الفستان أو الأواني المكسورة ! إنه قلبي الذي يعتصر ألما من تجاهل وليد لي بهذه الطريقة !

لماذا فعل ذلك ؟؟

ألم أعد مهمة لديه ؟؟

ألم يعد بألا يسمح لدموعي بالانهمار ؟؟

إنه الذي يفجرها من عيني بغزارة هذه اللحظة …

أعرف أن أمي تحبني و تدللني ، مثل أبي … و هذا ما اعتدته منهما … لذلك حين قالت :

” حسنا … اذهبي بسرعة مع أبيك لشراء شيء مناسب على عجل ”

لم أفاجأ ، بل مسحت دموعي مباشرة خصوصا و هي تنظر إلى الساعة بقلق …

أخرجت حقيبتي من أحد الأدراج … و قلت :

” لا أملك مبلغا كافيا ”

ذهبت أمي و عادت بعد قليل تحمل بعض الأوراق المالية ، و قالت :

” سأخبر أبيك كي يشغل السيارة ، أسرعي رغد ”

و ذهبت ، و ارتديت عباءتي و خرجت بعدها …

و فيما أنا أجتاز الردهة ، إذا بها مقبلة نحوي تقول :

” لا فائدة يا رغد لقد خرج والدك ! ”

كان والدي مشغولا طوال اليوم ، و ها قد غادر من جديد …

أطلقت تنهيدة يأس مريرة و رميت بالحقيبة جانبا و قلت :

” قلت لك أنني لن احضر … دعوني و شأني ”

و أوشكت على البكاء

أمي قالت :

” قد يعود بعد قليل … ”

لكنني كنت قد فقدت الأمل !

جلست على المقعد و أسندت خدي إلى يدي في أسى …

” أيمكنني فعل شيء ؟؟ ”

كان هذا صوتا رجاليا جعلني أسحب يدي فجأة من تحت خذي فينحني رأسي للأسفل ثم يرتفع للأعلى …

للأعلى …

للأعلى !

العملاق وليد !

أمي و وليد تبادلا النظرات ، ثم قالت أمي :

” ننتظر أن يعود والدك ليصحبها إلى السوق ! ”

قال :

” لدي سيارة … إذا كان الأمر طارئا … ”

الأشياء الغريبة الثلاثة بدأت تجري في داخلي و تتسابق !

أمي قالت :

” أنت … قدمت لتوك ! اذهب و نم قليلا في غرفة سامر … ”

” لست متعبا جدا ”

” … ثم أنك لا تعرف المنطقة ! ”

قال و هو ينقل بصره بيني و بين أمي :

” لكنكما تعرفان ! ”

أي نوع من الأفكار تعتقدون أنني رأيتها ؟؟

مجنونة !

قالت أمي بتردد :

” إنني مشغولة في المطبخ ”

فاستدار وليد إلي و قال :

” و أنت ِ ؟أ تحفظين الطريق ؟؟ ”

ربما كان سؤاله عاديا

أو ربما استهانة بي ! فهل أنا طفلة صغيرة لا أعر ف الطرق ؟؟

قلت :

” نعم ! طبعا ”

ثم نظرت إلى أمي أحاول قراءة رأيها من عينيها …

أمي بدت مترددة … لكنها قالت بعد ذلك موجهة كلامها لي أنا:

” ما رأيك رغد ؟؟ ”

أنا أقرر قبل أن أفكر في أحيان ليست بالقليلة ! قلت :

” حسنا ”

و وقفت و سحبت حقيبتي …

التفتت أمي نحو وليد و قالت :

” انتبه لها ”

وليد دخل إلى غرفة المعيشة و أحضر مفتاح سيارته ، و الذي كان قد تركه على المنضدة …

تقدمت نحو باب المنزل و وقفت في انتظاره ، حتى إذا ما أقبل فتحت الباب و خرجت قبله !

خطواتي أنا قصيرة و بسيطة ، كيف لها أن تضاهي خطواته الواسعة الشاسعة !؟

سبقني و خرج من البوابة الخارجية لفناء المنزل … و سمعت صوت باب سيارة ينفتح …

ما إن خرجت من البوابة ، حتى وقعت عيناي على سيارة وليد … نفس السيارة التي كان يقودها منذ سنين …

المرة الأخيرة التي ركبت فيها هذه السيارة كانت في أسوأ أيام حياتي …

شعرت بقشعريرة شديدة تجتاحني و ثبت في مكاني و لم أجرؤ على المضي خطوة للأمام …

وليد شغل السيارة و انتظرني … و طال انتظاره !

التفت نحو الباب فوجدي واقفة هناك بلا حراك

ضغط على بوق السيارة لاستدعائي لكنني لم أتحرك

الشيء الذي تحرك هو شريط الذكريات القديمة البالية … الموحشة البائسة … التي طردتها من خيالي عنوة …

وليد فتح الباب و خرج من السيارة و نظر باتجاهي و قال :

” ألن تذهبي ؟؟ ”

تحركت قدماي دون إدراك مني و اقتربت من السيارة

مددت يدي فإذا بها تلقائيا تتوجه إلى الباب الأمامي ، فأجبرتها على الانحراف نحو الباب الخلفي ، فتحته و جلست على المقعد الخلفي

فيما وليد يجلس في المقدمة و إلى اليسار مني … يكاد شعره الكثيف يلامس سقف السيارة !

عندما كنا صغارا ، أنا و دانة … كنا نتشاجر من أجل الجلوس على المقعد الذي أجلس خلفه مباشرة الآن !

وليد انطلق بالسيارة نحو الشارع الرئيسي ثم سألني و هو يراقب الطريق :

” أين نتجه ؟ ”

سار وليد ببطء نسبيا يسألني عن الطرق و المنعطفات ، و أرشده إليها حتى بلغنا المكان المطلوب .

كان سوقا صغيرا مليئا بالناس …

أوقف وليد السيارة ، ففتحت الباب و خرجت و تقدمت للأمام

وليد لم يخرج ، و سمعت صوته عبر نافذة الباب الأمامي المفتوحة يقول :

” كم ستبقين ؟؟ ”

تعجبت ، فقلت و أنا أقرب وجهي من النافذة بعض الشيء :

” ألن تأتي معي ؟؟ ”

وليد صمت قليلا ، و ربما ارتبك ، ثم قال :

” و هل يجب أن آتي معك ؟؟ ”

قلت :

” نعم ! ”

قال :

” سأنتظرك هنا … هذا أفضل ”

بقيت واقفة في مكاني لحظة ، فعاد يقول :

” هل يجب أن أرافقك ؟؟ ”

قلت :

” أو تعيدني للبيت ”

و تراجعت للوراء و مددت يدي قاصدة فتح الباب الخلفي …

وليد فتح بابه و نزل و دار حول السيارة نصف دورة حتى صار إلى جانبي

قلت :

” من هنا ”

و سرنا نحو بوابة المجمع الصغير ، هو مجمع اعتدنا أنا و دانة و أمي شراء حاجياتنا منه

حينما بلغنا المتجر المقصود ، و هو متجر للملابس ، و كان يعج بالكثيرين، دخلته و توجهت نحو زاوية معينة …

التفت إلى الخلف فوجدت وليد واقفا في الخارج ينظر من خلال زجاج المتجر …

عدت أدراجي إليه بسرعة … ثم قلت :

” ألن تدخل معي ؟؟ ”

وليد بدا مترددا حائرا … ربما هو غير معتاد على ارتياد الأسواق !

لذا تحرك ببطء …

لأنني قمت بزيارة المتجر يوم أمس فأنا أعرف ما يوجد و ما يناسب ، لذا لم استغرق سوى دقائق حتى اشتريت فستانا مختلفا عن فستاني المحروق !

إنه أجمل و أغلى !

حينما هممت بالمحاسبة أخرج وليد محفظته ، و دفع الثمن !

كم أنا خجلة منه ! آمل ألا يفعل ذلك في متجر المجوهرات !

لم يكن وليد يتحدث ، بل كان يسير على مقربة مني بصمت و اضطراب …

أنا أيضا كنت خرساء جدا !

أقبلنا نحو متجر المجوهرات ، و كان الآخر مزدحما بالناس ، و معظمهم سيدات

دخلناه و أخذت عيناي تفتشان عن الطقم الجميل الذي أغرمت به يوم أمس … لم يكن موجودا في مكانه فخشيت أن تكون سيدة ما قد سبقتني بشرائه !

جلت ببصري في المتجر حتى وجدت ضالتي ، التفت للوراء فلم أجد وليد …

تلفت يمنة و يسرة و لم أجده …

أقبل صاحب المتجر يسألني :

” ماذا أعجبك سيدتي ؟ ”

أسرعت مهرولة نحو الباب و نظرت من حولي فوجدت وليد واقفا يتأمل بعض التحف المعروضة في متجر مجاور …

” وليد ”

نادينه و أنا مقبلة إليه أحث الخطى …

التفت إلي :

” هل انتهيت ؟ ”

” لا ”

تعجب ! و قال :

” إذن ؟؟ ”

قلت :

” لا تبتعد عني ”

بقى متعجبا برهة ثم أقبل معي و عدنا لذلك المتجر …

اشتريت الطقم الباهظ الثمن و حين سمع وليد بالسعر اضطرب قليلا

فتح محفظته ليلقي بنظرة على ما بداخلها إلا أنني أسرعت بإخراج النقود من حقيبتي و دفعتها إليه

قبل أن نغادر المتجر قال وليد :

” أي شيء يصلح هدية صغيرة لدانة ؟ فأنا لا أعرف ماذا تحب ! ”

أما أنا فاعرف ماذا تحب !

اعتقد أن الرجال لا يحتارون كثيرا في اختيار هدية لامرأة ! لأن المجوهرات موجودة دائما … و تتجدد دائما … و غالية دائمة … و نعشقها دائما !

اخترت شيئا جميلا و بسيطا ، و معتدل السعر ، فاشتراه وليد دون تردد

خرجنا بعد ذلك من المتجر متجهين نحو البوابة ، و أثناء ذلك عبرنا على أحد محلات الأحذية الرجالية فقال وليد :

” سألقي نظرة ”

و سار خطى سريعة نحو المدخل …

كان في المتجر عدد من الرجال و الأطفال …

و أنا أرى وليد يبتعد … و يهم بدخول المتجر … و المسافة بيننا تزداد خطوة بعد خطوة … و الناس يتحركون من حولي … ذهابا و إيابا …

و رجال يدخلون … و رجال يخرجون … و وليد يكاد يختفي بينهم ، ناديت بصوت عال :

” وليد ”

و رغم الازدحام و الضوضاء الصادرة من حركة الناس و كلامهم ، سمعني وليد فالتفت إلي …

أنا أسرعت الخطى المضطربة باتجاهه … و هو اقترب خطوتين … و حين أصبحت أمامه قلت :

” لا تتركني وحدي ”

وليد يعلوه الاستغراب ، قال مبررا :

” سألقي نظرة سريعة فحسب … لدقيقة لا أكثر ”

عدت أقول :

” لا تتركني وحدي ”

عدل وليد عن فكرة إلقاء تلك النظرة ، و قال :

” هل تريدين شيئا آخر ؟؟ ”

قلت :

” كلا ”

قال :

” إذن … هيا بنا ”

عندما عدنا إلى المنزل ، و قبل أن يفتح لنا الباب بعد قرع الجرس ، التفت إليه و قلت :

” شكرا … وليد ”

 

لكن أذهلني الوجوم المرسوم على وجهه !

كأنه مستاء أو أن مرافقتي قد أزعجته

إنني لم أطلب منه ذلك بل هو من عرض المساعدة !

دخلنا إلى الداخل ، فتوجه هو تلقائيا نحو المطبخ ، فسرت خلفه …

والدتنا كانت لا تزال منهمكة في العمل ، حين رأتنا بادرت بسؤالي :

” هل وجدت ما أردت ؟؟ ”

و أخذت تنظر إلى الكيس الذي أحمله …

” نعم ”

و فتحت الكيس ، و أخرجت منه كيسا آخر صغير يحتوي على علبة المجوهرات …

ما أن رأتها أمي حتى هزت رأسها اعتراضا و استنكارا … فهي لم تكن تشجعني على شراء المزيد ، فقلت بسرعة مبررة :

” إنه طقم رائع جدا ! انظري … ”

و قربته منها فتأملته و قالت :

” نعم رائع و لكن … ”

لم تتم الجملة ، بل قالت :

” و لكنك اشتريته على أية حال ! ”

ابتسمت ابتسامة النصر !

و التفت نحو وليد الذي كان يتابع حديثنا و قلت :

” أليس رائعا ؟ ما رأيك ؟؟ ”

وليد بدا مضطربا بعض الشيء ، ثم قال :

” لا أفهم في هذه الأمور ، لكن … نعم رائع ”

و توجه نحو أحد المقاعد و جلس باسترخاء …

أمي قالت :

” بني … اذهب و استرخ في غرفة سامر لبعض الوقت ! إنك مجهد ”

الآن وليد ينظر باتجاه والدتي ، و لا أقع أنا في مجال الرؤية لديه … باستطاعتي أن ادقق النظر في أنفه المعقوف دون أن يلاحظ !

ما حكاية هذا الأنف يا ترى !؟

أخذت أتخيل شكل وليد قبل أن يسافر … كم يبدو مختلفا الآن !

” رغد ألن تستعدي ؟؟ ”

انتبهت على صوت والدتي تكلمني ، أجبت باضطراب و كلي خشية من أن تكون شاهدتني و أنا أتأمل ذلك الأنف !

” حاضر ، نعم سأذهب ”

و انطلقت نحو غرفتي …

 

~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

 

بعد أن غادرت رغد ، هممت بالذهاب إلى غرفة أخي سامر و تأدية الصلاة ثم الاسترخاء لبعض الوقت …

إنني متعب بعد مشوار الحضور الطويل

نظرت إلى فتحة الباب لأتأكد من أن رغد قد ابتعدت ، ثم قلت :

” أمي … لم كانت رغد تبكي ؟؟ ”

أمي كانت تزين قالب الكعك بطبقة من الشيكولا ، و كانت الكعكة شهية المنظر !

قالت أمي :

” لأنها أحرقت فستانها كما رأيت ! تصور ! لقد اشترته يوم الأمس بمبلغ محترم … ! ”

صمت برهة ثم قلت :

” و الآخر أيضا غال الثمن ، و حتى هذا الطقم ”

ابتسمت والدتي و قالت :

” إنها تبذر النقود ، هذا أحد عيوبها ! ”

أوه هكذا ؟ جيد … !

لقد عرفت شيئا جديدا عن طفلتي … أصبحت مبذرة للمال أيضا ؟؟ و ماذا بعد …؟؟

قلت بتردد :

” هل … هل … تحسنون معاملتها ؟؟ ”

رفعت أمي بصرها عن الكعكة و نظرت نحوي باستغراب … ثم قالت :

” طبعا ! بالتأكيد ! بل إننا … ندللها كثيرا ! ”

تنهدت بارتياح نسبي ، و عدت أقول :

” إذن … لماذا كانت تبكي ؟؟ ”

أمي تعجبت أكثر ، و قالت :

” قلت لك … بسبب الفستان ! ”

قلت :

” لا أمي … أعني قبل ذلك ”

” قبل ذلك ؟؟ ”

” عندما خرجت لاستقبالي فور وصولي … ”

 

في غرفة أخي سامر ، و الذي سيصل بعد قليل قادما من المدينة الأخرى حيث يعمل ، اضطجعت على السرير و سبحت في محيط لا نهائي من الأفكار …

الشيء الذي أثار قلقي هو الطريقة التي وبخت فيها والدتي رغد بعد وصولي بقليل …

فهل حقا يحسن الجميع معاملتها و يدللها ؟؟

لم أتحمل رؤيتها تبكي …

عندما كنا في منزلنا القديم ، لم أكن لأسمح لأحد بأن يحزنها بأي شكل من الأشكال ، مهما فعلت

كانت دانه دائما تتشاجر معها أو تضربها ، و كنت دائما أقف في صف صغيرتي ضد أي كان …

ترى … هل تذكر هي ذلك ؟؟ أم أنني أصبحت من الماضي المنسي … و الأحلام الوهمية … و الذكريات المهجورة ؟؟

حاولت النوم و لم استطع ، لذا عدت إلى غرفة المعيشة فوجدت والديّ و رغد هناك …

تبادلنا بعض الأحاديث عن عريس دانة ، و هو لاعب كرة ذاع صيته و اشتهر في الآونة الأخيرة …

قلت :

” و لكن ألا تفكر في متابعة دراستها ؟ إنها لا تزال صغيرة على الزواج ! ”

قال أبي :

” لا تريد الدراسة ، و هو عريس جيد ! كما و أنها في سن مناسب ! فليوفقهما الله ! ”

لحظات و إذا بسامر يحضر ، و يحظى بترحيب لا يقل حرارة عن ترحيبهم بي …

بدأ سامر بأكبرنا ، ثم حين جاء دوري ، صافحني بحرارة و شوق كبيرين جدا … و أطال عناقي الأخوي …

أشعرني هذا بقربه مني ، بعدما فرقت السنين بيننا … و بأنني لازلت أملك عائلة تحبني و ترغب في وجودي في أحضانها …

شيء رفع من معنوياتي المتدهورة

لكن …

سرعان ما انحطت هذه المعنويات و اندفنت في لب الأرض تحت آلاف الطبقات من الحجر و الحديد و الفولاذ ، حين أقبل إلى رغد يصافحها و يضمها إلى صدره و يقبل جبينها بكل بساطة …

لو كنت بركانا … أو قنبلة … أو قذيفة نارية ، لكنت انفجرت لحظتها و دمرت كوكب الأرض بأسره و نسفته نسفا و حولته إلى مسحوق غبار

لكنني كنت وليد

أو بالأصح …

شبح وليد …

ما الذي دعاني لتمالك نفسي ؟؟ لا أعرف …

لقد كان باستطاعتي أن أحطم رأس أي مخلوق يقف أمامي شر تحطيم

و لو ضربت الجدار بقبضتي هذه لسببت زلزالا مدمرا و لهوى السقف و قضى علينا جميعا …

لكنني اكتفيت بان أحفر أسناني من شدة الضغط ، و أمزق أوتار يدي من قوة القبض …

 

ليت أمي لم تلدك يا سامر

ليتك تتحول إلى أي رجل آخر في العالم ، لكنت استأصلت روحك من جسدك و مزقتك خلية خلية …

” أين العروس ؟؟ ”

سأل أخى و هو لا يزال ممسكا بيد رغد …

” في غرفتها ! تتزين ! ”

قالت رغد ، فقال :

” سأذهب لرؤيتها ”

و شد رغد يحثها على السير معه … و ذهب الاثنان و غابا عن ناظري …

ليتني لم أعد

أي جنون هذا الذي جعلني أعود فاحترق ؟؟ إنني أكاد انفجر

هل يحس أحد بي ؟؟

سمعت أمي تقول :

” ما بك وليد ؟ أ أنت متعب بني ؟؟ ”

متعب ؟؟

فقط متعب ؟؟

ابتعدوا عني و إلا فأنني سأحرقكم جميعا !

رميت بجسدي المشتعل على المقعد و أخذت أتنفس بعمق أنفاس متلاحقة عل الهواء يبرد شيئا مما في داخلي

م&
رواية انت لي

الحلقة السادسة عشر

 

لقد قضيت خمسة أيام في بيت عائلتي ، كان يمكن أن تكون من أجمل أيام حياتي … لكنها كانت من أسوأها

كنت أود الرحيل عنهم في أقرب فرصة ، لكنني اضطررت كارها للبقاء بإلحاح من أبي و أمي

سامر غادر يوم الجمعة ، و قد ودعته وداعا باردا … و غادرت أنا صباح الثلاثاء التالي باكرا .

خلال تلك الأيام الخمسة …

كنت أتحاشى الالتقاء برغد قدر الإمكان و لا أنظر أو أتحدث إليها إلا للضرورة

و هي الأخرى ، كانت تلازم غرفتها معظم الوقت و تتحاشى الحديث معي ، خصوصا بعد أن قلت لها :

” هل تسرقين ؟ ”

اعترف بأنني كنت فظا جدا ألا أنني لم أجد طريقة أفضل لأعبر بها عن غضبي الشديد و مرارتي لفقدها

في آخر الأيام ، طلبت مني والدتي اصطحاب رغد إلى المكتبة لتشتري بعض حاجياتها .

لم أكن لأفعل ذلك ، غير أنني شعرت بالحرج … إذ أن والدي كان قد عاد قبل قليل من العمل و يسترخي … فيما أنا أنعم بالراحة و الكسل ، دون مقابل …

و ربما كان ذلك ، نوعا من الإعتذار …

في ذلك اليوم كان نوار في زيارة مطولة لشقيقتي ، و مدعو للعشاء معها !

ذهبنا أنا و رغد إلى تلك المكتبة العظمى المترامية الأطراف …

رغد توجهت إلى الزاوية الخاصة ببيع أدوات الرسم و التلوين و خلافها … و بدأت تتفرج و تختار ما تريد …

و على فكرة ، علمت أنها رسامة ماهرة …

لكم كانت تعشق التلوين منذ الصغر !

أخذت أتفرج معها على حاجيات الرسم و التلوين … ثم انعطفت في طريقي ، مواصلا التفرج … و لم يعد باستطاعتي رؤية رغد أو باستطاعتها رؤيتي

شغلت بمشاهدة بعض الرسوم المعلقة أعلى الحائط و ما هي إلا ثوان حتى رأيت رغد تقف بجواري !

قلت :

” رسوم جميلة ! ”

” نعم . سأشتري الألوان من هناك ”

و أشارت إلى الناحية الأخرى التي قدمنا منها … فعدت معها …

انهمكت هي باختيار الألوان و غيرها ، فسرت أتجول و أتفرج على ما حولي حتى بلغت زاوية أخرى فانعطفت …

مضت ثوان معدودة ، و إذا بي أسمع صوت رغد يناديني مجددا …

استدرت للخلف فرأيتها تقف قربي !

و بيني و بينها مسافة بضع خطوات

تخيلت أنها تريد قول شيء ، فسألتها :

” هل انتهيت ؟؟ ”

قالت :

” لا ”

تعجبت !

قلت :

” إذن ؟؟ ”

قالت :

” لا تبتعد عني ”

يا لهذه الفتاة !

قلت :

” حسنا ! ”

و مضيت ُ معها إلى حيث كانت أغراضها موضوعة على أحد الأرفف

رأيتها تأخذ أغراضا أخرى كثيرة ، فتلفت من حولي بحثا عن سلة تسوق ، و لم أجد . ذهبت لأبحث عن سلة فإذا بي أسمعها تناديني :

” وليد ”

قلت :

” سأحضر سلة لحمل الأغراض ”

فإذا بها تترك ما بيدها و تأتي معي !

عدنا مجددا للأغراض ، و تابعت هي اختيار ما تشاء، و تجولت أنا حتى بلغت ناحية الكتب …

الكثير من الكتب أمام عيني !

يا له من بحر كبير ! كم أنا مشتاق للغطس في أعماقه !

لم أكن قد قرأت ُ كتابا منذ مدة طويلة … أخذت أتفرج عليها و أتصفح بعضها … و انتقل من رف إلى آخر ، و من مجموعة إلى أخرى … حتى غرقت في البحر حقا !

كانت أرفف الكتب مصفوفة على شكل عدة حواجز تقسم المنطقة …

و الكثير من الناس ينتشرون في المكان و يتفرجون هنا أو هناك …

دقائق ، و إذا بي أسمع صوت رغد من مكان ما !

كان صوتها يبدو مرتبكا أو قلقا … لم أكن في موقع يسمح لي برؤيتها … فسرت بين الحواجز بحثا عنها و أنا أقول :

” أنا هنا ”

و لم أسمع لها صوتا !

أخذت ُ ألقي نظرة بين الحواجز بحثا عنها

ثم وجدتها بين حاجزين …

” أنا هنا ! ”

حينما رأتني رغد أقبلت نحوي مسرعة تاركة السلة التي كانت تحملها تقع على الأرض و حين صارت أمامي مباشرة فوجئت بها تمسك بذراعي و ترتجف !

كانت فزعة !!

وقفت أمامي ترتعش كعصفور مذعور !

نظرت إليها بذهول … قلت :

” ما بك ؟؟ ”

قالت و هي بالكاد تلتقط بعض أنفاسها :

” أين ذهبت ؟ ”

أجبت :

” أنا هنا أتفرج على الكتب ! … ما بك ؟؟ ”

رغد ضغطت على ذراعي بقوة … و قالت بفزع :

” لا تتركني وحدي ”

نظرت ُ إليها بشيء من الخوف ، و القلق … و الحيرة …

فقالت :

” لا تدعني وحدي … أنا أخاف ”

لكم أن تتصوروا الذهول الذي علاني لدى سماعي لها تقول ذلك … و رؤيتها ترتجف أمام عيني بذعر …

لقد ذكرني هذا الموقف ، باليوم المشؤوم …

قلت :

” أ أنت ِ … بخير ؟؟ ”

فعادت تقول :

” لا تتركني وحدي … أرجوك … ”

لم يبدُ لي هذا تصرفا طبيعيا … توترتُ خوفا و قلقا … و تأملتها بحيرة …

سرنا باتجاه السلة ، فأردت سحب ذراعي من بين يديها لحمل السلة و إعادة المحتويات إلى داخلها … لكنها لم تطلقها بسهولة …

و عوضا عن ذلك تشبثت بي أكثر ثم بدأت بالبكاء …

لم يكن موقفا عاديا ، لذا فإن أول شيء سألت أمي عنه بعد عودتنا للبيت :

” ما الذي جعل رغد تفزع عندما تركتها في المكتبة و ابتعدت قليلا ؟؟ ”

أمي نظرت إلي باهتمام … ثم قالت :

” ماذا حدث ؟؟ ”

” لا شيء … ذهبت ألقي نظرة على الكتب و بعد دقائق وجدتها ترتجف ذعرا ! ”

عبس وجه والدتي ، و قالت :

” و لماذا تتركها يا وليد ؟ قلت لك … انتبه لها ”

أثار كلام أمي جنوني ، فقلت :

” أمي … ماذا هناك ؟؟ ما لأمر ؟؟ ”

قالت أمي بمرارة :

” لديها رهبة مرضية من الغرباء … تموت ذعرا إذا لم تجد أحدنا إلى جانبها … إنها مريضة بذلك منذ سنين … منذ رحيلك يا وليد ! ”

لقد صدمت بالنبأ صدمة هزت كياني و وجداني …

أخبرتني أمي بتفاصيل حدثت للصغيرة بعد غيابي … و الحالة المرضية التي لازمتها فترة طويلة و الذعر الذي ينتابها كلما وجدت نفسها بين غرباء …

لم يكن صعبا علي أن أربط بين الحادث المشؤوم و حالتها هذه

و كم تمنيت …

كم تمنيت …

لو أن عمّار يعود للحياة … فأقتله … ثم أقتله و أقتله ألف مرة …

إنه يستحق أكثر من مجرد أن يقتل ….

قالت أمي :

” و عندما توالت الهجمات على المنطقة ، اشتد عليها الذعر و المرض … و وجدنا أنفسنا مضطرين للرحيل مع من رحل عن المدينة … لم يكن الرحيل سهلا ، لكن العودة كانت أصعب … قضيت معها فترات متفرقة في المستشفى … لم تكن تفارقني لحظة واحدة ! بمشقة قصوى ذهب والدك و شقيقك لزيارتك في العاصمة ، تاركين الطفلة المريضة و أختها في رعايتي في المستشفى ، إلا أنهما منعا من الزيارة و أبلغا أن الزيارة محظورة تماما على جميع المساجين ! ”

و أمي تتحدث و أنا رأسي يدور … و يدور و يدور … حتى لف المجرة بأكملها

تساؤلات كان تملأ رأسي منذ سنين ، و جدت إجابة صاعقة عليها دفعة واحدة …

أسندت رأسي إلى يدي …

رأتني أمي أفعل ذلك فقالت :

” بني … أ أنت بخير ؟؟ ”

رفعت يدي عن رأسي و قلت :

” و لماذا … لماذا زوجتموها لسامر و هي بذلك السن المبكر جدا ؟؟ ”

قالت :

” لمن كنت تظننا سنسلم ابنتنا ؟؟ إنها تموت ذعرا لو ابتعدت عنا … هل تتصور أنها تستطيع الخروج من هذا المنزل ؟؟ لا تخرج في مكان عام إلا بوجود أبيك أو سامر … كانت ستتزوجه إن عاجلا أم آجلا … فرفعنا الحرج عنهما لبقائهما في بيت واحد ”

قلت :

” لكن يا أمي … إنها … إنها …. ”

و لم تخرج الكلمة المعنية …

أتممت :

” إنها صغيرة جدا … ما كان يجب أن تقرروا شيئا كهذا … ”

و تابعت :

” كان يجب … كان يجب … إن … ”

و لم أتم …

ماذا عساي أن أقول … ؟؟ لقد فات الأوان و انتهى كل شيء …

لكن الأمور بدت أكثر وضوحا أمامي …

هممت بالذهاب إلى غرفة سامر التي أستغلها ، من أجل تنفس الصعداء وحيدا …

توقفت قبل مغادرتي لغرفة المعيشة حيث كنا أنا و أمي …

التفت إليها و قلت :

” أ لهذا لم تخبروها بأنني دخلت السجن ؟؟؟ هل أخبرتموها أنني … لن أعود ؟؟ ”

والدتي قالت :

“أخبرناها بأنك قد تعود … و لكن … بعد عشرين عاما … و قد لا تعود … ”

كانت أمي تبكي …

بينما قلبي أنا ينزف …

قلت :

” و لكنني عدت … ”

والدتي مسحت دموعها وابتسمت ، ثم تلاشت الابتسامة عن وجهها … و نظرت إلي باهتمام و قلق …

قلت :

” و يجب أن أرحل ”

و تابعت طريقي إلى غرفة سامر …

فضول لم استطع مقاومته ، و قلق شديد بشأنها دفعني للاقتراب من غرفة رغد المغلقة … و من ثم الطرق الخفيف …

” أنا وليد ”

بعد قليل … فتح الباب …

كنت أقف عن بعد … أطلت رغد من الداخل و نظرت إلي

رأيت جفونها الأربعة متورمة و محمرة أثر الدموع

قلت :

” صغيرتي … أنا آسف … ”

ما إن قلت ذلك … حتى رفعت رغد يديها و غطت وجهها و أجهشت بكاءا

زلزلني هذا المشهد … كنت أسمع صوت بكائها يذبذب خلايا قلبي قبل طبلتي أذني ّ

قلت بعطف :

” رغد … ”

رغد استدارت للخلف و أسرعت نحو سريرها تبكي بألم …

بقيت واقفا عند الباب لا أقوى على شيء … لا على التقدم خطوة ، و لا على الانسحاب …

” رغد يا صغيرتي … ”

لم تتحرك رغد بل بقيت مخفية وجهها في وسادتها تبكي بمرارة … و يبكي قلبي معها …

” رغد … أرجوك كفى … ”

ثم قلت :

” توقفي أرجوك … لا احتمل رؤية دموعك ! ”

و لم تتحرك رغد …

تقدمت خطوة واحدة مترددة نحو الداخل … و نظرت إلى ما حولي بقلق و تردد …

المرآة كانت على يميني ، و حين تقدمت خطوة رأيت صورتي عليها … و حين التفت يسارا … رأيت صورتي أيضا !

فوجئت و تعلقت عيناي عند تلك الصورة !

لقد كانت رسمة لي أنا على لوحة ورقية ، لم تكتمل ألوانها بعد !

نقلت بصري بين رغد الجالسة على السرير تغمر وجهها في الوسادة ، و صورتي على الورقة !

كيف استطاعت رسمي بهذه الدقة !؟ و بمظهري الحالي … فأنفي محفور كما هو الآن !

كيف حصلت على صورة لي لترسمها ، أم أنها رسمتها من خلال المرات القليلة العابرة التي نظرت فيها إلي … !؟

” يشبهني كثيرا ! أنت بارعة ! ”

ما إن أنهيت جملتي حتى قفزت رغد بسرعة ، و عمدت إلى اللوحة فغطتها بورقة بيضاء بسرعة و ارتباك !

ثم بعثرت أنظارها في أشياء كثيرة … بعيدا عني … و أخذت تفتح علب الألوان الجديدة التي اشترتها من المكتبة باضطراب …

رجعت للوراء … لم أكن أملك فكرة لما علي فعله الآن ! ماذا علي أن أفعل ؟؟

أظن … أن علي الخروج حالا

الجملة التي ولدت على لساني هذه اللحظة كانت :

” أحب أن أتفرج على رسوماتك ! ”

و لكن أهذا وقته !

رجعت خطوة أخرى للوراء و أضفت :

” لاحقا طبعا … إذا سمحت ِ ”

رغد توجهت نحو مكتبتها و أخرجت كراسة رسم كبيرة ، و أقبلت نحوي و مدتها إلي …

في هذه اللحظة التقت نظراتنا

كان بريق الدموع لا يزال يتلألأ في عينيها الحمراوين ، ينذر بشلال جارف …

أخذت الكراسة ….

و قلت و قلبي يتمزق :

” لا تبكي أرجوك … ”

لكن الدمعة فاضت … و انسكبت … و انجرفت … تقود خلفها جيشا من الدموع المتمردة …

” رغد … سألتك ِ بالله كفى … أرجوك … ”

” لا أستطيع أن أتغلب على ذلك … كلهم مرعبون … مخيفون … أشرار … يريدون اختطافي ”

و انفجرت رغد في بكاء مخيف … هستيري … قوي … و ارتجفت أطرافي ذعرا و غضبا و قهرا كدت أصرخ بسببه صرخة تدوي السماء …

أراها أمامي كما رأيتها ذلك اليوم المشؤوم … و أضغط على الكراسة في يدي و أكاد أمزقها …

تمنيت لو أستطيع تطويقها بين ذراعي بقوة … كما فعلت يومها … لكنني عجزت عن ذلك

تمنيت لو …

لو أخرج جثة عمار من تحت سابع أرض … و أقتله ، ثم أمزقه قطعة قطعة … خلية خلية … ذرة ذرة …

لو يعود الزمن للوراء … لكنت قتلته في عراكي معه آخر مرة … و لم أدع له الفرصة ليعيش و يؤذيك …

إنني كنت ُ السبب …

نعم أنا السبب …

و قد انتقم مني أبشع انتقام …

و أي انتقام ؟؟

ثمن بقيت أدفعه منذ ذلك اليوم ، و حتى آخر لحظة في حياتي البائسة …

ما ذنب صغيرتي في كل هذا …؟

خسئت أيها الوغد …

هنا أقبلت أمي التي يبدو أنها سمعت بكاء رغد … و وقفت إلى جانبي لحظة تنقل نظرها بيني و بين رغد ، ثم تقدمت إلى رغد

” عزيزتي ؟؟ ”

رغد ارتمت بقوة في حضن والدتي … و هي تبكي بألم صارخ … و تقول بين دموعها :

” لا تتركوني وحدي … لا تتركوني وحدي … ”

أمي طوقت رغد بحنان و أخذت تربت عليها بعطف و تهدئها …

ثم نظرت إلى باستياء و قالت :

” لماذا يا وليد ؟؟ ”

 

في غرفة سامر ، أجلس على السرير ، أقلب صفحات كراسة رغد …

الكثير من الرسومات الجميلة …لأشياء كثيرة … ليس من بينهم صورة لأحد أفراد العائلة غير دانة !

صورة لها و هي صغيرة و غاضبة !

و العديد من صور أشياء خيالية … و أشباح !

لا أعرف ما الذي تقصده بها …

كانت ساعتان قد انقضتا مذ خرجت من غرفتها تاركا إياها تهدأ في حضن والدتي

الآن أسمع طرقا على الباب

” تفضل ”

و دخلت والدتي

” وليد … العشاء جاهز ”

تركت الكراسة على السرير و خرجت مع أمي قاصدين غرفة الطعام . قبل أن نصل، همست أمي لي :

” وليد … لا تثر ذلك الأمر ثانية رجاءا ”

فأومأت برأسي موافقا .

و لم أسمح لنظراتي أن تلتقي بعيني رغد أو للساني أن يكلمها طوال الوقت .

بعد ذلك ، ذهبت مع أبى نتابع آخر الأخبار عبر التلفاز ، في غرفة المعيشة

لا يزال الدمار ينتشر … و الحرب التي هدأت نسبيا لفترة مؤقتة عادت أقوى و أعنف … و أخذت تزحف من قلب البلدة إلى الجهات الأربع …

تم غزو مدينتين أخريين مؤخرا ، لم تكن الحرب قد نالت منهما حتى الآن … و تندرج المدينة الصناعية التي نحن فيها الآن ، في قائمة المدن المهددة بالقصف …

كنت مندمجا في مشاهدة لقطات مصورة عن مظاهرات متفرقة حدثت صباح اليوم في مدن مختلفة من بلدنا …. و رؤية العساكر يضربون المدنيين و يقبضون على بعضهم …

منظر مريع جعل قلبي ينتفض خوفا … و أثار ذكريات السجن المؤلمة المرعبة …

في هذا الوقت ، أقبلت رغد تحمل مجموعة من الكراسات و اللوحات الورقية ، و جاءت بها إلي !

” تفرج على هذه أيضا … هذا كل ما لدي ”

وضعتُ الكراسات على المنضدة المركزية ، و جلست رغد على مقعد مجاور لمقعدي … تراقبني و تنتظر تعليقاتي حول رسوماتها الجميلة …

إن عيني كانت على الرسومات ، إلا أن أذني كانت مع التلفاز !

بعدما فرغت من استعراض جميع الرسومات قلت :

” رائعة جدا ! أنت فنانة صغيرتي ! أهذا كل شيء ؟؟ ”

رغد ابتسمت بخجل و قالت :

” نعم … عدا اللوحة الأخيرة ”

و أخفت أنظارها تحت أظافر يديها !

لماذا قررت رغد رسمي أنا ؟ و أنا بالذات !؟؟

إنها لم ترسم أحدا من أفراد عائلتي … فهاهي الرسومات أمامي و لا وجود لسامر مثلا فيما بينها !

قلت :

” متى تنهينها ؟ ”

لا زالت تتأمل أظافرها و كأنها تراهم للمرة الأولى !

قالت :

” غدا أو بعد الغد … ”

قلت :

” خسارة ! لن أراها كاملة إذا ! ”

رفعت رغد عينيها نحوي فجأة بقلق ، ثم قالت :

” لماذا ؟ ”

أجبت :

” لأنني … سأرحل غدا باكرا … كما تعلمين ! ”

اختفى صوت الأخبار فجأة ، التفت إلى التلفاز فإذا به موقف ، ثم إلى أبي ، و الذي كان يحمل جهاز التحكم في يده ، فرأيته ينظر إلي بعمق … و إلى أمي فوجدتها متسمرة في مكانها ، تحمل صينية فناجين و إبريق الشاي …

و كنت شبه متأكد ، من أنني لو نظرت إلى الساعة لوجدتها هي الأخرى متوقفة عن الدوران !

حملق الجميع بي … فشعرت بالأسى لأجلهم … كانت نظرات الاعتراض الشديد تقدح من أعينهم

أول من تحدث كان أمي :

” ماذا وليد ؟؟ و من قال أنك سترحل من جديد ؟؟ ”

صمت قليلا ثم قلت :

” قلت ذلك منذ أتيت … انتهت الزيارة و لابد لي من العودة ”

قال والدي مقاطعا :

” ستبقى معنا يا بني ”

هززت رأسي ، و قلت :

” و العمل ؟؟ ماذا أفعل ببقائي هنا ؟؟ ”

و دار نقاش طويل حول هذا الموضوع ، و بدأت أمي بالبكاء ، و رغد كذلك !

و حين وصلت دانة ـ و التي كانت لا تزال تتناول العشاء مع خطيبها في غرفة الضيوف ، و جاءت تسأل أمي عن الشاي ، و رأت الوجوم على أوجهنا ثم عرفت السبب ـ بكت هي الأخرى !

أردت أن أختصر على نفسي و عليهم آلام الوداع .. سرعان ما قلت :

” سأخلد للنوم ”

و ذهبت إلى غرفة سامر

أخذت أقلب كراسة رغد مجددا …

كم أثارت ذكريات الماضي … كم كانت شغوفة بالتلوين ! لقد كنت ألون معها ببساطة ! كم أتمنى لو … تعود تلك الأيام …

جمعت أشيائي في حقيبة سفري الصغيرة التي جئت بها من مدينتي

ضبطت المنبه ليوقظني قبل أذان الفجر بساعة …

كنت أريد أن أخرج دون أن يحس أحد بذلك ، لئلا تبدأ سلسلة عذاب الفراق و ألم الوداع … كالمرة السابقة …

و حين نهضت في ذلك الوقت ، تسللت بهدوء و حذر خارجا من المنزل …

كان السكون يخيم على الأجواء … و الكون غارق في الظلام الموحش … إلا عن إنارة خافتة منبعثة من المصباح المعلق فوق الباب

خرجت إلى الفناء الخارجي ، و كان علي أن أترك الباب غير موصد … و سرت إلى البوابة الخارجية … فإذا بي أسمع صوت الباب يفتح من خلفي ..

استدرت إلى الوراء … فإذا بي أرى رغد تطل من فتحة الباب !

صمدت في مكاني مندهشا !

رغد أخذت تنظر إلى و إلى الحقيبة التي في يدي … ثم تهز رأسها اعتراضا … ثم تقبل إلي مسرعة …

” وليد … لا … لا ترحل أرجوك ”

حرت و لم يسعفني لساني بكلمة تناسب مقتضى الحال … سألتها :

” لم … أنت مستيقظة الآن ؟؟ ”

رغد حدقت بي مدة ، و بدأت الدموع تنحدر من محجريها …

” أوه … كلا أرجوك ! ”

قلت ذلك بضيق ، فأنا قد خرجت في هذا الوقت خلسة هروبا من هذا المنظر …

إلا أن رغد بدأت تبكي بحدة …

” لا تذهب وليد أرجوك … أرجوك … ابق معنا ”

قلت :

” لا أستطيع ذلك … أعني … لدي عمل يجب أن أعود إليه ”

و في الحقيقة ، لدي واقع مر يقف أمامي … علي أن أهرب منه …

رغد تهز رأسها اعتراضا و استنكارا … ثم تقول :

” خذني معك ”

ذهلت لهذه الجملة المجلجلة ! و اتسعت حدقتا عيني دهشة …

رغد قالت :

” أريد أن أعود إلى بيتنا ”

” رغد !! ”

دخلت رغد في نوبة بكاء متواصل ، خشيت أن يخترق صوتها الجدران فيصل إلى البقية و يوقظهم … و نبدأ دوامة جديدة من الدموع …

قلت :

” رغد … أرجوك كفى … ”

رغد قالت بانفعال ، و صوتها أقرب للنوح منه إلى الكلام :

” أنا … وفيت بوعدي … و لم أخن اتفاقنا … لكنك كذبت علي … و لم تعد … و الآن بعد أن عدت … تبادر بالرحيل … و تنعتني أنا بالخائنة ؟ إنك أنت الخائن يا وليد … تتركني و ترحل من جديد ”

كالسم … دخلت هذه الكلمات إلى قلبي فقتلته … و زلزلتني أيما زلزلة …

قلت مندهشا غير مستوعب لما التقطت أذناي من النبأ الصاعق :

” لم … لم … تخبري أحدا … ؟؟ ”

رغد هزت رأسها نفيا …

قلت بذهول :

” و لا … حتى … سامر ؟؟ ”

و استمرت تهز رأسها نفيا و بألم …

فشعرت بالدنيا هي الأخرى تهتز و ترتجف من هول المفاجأة … تحت قدمي ّ

قالت :

” كنت ُ أنتظر أن تعود … لكنهم أخبروني أنك لن تعود … و لا تريد أن تعود … و كلما اتصلت بهاتفك … وجدته مقفلا … و لم تتصل لتسأل عني و لا مرة طوال هذه السنين … لماذا يا وليد ؟؟ ”

لحظتها تملكتني رغبة مجنونة بأن أضحك … أو … أو حتى أن أتقيأ من الصدمة !

لكن …

ما الجدوى الآن …

كبتّ رغبتي في صدري و معدتي ، و رفعت نظري إلى السماء … أُشهد ملائكة الليل على حال ٍ ليس لها مثيل …

و حسبي الله و نعم الوكيل …

سمعت صوت تغريد عصفور شق سكون الجو … و نبهني للوقت الذي يمضي …

و الوقت الذي قد مضى …

و الوقت القادم المجهول …

كم سخرت الدنيا مني … فهل من مزيد ؟؟؟

” صغيرتي … أنا ذاهب … ”

رغد ظلت تنظر إلي و تبكي بغزارة … و لم يكن باستطاعتي أن أمسح دموعها …

استدرت موليا إياها ظهري … لكن صورتها بقيت أمام عيني مطبوعة في مخيلتي …

سرت خطى مبتعدا عنها … نحو البوابة الرئيسية للفناء ، و فتحتها …

قلت :

” اقفلي الباب من بعدي .. ”

دون أن التفت نحوها … فهو دوري لأذرف الدموع … التي لا أريد لأحد أن يراها و يسبر غورها …

” وليــــــــــد ”

و كعصفور يطير بحرية … بلا قيود و لا حدود … و لا اعتبار لأي شيء … أقبلت نحوي …

استدرت … و تلقيت سهما اخترق صدري و ثقب قلبي … و بعثر دمائي و مشاعري في لحظة انطلقت فيها روحي تحلق مع الطيور المرفرفة بأجنحتها … احتفالا بمولد يوم جديد …

 

 

منذ الساعة التي أجريت فيها المقابلة الشخصية ، و طرح علي السؤال عن خبراتي و مؤهلاتي و عملي في السابق ، أدركت أن الأمر لن يكون يسيرا …

حصلت على الوظيفة رغم ذلك بتوصية حادة من صديقي سيف ، الذي ما فتئ يشجعني و يحثني على السير قدما نحو الأمام

و خلال الأشهر التالية ، واجهت الكثير من المصاعب … مع الآخرين .

بطريقة ما انتشر نبأ كوني خريج سجون بين الموظفين ، و تعرضت للسخرية و المعاملة القاسية من قبل أكثرهم

كنت أعود كل يوم إلى المنزل مثقلا بالهموم ، و عازما على عدم العودة للشركة مجددا ، إلا أن لقاءا قصيرا أو مكالمة عابرة مع صديقي سيف تنسيني آلامي و تزيح عني تلك الهموم …

أصبح صديقي سيف هو باختصار الدنيا التي أعيشها …

توالت الأشهر و أنا على هذه الحال ، و كنت أتصل بأهلي مرتين أو ثلاث من كل شهر … اطمئن على أحوالهم و أحيط علما بآخر أخبارهم

علمت أن رغد التحقت بكلية الفنون و أن دانه قد حددت موعدا لزفافها بعد بضعة أشهر .. و أن والديّ يعتزمان تأدية الحج هذا العام …

أما سامر ، فقليلا جدا ما كنت أتحدث إليه ، حين أتصل و يكون صدفة متواجدا في المنزل ، إذ انه كان يعمل في مدينة أخرى …

في الواقع ، أنا من كان يتعمد الاتصال في أيام وسط الأسبوع أغلب الأوقات .

لقد تمكنت بعد جهد طويل ، من طرد الماضي بعيدا عن مخيلتي ، إلا أنني لازلت احتفظ بصورة رغد الممزقة موضوعة على منضدتي قرب سريري ـ إلى جانب ساعتي القديمة ـ ألمها ثم أبعثرها كل ليلة !

حالتي الاقتصادية تحسنت بعض الشيء ، و اقتنيت هاتفا محمولا مؤخرا ، إلا إنني تركت هاتف المنزل مقطوعا عن الخدمة .

أما أوضاع البلد فساءت عما كانت عليه … و أكلت الحرب مدنا جديدة …

و أصبح محظورا علينا العبور من بعض المناطق أو دخول بعض المدن …

في مرات ليست بالقليلة نتبادل أنا و سيف الزيارة ، و نخرج سوية في نزهات قصيرة أو مشاوير طويلة ، هنا أو هناك …

في إحدى المرات ، كنت مع صديقي سيف في مشوار عمل ، و كنا نتأمل مشاهد الدمار من حولنا …

الكثير الكثير من المباني المحطمة … و الشوارع الخربة …

مررنا في طريقنا بأحد المصانع ، و لم يكن من بين المباني التي لمستها يد الحرب … فتذكرت مصنع والدي الذي تدمر …

قلت :

” سبحان الله ! نجا هذا من بين كل هذه المباني المدمرة ! ألا يزال الناس يعملون فيه ؟؟ ”

أجاب سيف :

” نعم ! إنه أهم مصنع في المنطقة يا وليد ! ألا تعرفه ؟ ”

” كلا ! لا أذكر أنني رأيته مسبقا ! ”

ابتسم سيف و قال :

” إنه مصنع عاطف … والد عمّار … يرحمهما الله ! ”

دهشت ! فهي المرة الأولى التي أرى فيها هذا المبنى … !

أخذت أتأمله بشرود … ثم ، انتبهت لكلمة علقت في أذني …

” ماذا ؟ رحمهما الله ؟؟ ”

سألت سيف باستغراب ، معتقدا بأنه قد أخطأ في الكلام … قال سيف :

” نعم … فعاطف قد توفي العام الماضي … رحمه الله “حل

عرض التعليقات (20)