روايه انت لي الحلقه 39 جزء 1 و 2 و 3
روايه انت لي الحلقه 39 جزء 1 و 2 و 3
رواية انت لي
الحلقة التاسعة و الثلاثون الجزء 1
صرخت فجأة و نحن ننحرف عن مسارنا و نصطدم بقوة بعمود إنارة … ارتطم جسمي بمقعد وليد و لكني لم أصب بأذى…
توقفت السيارة عن الحركة و رفعت رأسي فرأيت رأس وليد على المقود…
شعرت بالفزع و صرخت :
” وليد… ”
و لكنه لم يتحرّك …
مددت يدي نحو كتفه و أخذت أضربه و أنا مستمرة في نداءاتي لكنه لم يستجب…
حركت يدي نحو رأسه و ضربت بقوة أكبر…
” وليد… أجبني أرجوك…. وليد أرجوك… ”
صدرت أنة من حنجرته و تحرك قليلا…
” وليد أجبني… أتسمعني ؟؟ أرجوك رد علي ”
أصابني الهلع الشديد… خرجت من السيارة مسرعة فتدفق الهواء بعنف إلى الداخل… كان الجو عاصفا باردا ماطرا… أقبلت إلى الباب الأمامي الأيمن و أردت فتحه فوجدته موصدا…
عدت إلى الداخل عبر الباب الذي خرجت منه و فتحت قفل الباب الأمامي، ثم خرجت و دخلت عبر الباب الأمامي… و جلست قرب وليد… مبللة… بردى… مرعوبة… مفزوعة… أرتجف…
مددت يدي و رفعت رأسه عن المقود فرأيت سيل من الدماء يتدفق من أنفه المعقوف فصعقت… و أطلقت صيحة شاهقة… أسندت رأسه إلى الوراء ثم رحت أضرب خديه في ذعر… و ما بي ذرة واحدة من القوة…
و بصوت أشك أنه خرج من حنجرتي أصلا هتفت :
” وليد… وليد أجبني… أرجوك وليد… أجبني ”
وليد فتح عينيه أخيرا و تأوه… ثم رفع يده اليسرى و وضعها على جبينه و قطب حاجبيه بألم…
قلت بلهفة:
” وليد… هل أنت بخير ؟؟ ”
و لا أعرف إن كان سمعني أم لا…
تلفت يمنة و يسرة ببطء و ناداني بصوت متحشرج :
” رغد… ”
قلت بسرعة :
” وليد أنا هنا… ”
و حركت يدي لأمسك بيده اليمنى… لأشعره بوجودي… فشد هو ضغطه على يدي و أغمض عينيه يعصرهما عصرا… و يئن…
هتفت فزعة:
” وليد… وليد … كلّمني ”
فتح عينيه و نظر إلي و أخذ يلتقط بعض الأنفاس المخنوقة ثم قال :
” أأنت بخير ؟ ”
لم استطع الرد من شدة الفزع
وليد شد ّ الضغط على يدي و تأوه ثم قال :
” أنا مرهق جدا … سأرتاح قليلا…”
و حرر يدي و حرك يده نحو المقود و أوقف محرك السيارة فيما رأسه لا يزال ملتصقا بمسند المقعد دون حراك… ثم أغمض عينيه و هوت يده مرتطمة بأي شيء… و استقرت قرب يدي… تحركت أصابعه و أمسكت بيدي مجددا … ثم سكن عن الحركة و بدا لي و كأنه… فقد وعيه…
قلت بهلع:
” وليد… أأنت بخير ؟ ”
لم يستجب… هززت يده و كررت :
” وليد… رد علي ! ”
فأطلق أنّه خفيفة ضعيفة… أحسست بها تخرج من أعماق صدره…
” وليد… كلمني أرجوك… ”
تكلم وليد من طرف لسانه دون حتى أن يحرك شفتيه :
” لا تخافي… رغد ”
و شد على يدي… ثم سكن عن الكلام و الحركة…
راقبته فرأيت صدره يلهث بأنفاس قوية تتحرك عبر فمه… يكاد بخارها يغشي زجاج السيارة … أما أنفه فقد كان لا يزال ينزف… و قطرات الدم تقطر من أسفل فكّه لتتلقاها ملابسه و تشربها بشراهة…
منظر أفزعني حد الموت…
هتفت بما كان قد تبقى لحبالي الصوتية من قدرة على النطق :
” وليد… أنفك… ينزف … ”
لم يجب…
” وليد… ”
و لم يرد
” وليد… رد علي … أرجوك ”
و أحسست بيده تضغط علي قليلا… ثم تسترخي…
كانت دافئة جدا… و رطبة…
تناولت بعض المناديل و قرّبتها من وجهه… و توقفت برهة مترددة … أنظر إلى مجرى الدماء ينسكب من أنفه… إلى شفتيه المفتوحتين… إلى ذقنه… تكاد قطرات منها تتسلل إلى فمه ممتزجة مع الأنفاس الساخنة… دون أن يشعر بها أو ينتبه إليها…
قربت المناديل من سيل الدم و مسحته بخفة… و وليد لم يشعر بشيء… و لم يفعل أي شيء…
لم أعد أسمع غير صوت الرياح الماطرة تصفع زجاج السيارة مثيرة في نفسي رعبا منقطع النظير…
الغيوم السوداء الكثيفة تلبدت في السماء و حجبت أشعة الشمس…
قطرات المطر تزاحمت على نوافذ السيارة… و أوهمتني بالشعور بالغرق حتى أصبحت التقط أنفاسي التقاطا… و أعصر يدي ببعضهما عصرا…
أخذت أراقب كل شيء من حولي… أنفاس وليد القوية… أرواق الأشجار المتراقصة في مهب الريح… سيول المطر المنزلقة على النوافذ… و عقارب ساعة يدي تدور ببطء و سكون… و السيارات المعدودة التي مرّت بطريقنا الموحش و ربّما لسوء الطقس تجاهلتنا…
شعرت برجفة تسري في جسدي… اقتربت أكثر نحو وليد و حركت يديّ و أمسكت بذراعه ناشدة الأمان… و جفلت لحرارتها…
لم يحس وليد بي… لقد كان غارقا في النوم …
تأملت وجهه… كان شاحبا كالعشب الجاف… جليا عليه المرض… عيناه وارمتان و تحيط بهما هالتان من السواد… و بعض زخات العرق تبرق على جبينه العريض… و آثار الدم الممسوح تظهر على أنفه المعقوف و ذقنه الملتحي… و الهواء الساخن يتدفق من فمه مندفعا بقوة…
وليد قلبي… مريض…
نعم مريض !
و مريض جدا…
آنذاك… تمنيت… و ليت الأماني تتحقق فور تمنيها… تمنيت لو كان باستطاعتي… أن أمسح على رأسه أو أربت على كتفيه…
تمنيت… لو أستطيع أن أبلسم جرحه الدامي أو أنشف جبينه المتعرق …
تمنّيت … لو كنت هواء ً يمتزج بأنفاسه و يقتحم صدره… و يلامس دفأه …
تمنيت لو أعود طفلة و أرتمي بحضه… و أبكي على صدره…
لطالما كان يعتني بي حين أمرض… لطالما عالج جروحي … و سكّن آلامي… و هدّأ روعي… لطالما ربت على كتفي و مسح دموعي… و رسم الابتسامة بين خدي ّ…
لطالما حمل همومي الصغيرة… و حملني ضئيلة على ذراعيه…
تشبثت بذراعه بلا شعور مني.. و لا شعور منه…
إنْ حنينا ً إلى الماضي… أو خوفا ً من الحاضر… أو أملا ً في الغد…
تعلقت بتلك الذراع تعلق الغريق بطوق النجاة… و كأنها آخر ما تبقّى لي… من وليد قلبي…
بعد قليل… رأيت سيارة تتوقف أمامنا … فزعت … اشتد قبضي على ذراع وليد … هززتها بقوة و هتفت بانفعال :
” وليد انهض ”
لم يفق … تسارعت ضربات قلبي و اصطدمت ببعضها البعض… غرست أظافري في ذراع وليد و أنا أرى باب تلك السيارة ينفتح و صرخت بقوّة :
” وليد … انهض أرجوك… أرجوك ”
أحس وليد بشيء يعصر ذراعه… و أصدر صوت أنين مخنوق …
ثم بدأ يتحرك و أخيرا فتح عينيه…
التفت إلي ّ بجهد بالغ … دون أن يبعد رأسه عن المسند … و لما التقت نظراتنا رأيت المرض مستحوذا عليه… أيما استحواذ… رأيت القلق و الألم ينبعان من أعماق عينيه…
قلت و الفزع يصرخ في حنجرتي :
” وليد… أفق أرجوك… إنهم قادمون ”
مشيرة نحو السيارة…
وليد نظر إلى السيارة و قطب جبينه ثم قال بصوت شديد البحة بالكاد يسمع و يفهم:
” اتصلي بسامر ”
حملقت به غير مستوعبة للجملة… و كررت لأتأكد :
” سامر ؟؟ ”
وليد أغمض عينيه في ألم و قال :
” سامر… هيا يا رغد … ”
هتفت :
” وليد…. ”
في فزع و قلق شديدين…
لكنه لم يجب… لا بالكلام، و لا بالأنين، و لا حتى بطرفة عين…
هاتف وليد كان موضوعا في أحد الأرفف أمامي مباشرة، و بسرعة تناولته و اتصلت بسامر…
~~~~~~~~~
فور وصولي إليهما، تفاقم الذعر الذي كان قد أصابني مذ سمعت رغد تقول :
” الحق… يا سامر… وليد متعب جدا ”
المشوار استغرق منّي حوالي العشرين دقيقة و أنا طائر بالسيارة على الطريق البري…
الطقس في ذاك اليوم كان سيئا للغاية و مررت بأكثر من حادث مروري أثناء سيري…
سيارة وليد كانت مصطدمة بأحد المصابيح الضوئية و من الضرر الظاهر عليها يتضح أن وليد لم يكن مسرعا جدا …
أوقفت سيارتي على مقربة و خرجت مباشرة مهرولا … الجو كان عاصفا، باردا و ممطرا… و الشارع خال ٍ من السيارات…
رأيت رأس وليد مسندا إلى المقعد… و عينيه مغمضتين … و كان ساكنا عن الحراك…
أما رغد فقد كانت جالسة على المقعد المجاور له و متشبثة بذراعه… في وضع يوحي للناظر إليها أنها مفزوعة جدا
اقتربت من باب وليد و لما هممت بفتحه وجدته مغلقا… طرقت النافذة و أنا أقول :
” افتح الباب ”
و شقيقي لم يحرّك ساكنا. هتفت مخاطبا رغد و التي كانت آنذاك تراقبني في وجل :
” افتحي الباب يا رغد ”
و لم تفعل ذلك مباشرة… بل استغرقت بعض الوقت تحملق بي
ألم تستوعب بعد أنني سامر ؟؟
بمجرد أن فتحـَت هي القفل فتحتُ أنا الباب و أطللت برأسي إلى الداخل:
” وليد… أأنت بخير ؟”
و هالني أن أرى بعض الدماء تلوث أنفه و شفتيه و فكه السفلي… و حتى ملابسه…
وليد التفت نحوي ببطء و حذر و فتح عينيه ثم قال :
” أنا متعب… ”
ثم رفع يده اليسرى و وضعها على رأسه إشارة منه إلى مصدر التعب… لابد أن رأسه أصيب في الحادث… لطفك يا رب…
قلت و أنا أمد يدي إليه لمساعدته على النهوض :
” أتستطيع النهوض ؟ قم معي… ”
وليد أزاح يده عن رأسه و أشار إلى رغد و هو يخاطبها دون أن يلتفت إليها :
” تعالي رغد ”
حينما نظرت إليها رأيت الذعر يملأ قسمات وجهها و الرجفة تسري في جسدها ربما من الخوف أو من برودة الهواء المندفع بقوة عبر الباب، حاملا معه قطرات المطر…
و كانت تمسك بذراع وليد تكاد تعانقها…
إن شهورا طويلة قد مضت على لقائنا الأخير… و هذه ليست باللحظة المناسبة لأسرد لكم كيف أشعر… و لا حتى لأسمح لنفسي بأن أشعر…
ساعدت شقيقي على النهوض، و بمجرد أن وقف استند إلي، ثم فجأة تركتي و جثا أرضا و جعل يتقيأ
و أيضا رأيت الدماء تنسكب من جوفه على الأرض… ما جعلني أزداد فزعا… و ما جعل رغد تقبل نحونا مسرعة و تشهق بقوّة…
شقيقي بدا مريضا جدا… و الواضح أنه مصاب بدوار شديد لا يستطيع معه تحريك رأسه …
لا شك أن الإصابة قد شملت دماغه…
يا رب… خيب شكوكي…
بعد ذلك، أسندته إلي ّ مجددا و سرنا مترنحين نحو سيارتي… تلفحنا الرياح و يغسلنا المطر… و يقرصنا البرد… و كان وليد رغم حالته الفظيعة تلك و صوته المبحوح ذاك لا يفتأ ينادي :
” تعالي يا رغد ”
أما هذه الأخيرة فقد كانت تسير إلى جانبنا ضامّة ذراعيها إلى صدرها يعلوها الذعر… و تنساب قطرات لامعة على وجهها لا أستطيع الجزم ما إذا كانت من ماء السماء أو ماء العين…
جعلت أخي يضطجع على طول المقاعد الخلفية مثنيا ركبتيه، وقلت مخاطبا رغد :
” اركبي ”
و قد كانت لا تزال واقفة إلى جواري عند الباب الخلفي تنظر إلى وليد بهلع
و الأخير قال مؤكدا :
” اركبي يا رغد ”
عدت إلى سيارة شقيقي لإغلاقها و جلب المفاتيح و أقبلت ُ مسرعا… و فور جلوسي على المقعد نزعت نظارتي المبللة و فركت يدي ّ الباردتين ببعضهما البعض ثم التفت نحو رغد الجالسة إلى جانبي و سألتها للمرة الأولى :
” هل أنت بخير ؟؟ ”
و لكم أن تتصوروا مدى الدهشة التي تملكتها و هي تنظر إلي… !
سألتني مذهولة :
” ماذا فعلت بوجهك ؟؟ ”
” لا يهم… ماذا حصل معكما ؟؟ ”
أخبرتني رغد بأن وليد كان مريضا و لكنه قدم إلى المدينة الصناعية ليصطحبها إلى مزرعة أروى و من ثم ينطلقون إلى المدينة الساحلية من أجل العمل… و أنه كان يقود بسرعة معتدلة و بدا متعبا ثم انحرف في سيره و اصطدم بعمود المصباح… و فقد وعيه…
و أن إحدى السيارات قد توقفت للمساعدة لكن وليد صرف راكبيها و لم يسمح له بتقديم العون…
و هي تتحدث كانت تتوقف لالتقاط أنفاسها أو لإلقاء نظرة على وليد… و لم يخف َ علي مدى القلق و الهلع الذين كانت تعانيهما آنذاك…
ذهبنا مباشرة إلى إحدى المستشفيات و حضر فريق طبي و حمل وليد إلى غرفة الطوارئ و بدؤوا بفحصه و علاجه…
و الطبيب يفتح قميصه ليفحصه هالني منظر رهيب…
الكثير من الندب و آثار جروح قديمة مختلفة مبعثرة على جدعه… لم يسبق لي ملاحظتها قبل اليوم…
أما الطبيب فقد تبادل هو من معه النظرات الغريبة… و علامات التساؤل…
أمر الطبيب بعدها بإجراء فحوصات ضرورية ليتأكد من الحادث لم يؤثر على رأس وليد… و جعلتنا شكوكه ندور في دوامة الجحيم … إلى أن ظهرت النتائج مطمئنة و الحمد لله…
ثم أمر بإبقائه في غرفة الملاحظة إلى أن يعيد تقييم حالته، و رجح أن يستلزم الأمر إدخاله للمستشفى…
غرفة الملاحظة تلك كانت تحوي مجموعة من الأسرة لا تفصل بينها أي ستائر… و هي خاصة بالرجال فقط…
” يمكنك ِ الانتظار هناك ”
قال الممرض مخاطبا رغد و مشيرا إلى غرفة الانتظار الخاصة بالسيدات لكن رغد لم تتزحزح قيد أنملة و بقيت واقفة معي إلى جوار وليد
و لأن الغرفة كانت تخص الرجال و ممتلئة بهم فقد شعرت بحرج الموقف و قلت مخاطبا وليد الممدد على السرير بين اليقظة و النوم :
” سننتظر في الخارج… سآتي لتفقدك بعد قليل ”
وليد فتح عينيه و خاطبني :
” انتبه لها ”
ثم وجه نظره إلى رغد … رغد سألته مباشرة و بلهفة :
” هل أنت بخير ؟ ”
وليد قال و هو يغمض عينيه :
” سأنام قليلا… ”
و يبدو أنه نام فورا ….
لم يكن بحاجة لتوصيتي على رغد… هل نسى أنها قبل شهور و إن طالت… كانت خطيبتي ؟
أم هل نسى أنها… و منذ ولدت كانت و لا تزال ابنة عمّي ؟ و أنها و منذ الطفولة… رفيقة عمري؟؟؟
خرجنا من غرفة الملاحظة تلك… و وقفنا في الممر لبعض الوقت…
رغد سألتني آنذاك:
” هل سيكون بخير ؟ ”
كنت حينها أنظر إلى أرضية الممر الملساء… و أستمع إلى خطوات المارة حين تدوس عليها…
و أضرب أخماسا بأسداس … في مخاوفي و توجساتي…
رفعت رأسي و نظرت إليها… لم يزل الهلع مرسوما لا بل محفورا على قسمات وجهها…
كانت تضم يديها إلى بعضهما البعض و تعبث بأصابعها بتوتر شديد… و الله الأعلم… من منّا أكثر قلقا و أحوج إلى المواساة…
قلت مجيبا عن سؤالها :
” نعم، إن شاء الله ”
قالت بانفعال :
” و ماذا عن الدماء التي خرجت من جوفه ؟ ”
قلت :
” تعرفين أنه مصاب بقرحة في معدته منذ العام الماضي… ربما عاودت النزيف ”
امتقع وجه رغد و احتقنت الدماء فيه فغدا أشبه ببركان على وشك الانفجار… و قالت :
” و هل رأسه سليم حقا ؟؟ هل الطبيب واثق من ذلك؟؟ لماذا نزف أنفه إذن ؟؟ لماذا لا يسترد وعيه كاملا ؟؟ ”
و هو السؤال الذي يدور في رأسي و يضاعف مخاوفي… و ما من جواب…
رغد لما رأت صمتي تفاقم هلعها و هتفت و هي بالكاد تزفر أنفاسها :
” إن أصابه شيء فأنا سأموت ”
و جاءت كلماتها و كأنها تهديد أكثر من كونها قلقا… كأنها تهددني أنا بأن تموت هي لو أصاب وليد شيء لا قدّر الله… و كأنني المسؤول عمّا أصابه… و كأنني أملك تغيير القدر…
وكأنني جدار مصنوع من الفولاذ… يمكنه تلقي أقسى الطعنات من أعز الأحباب… دون حتى أن يخدش
رفعت رغد يدها إلى وجهها تداري ما لا تجدي مداراته أمام مرآي…
” يا رب… أرجوك… أبقه لي … يكفي من أخذت… أرجوك… أرجوك … أرجوك… ”
تفطّر قلبي بسببها و لأجلها… و أوشكت على النحيب معها…
و تذكّرت الحالة التي اعترتها بعد وفاة والدي ّ … و التي خشينا أن تلحق بهما بسببها لولا لطف الله و رحمته…
تركتها تبكي لبعض الوقت… فقد كانت بحاجة لذلك… ثم قلت مشجعا وأنا المنهار المكسور :
” اطمئني يا رغد… سيتعافى بإذن الله ”
بعد هذا ذهبنا إلى السيارة و بقينا في داخلها نعد الثواني و الدقائق و الساعات… و قلبانا لهجان بالدعاء و التضرع إلى الله…
و كنت أمر لتفقّد شقيقي بين فترة و أخرى و أراه لا يزال نائما … و أرى كيسا يحوي مجروش الثلج يوضع على رأسه من حين لآخر…
في آخر مرة… و أنا أتأمل شقيقي عن كثب، و هو بهذه الحال السيئة… و وجهه شديد الشحوب و شعره قد طال و تبعثر فوق جبينه و الجليد ينصهر في الكيس الموضوع عليه… و الدماء متخثرة في أنفه المعقوف… و بعض آثارها تختبئ بين شعيرات ذقنه النابتة عشوائيا…
و الأنفاس الشاهقة الساخنة تنطلق عبر فمه و الندب القديمة تغطي جسده فيما السائل الوريدي يتدفّق إلى عروقه بسرعة… و أنا أتأمل كل هذا و ذلك … شعرتُ بأسى شديد عليه…
كم بدا لي… مريضا ضعيفا عاجزا… و هو ذلك الجبل القوي الذي لم يتزعزع لدخوله السجن أو لكارثة تدمير مدينتنا أو لوداع شقيقتنا… أو لفاجعة موت والدي ّ …
حقيقة كان هو الأقوى و الأصلب من بيننا جميعا… و كان الجدار الذي استندنا عليه للنهوض من جديد …
لم أكن قد قابلته منذ شهور… كان يحرص على الاتصال بي من حين لآخر… و يخبرني بتطورات ما حصل معه… و يلح علي للانتقال إلى المدينة الساحلية و العمل و العيش معه في رغبة كبيرة منه لم شمل العائلة المشتت…
و لكن… هل بإمكاني العيش في مكان تعيش فيه رغد… أو تحت ظل سقف ضم والدي ّ إليه ذات يوم …؟
آه يا والداي… و آه لما حل بنا… بعد رحيلكما…
أمسكت بيد شقيقي و قد اعتصرني الألم… و كلما اعتصرني أكثر ضغطت عليها أكثر… حتى انتبه وليد و أفاق من النوم…
نظر وليد إلي و ربما لمح بقايا اعتصار قلبي بادية على وجهي… ثم نظر من حولي ثم قال :
” أين رغد ؟ ”
و ليته سأل عن أي شي آخر سواها…
ليته سأل… عن جثتي والدي ّ و عن الجروح التي كانت تغطيهما كلية…
ليته سأل عن الهول الذي أصابني و أنا أدقق النظر في جثمانيهما و بملء إرادتي… لا أكاد أميّزهما…
ما حييت … لن أنسى تلك الصورة البشعة… أبدا…
و ربما كانت رؤية الندب على جسد شقيقي و الدماء المتخثرة في أنفه هي ما أثار في نفسي هذه اللحظة تلك الذكرى الفظيعة المفجعة…
” أين رغد يا سامر ؟ ”
عاد شقيقي يسأل و قد علاه القلق، أجبت مطمئنا :
” في السيارة ”
قال معترضا :
” تركتها وحدها ؟ ”
قلت :
” كنت معها، أتيت لأتفقدك دقيقة ”
قال :
” أهي بخير ؟ ”
أجبت :
” نعم، الحمد لله لم تصب بأي أذى… أنت فقط جرحت أنفك ”
و تبادلنا النظرات الدافئة…
قلت :
” سلامتك يا وليد ”
و أنا أشدد الضغط مجددا على يده، وليد تنهد و رد بصوته الخافت :
” سلمك الله ”
قلت :
” كيف تشعر الآن ؟ ”
” الحمد لله.. أظنني تحسنت ”
نقل وليد نظره من عيني إلى الساعة المعلقة على الجدار و التي كانت تشير إلى الرابعة عصرا ثم قال :
” هل كنت نائما كل هذا الوقت ؟! ”
” نعم… كنت متعبا جدا ”
قال و هو يزيح كيس الثلج بعيدا :
” أنا أفضل الآن ”
و حاول النهوض قائلا :
” دعنا نغادر ”
اعترضت و طلبت منه أن يبقى حتى يأذن الطبيب بانصرافه لكن وليد أصر على مغادرة المستشفى تلك الساعة و لم أجد بدا من تنفيذ رغبته…
عندما لمحتنا رغد نقترب من السيارة خرجت منها مسرعة و على وجهها مزيج متناقض من الراحة و القلق… ثم سألت موجهة الخطاب نحو وليد :
” هل أنت بخير ؟ هل تعافيت ؟ ”
وليد هز رأسه إيجابا … و إن كان جليا عليه التعب و الإعياء
ركبنا أنا و هو في مقدمة السيارة و جلست رغد خلفنا…
لمح وليد مفاتيح سيارته موضوعة على رف أمامي فسأل :
” أين هاتفي ؟ ”
أجابت رغد الجالسة خلفنا :
” تركتـُه في مكانه ”
قال وليد :
” اتصلي بالمزرعة… لابد أنهم قلقون الآن … أخبريهم بأننا بخير و سنقضي الليلة عند سامر”
و لما لم يصدر من رغد أي شيء يدل على أنها سمعت أو فهمت ما قال ، ناداها وليد
” رغد ؟؟ ”
فقالت مباشرة :
” حاضر ”
و بادرت بالاتصال عبر هاتف محمول تحمله في حقيبتها… ظننته هاتف وليد ثم اكتشفت لاحقا أنه يخص رغد…
قال وليد :
” لا تأتي بذكر الحادث ”
قالت رغد :
” حاضر ”
و بعد جمل قصيرة دفعت رغد بالهاتف إلى وليد الذي راح يكرر أنهما بخير و أنهما سيأتيان لاحقا و أنهما سيقضيان هذه الليلة … في شقتي أنا !
~~~~~~~~~
الشقة التي أخذنا سامر إليها كانت جديدة… و يبدو أن سامر قد انتقل إليها قبل بضعة أشهر… و هي شقة صغيرة لا تحوي غير غرفة نوم واحدة و غرفة معيشة صغيرة و حمام واحد !
فور وصولنا قاد سامر وليد إلى السرير الوحيد في ذلك المكان فاضطجع وليد عليه و التقط بعض الأنفاس ثم قال :
” أنا آسف… لكنني متعب للغاية ”
سامر قال مباشرة :
” لا عليك… عد للنوم يا عزيزي ”
وليد نظر إلي و كأنه يطلب الإذن مني ! قلت :
” ارتح وليد … خذ كفايتك ”
وليد نظر إلى سامر ثم قال :
” اعتنيا بنفسيكما ”
ثم أغمض عينيه و استسلم للنوم !
أجلس ُ أنا و سامر في غرفة المعيشة نشاهد التلفاز و لا يجرؤ أحدنا على النبس ببنت شفة !
لكم أن تتصوروا حرج الموقف… فالرجل الذي يجلس معي هنا كان قبل فترة خطيبي… خطيبي الذي عشت و ربيت معه… و وعيت لهذه الدنيا و أنا في صحبته…
و هو و منذ أن أبلغني بأنه أطلق سراحي… ذلك اليوم … و نحن في المزرعة… لم يعد له وجود في حياتي…
الشهور توالت بسرعة و توقفنا عن تبادل الزيارات و حتى المكالمات…
لا أعرف تحديدا أي أفكار تدور برأس سامر هذه الساعة إلا إنني متأكدة من أنه أبعد ما يكون عن التركيز في البرنامج المعروض على الشاشة…
عندما حان موعد الصلاة أخيرا تكلّم…
” سوف أذهب لأداء الصلاة و من ثم سأمر بأحد المطاعم ”
قال ذلك و هو ينظر إلى ساعة يده، ثم تابع :
” لن أتأخر… تصرفي في الشقة بحرية ”
و نهض و سار نحو الباب…
لم أجرؤ على قول شيء… ماذا عساي أن أقول و أنا في موقف كهذا؟؟ و كيف يخرج و يتركنا وحدنا و وليد مريض جدا ؟؟
قبل أن يغلق الباب و هو في الخارج سمعته يقول :
” أتأمرين بأي شيء ؟ ”
رفعت بصري إليه … كنت أريده أن يستشف من نظراتي اعتراضي على ذهابه… لكنه غض بصره مباشرة و أشاح بوجهه جانبا…
شعرت بألم…
ليتكم تشعرون بما أشعر… بل لا أذاقكم الله شعورا مماثلا…
سامر… كان رفيق طفولتي و صباي و شبابي… كان أقرب الناس إلي… كان مسخرا وقته و كل ما باستطاعته من أجلي أنا… كان يحبني حبا جما… كثيرا جدا… و لم يكن أبدا… أبدا… يشيح بوجهه عنّي أو يتحاشى النظر إلي… لقد كنت خطيبته و لم يكن شيء أحب إليه من النظر إلي و الجلوس بقربي…
و الآن … ؟؟
طأطأت رأسي في أسى و حسرة… و كيف لا أتحسّر و آسف على فقد إنسان عنى لي مثل ما عناه سامر طوال تلك السنين …؟؟
إنه … لم يفقد أحد ذويه مثلما فقدت ُ أنا… و مثل من فقدت أنا…
لما لم يجد سامر مني الجواب، انصرف مغلقا الباب بالمفتاح…
حينها لم أتمالك نفسي و جعلت أبكي…
بعد ما يقرب من النصف ساعة توهمت سماع صوت منبعث من غرفة النوم… و بدأ الوهم يتضح أكثر فأكثر… حتى تيقنت من أنه وليد…
ذهبت إلى الغرفة و أنا أسير بحذر… و ناديت بصوت خافت :
” أهذا أنت … وليد ؟ ”
كانت الغرفة مظلمة إذ أن سامر كان قد أطفأ المصابيح عندما غادرناها…
وليد قال بصوته الشبه معدوم :
” رغد ؟ … ”
” نعم… هل أنت بخير ؟ ”
وليد بدأ يسعل بشدة سعالا استمر لفترة…
أفزعني سعاله… فتشت عن مكابس الإنارة و أضأت الغرفة…
كان لا يزال في نوبة سعال لم تنه…
” هل أنت بخير ؟؟ ”
لم يكن يستطيع التوقف… تفاقم قلقي و نظرت من حولي ثم خرجت إلى غرفة المعيشة بحثا عن بعض الماء…
عدت إليه مسرعة و قدمته إليه… و بعدما شربه انتهت النوبة و ارتمى على السرير مجددا…
و أخذ يتنفس بعمق من فمه و يسعل أحيانا…
هدأ قليلا ثم سألني :
” أين سامر ؟ ”
قلت :
” ذهب ليصلي… ”
قال :
” اتصلي به ”
وقفت مأخوذة بالهلع… و سألت :
” اتصل به ؟؟ ”
قال :
” نعم… أنا متعب ”
و شعرت بأعصابي تنهار… و ما عادت ساقاي بقادرتين على حملي… كنت أقف بجوار وليد و أرى بوضح علامات التعب و المرض ثائرة على وجهه
قلت بصوت متبعثر متفكك :
” ما بك يا وليد ؟ طمئني أرجوك … ”
و اجتاحتني رغبة عارمة في البكاء…
وليد نظر إلي و مد يده و أمسك بأصابعي … و شعرت بحرارته الشديدة تنتقل إلي… ثم قال :
” لا تقلقي… أنا بخير ”
قلت بانفعال :
” لا لست بخير ! أنت مريض جدا … أرجوك أخبرني … هل قال الطبيب شيئا ؟ ”
وليد أطال النظر في عيني … و كأنه يبحث عن شيء مختبئ خلف بؤبؤيهما… ثم قال بحنان :
” هل… تخافين علي ؟ ”
أخاف عليك؟ بل أكاد أموت من الفزع عليك… ألا ترى أن ساقي ّ… ترتجفان ؟ ألا تشعر بأنني… سأهوي أرضا ؟ ألم تحس برعشة يدي و برودتها ؟ لقد جفّت دمائي فزعا عليك يا وليد… و القلب الذي ينبض بداخلي… يضخ فراغا…
وليد … ألم تفهم ؟؟
قلت بصوت متقطّع واهن :
” وليد… أنا… إنني … ”
و هنا عادت نوبة السعال إليه مجددا… أقوى و أعنف…
لم أحتمل ذلك … كادت روحي تخرج مع سعلاته … أسرعت أجر ساقي ّ جرا … إلى هاتفي و اتصلت بهاتف سامر…
” من معي ؟ ”
” أنا رغد… ”
” رغد ؟؟ ”
” نعم… سامر عد بسرعة أرجوك ”
” ماذا حدث ؟ ”
” وليد مريض جدا … أنا سأنتهي… ”
و انهارت ساقاي أخيرا و هويت أرضا… و أخذت أبكي بل أصرخ … لا أعرف ما قال سامر… لم أسمع أو لم أع ِ شيئا… و لم أقو َ بعدها على النهوض…
ربما كان سامر على بعد أمتار من الشقة لأنه حضر بسرعة و ما إن دخل الشقة حتى هتفت :
” أرجوك افعل شيئا … لا تدعه يموت … ”
كنت جاثية على الأرض في عجز تام… سامر لم يطل النظر إلي ّ … بل ألقى بالأكياس التي كان يحملها جانبا و أسرع نحو الغرفة…
~~~~~~~~
وليد كان يسعل بشدة و بالكاد يجذب أنفاسه… و كان العرق يتصبب من جبينه بينما يشتعل جسده حرارة… لدى رؤيته بهذا الشكل، أصبت بالروع … و قررت إعادته إلى المستشفى فورا…
رغد الأخرى كانت بحالة سيئة و بصعوبة تمكنت من النهوض و مرافقتنا…
هناك شخـّص الطبيب حالته على أنها التهاب رئوي حاد… و أمر بإدخاله إلى المستشفى مباشرة… لكن وليد رفض ذلك تماما و اكتفى بقضاء بضع ساعات تحت العلاج…
أمر الطبيب بحقنه بعدة أدوية… و أبقى قناع الأوكسجين على أنفه طوال الوقت… و ظل يتلقى العلاج حتى انخفضت حرارته و تحسن وضعه العام قليلا…
أما رغد فقد كانت منهارة و مشتتة للغاية… و ما فتئت تطلب مني أن :
” لا تدعه يموت … أرجوك ”
و كـأن الموت بيدي أو أملك لمنعه سبيلا…
أظن أن وفاة والدي ّ اللذين كانت هي متعلقة بهما كثيرا… و بحاجة إلى رعايتهما… جعلها تتصور الموت يحيط بها و تخشى حدوثه…
و ربما أيضا كان للمأساة التي عاشتها ليلة القصف على المدينة… أثرها العظيم …
و بالتأكيد… فإن حبّها لوليد جعلها في هوس على صحته… و حياته…
لا زلت أذكر كيف استقبلته في ليلة زواج دانة… و كيف تدهورت صحتها و نفسيتها بعدما علمت بأمر ارتباطه بأروى…
و كيف كانت تراقبهما بغيظ في المزرعة… فيما أنا أتفرج عليها… و أقف كالشجرة… بلا حول و لا قوّة…
و ها أنا الآن أقف كالشجرة… أمام شقيقي و خطيبتي السابقة… بلا حول… و لا قوّة…
تمر الساعات بطيئة ثقيلة داكنة… خرساء عن أن كلمة أو إشارة… و كلّما أن ّ وليد اخترق خنجر صدي… و كلّما تأوه مزقت سكين أحشائي… و كلّما أفاق استقبلته أنظارنا بلهفة… فيقول :
” أنا بخير ”
و كلما أغمض عينيه رفعت عيني إلى السماء داعيا الله أن يجعله بخير…
كان وقتا عصيبا… اكتشفت فيه أنني أحب شقيقي هذا أكثر مما كنت أعتقد… و بالرغم من كل شيء أو أي شيء…
مع مرور الوقت تحسنت حالته و استرد بعضا من قوّته و طلب منّي إعادته إلى الشقة…
” و لكن يا عزيزي… الطبيب ينصح ببقائك ”
فرد :
” أنا بخير الآن… لنعد يا سامر… لابد أنكما متعبين… و خصوصا رغد ”
و فهمت ما يرمي إليه…
رغد قالت معترضة :
” أنا بخير ”
فقال وليد :
” و أنا كذلك ”
و نظر إلي ّ … فقلت :
” حسنا… هيا بنا ”
و في الواقع لم يكن هناك حل أفضل من العودة في تلك الساعة المتأخرة من الليل…
في الشقة بدا شقيقي أفضل حالا بعض الشيء و لكنه لم يستطع مشاركتنا الطعام لشعوره بألم في معدته. الطعام كان مجموعة من الشطائر و العصائر… كنت قد جلبتها من أحد المطاعم أول الليل.. تناولناها أنا و رغد و نحن نراقب وليد… في غرفة النوم…
السكون التي ساد وليد جعلنا نستنتج أنه نام مجددا…
خاطبتني رغد سائلة :
” إنه أفضل… سيتحسن… أليس كذلك ؟ ”
قلت :
” إن شاء الله… ”
رغد قالت برجاء شديد :
” أرجوك… اعتن ِ به جيدا… افعل أي شيء لعلاجه ”
أجبرتني جملتها على النظر إليها ثوان ثم بعثرت نظراتي بعيدا…
و هل تظنين يا رغد… أنني سأقف متفرجا على شقيقي و هو مريض بهذا الشكل ؟؟
أم تظنين أنني سأقصّر في العناية به انتقاما لما فعله بي في السابق ؟؟
أم تعتقدين أن هروبك منّي إليه سينسيني دماء الأخوة التي تجري في عروقي و عروقه؟؟
قالت رغد :
” يوم الغد… سأطلب من خالتي الحضور لأخذي معها… و بالتالي يتسنى لك نقله للمستشفى و معالجته ”
و كلنا يدرك أن وليد رفض دخول المستشفى بسبب وجود رغد… إذ لم يكن من اللائق إدخاله إلى المستشفى و عودتنا وحيدين إلى الشقة…
تابعت رغد:
” سأتصل بها باكرا لتأتي سريعا… لا يجب أن نتأخر أكثر من ذلك… ”
و لم أعقّب على حديثها بل كنت ألهي نفسي بشرب بقايا عصير الفراولة من كأسي الورقي… علها تطفئ شيئا من لهيب صدري…
قالت رغد :
” أنا آسفة لأنني عطّلت الأمر … ”
جملتها هذه أثارت اهتمامي… لكني تظاهرت باللامبالاة…
استرسلت رغد :
” لطالما كنت… و سأظل عقبة في طريقكم جميعا… لطالما سبب و سيسبب وجودي لكم التعطيل و الضيق… أنا آسفة… لقد طلبت منه أن يتركني في بيت خالتي لكنه من أصر على أخذي معه… سأبقى عبئا و عالة عليكم رغما عني… لكن… ماذا أفعل ؟ فأنا لا والدين لي … ”
و كصفعة قوية تلقيت كلمات رغد… صفعة لم تدر وجهي نحوها فقط بل جعلتني أحملق فيها بذهول…
رغد من فورها خرجت مسرعة من الغرفة… لتخبئ دموعها خلف الجدران…
لم استطع أن أحرك ساكنا… أحسست بالمرارة في داخلي بل و في عصير الفراولة على لساني…
و تركتها تبكي و أنا في عجز تام عن تقديم شيء من المواساة… أو تلقي شيئا منها…
الرد باقتباس
{[ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ – إلهي لكـ الحمد والشكر نستغفركـ ياعفو ياغفور ]} 57
قديم(ـة) 29-06-2008, 08:22 AM
صورة مصيره لاذكر يشتاق الرمزية
مصيره لاذكر يشتاق مصيره لاذكر يشتاق غير متصل
©؛°¨غرامي فعال ¨°؛©
الافتراضي رد : رواية انت لي كامله من البدايه إلى النهايه
الساعة تشير إلى الواحدة و الربع بعد منتصف الليل…
أنا متعبة و في صدري ضيق شديد… على وليد و على حالي التعسة
و هل لمثل حالتي شبيه؟؟
في شقة صغيرة لساكن أعزب، أبقى على المقعد ساهرة حتى ينتصف الليل… و ابنا عمّي موجودان في داخل غرفة النوم… أحدهما على الأقل يغط في سبات عميق !
ألا ترون جميعا أنه لا مكان لي هنا و أن وجودي أصلا في هذه الشقة و مع ابني عمّي… هو أمر مستهجن ؟
ما كان ضر وليد لو تركني أقيم و أبات في بيت خالتي معززة مكرمة … محبوبة مرغوب بها من جميع أفراد العائلة؟؟
رفعت يدي إلى السماء و شكوت إلى الله حالي و بثثته همّي… و تضرعت إليه… و رجوته مرارا و تكرارا… أن يشفي وليد… و أن يجد لي من هذه الكربة العظيمة مخرجا قريبا…
كنت لا أزال أرتدي عباءتي و حجابي منذ الصباح… و كنت و بالرغم من ملابسي الثقيلة أشعر بالبرد… إضافة إلى الشعور بالعتب الشديد و النعاس… و بحاجة للنوم و الراحة… و لكن أين أنام و كيف أنام ؟؟ و هل يجوز لي أن أنام؟؟
لماذا لم يظهر سامر حتى الآن ؟؟ هل نام و تركني هكذا … أم هل نسي وجودي ؟؟
لم أعرف كيف أتصرّف و لم أكن لأجرؤ على العودة إلى غرفة النوم بطبيعة الحال…
رواية انت لي
الحلقة التاسعة و الثلاثون الجزء 2
ذهبت بعد ذلك إلى دورة المياه الوحيدة في تلك الشقة… و كم شعرت بالحرج من ذلك… خصوصا حينما نظرت إلى نفسي عبر المرآة و وقع بصري على أدوات الحلاقة مبعثرة على الرف !
يا إلهي !
ما الذي أفعله أنا هنا !!؟؟
عندما خرجت، وجدت وسادة و بطانية قد وضعا على المقعد…
إذن فسامر لا يزال مستيقظا… و لا بد أنه التقط موجات أفكاري أخيرا !
المقعد كان صغيرا و لا يكفي لمد رجليّ ، لكنني على الأقل استطيع أن أريح جسدي قليلا فوقه…
أنا متعبة و أريد أن أنام بأي شكل…
و ببساطة نزعت عباءتي و حجابي و استلقيت على المقعد والتحفت البطانية و سرعان ما نمت من شدة التعب… !
عندما نهضت كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة بقليل… نهضت عن المقعد بسرعة شاعرة ببعض الألم في ظهري أثر الانكماش !
كنت أتوقع النهوض في وقت أبكر و كنت أنوي الاتصال بخالتي مباشرة…
تلفت يمنة و يسرة…و دققت السمع فوصلني صوت محادثة…
لابد أن ابنا عمّي قد نهضا…
ارتديت عباءتي و حجابي بسرعة و فركت عيني ّ لأزيل عنهما أثر النوم… ثم سرت نحو الغرفة المفتوحة الباب و أنا أقول :
” وليد… سامر… هل نهضتما ؟ ”
وصلني صوت سامر :
” نعم تفضلي ”
دخلت الغرفة و أنا ألقي التحية… و وجهت بصري مباشرة نحو وليد :
” وليد هل أنت بخير ؟ ”
وليد كان جالسا على السرير و مسندا ظهره إليه … و كان يبدو أفضل حالا من يوم أمس… و إن ظهر الشحوب جليا على وجهه …
ابتسم وليد ابتسامة مطمئنة و قال بصوته المريض :
” نعم. الحمد لله ”
قلت و أنا أتنهّد بارتياح :
” الحمد لله ”
ثم أضفت :
” هل نمت جيدا ؟ هل تشعر بتحسن ؟ و هل زالت الحرارة ؟ ”
قال :
” نعم. فهذه الأدوية سحرية ! ”
قال ذلك و هو يشير إلى الأدوية المصفوفة إلى جوار السرير على المنضدة و التي كانت الطبيب قد وصفها له يوم أمس…
قلت :
” لكن يجب أن تستكمل علاجك في المستشفى كما أمر الطبيب… سأتصل بخالتي ”
و استدرت و خرجت من الغرفة عائدة إلى حيث تركت حقيبتي و هاتفي…
و أنا أمسك بالهاتف لمحت سامر مقبلا…
قال :
” انتظري ”
نظرت إليه باستفسار .. و دون أن ينظر إلي ّ قال :
” وليد يريد التحدث معك…”
حملت هاتفي معي و ذهبت إلى وليد… أما سامر فأظن أنه خرج…
وقفت قرب الباب… منتظرة ما يود وليد قوله… وليد لم يبدأ الحديث مباشرة… لا أعرف إن كان السبب بحة صوته أو تهيج حلقه، أو تردده في قول ما سيقول…
تناول وليد كأس الماء الموضوع مع الأدوية و شرب قليلا ثم قال :
” أنا آسف يا رغد… ”
حقيقة أنني توقعت أن يقول أي شيء آخر… عدا الأسف !
” لم الأسف ؟؟ ”
قال و هو يحاول جعل جمله قصير لئلا يتعب حباله الصوتية :
” كنت متعبا.. اعذريني.. هل نمت ِ جيدا ؟ ”
ابتسمت وقلت بمرح:
” نعم… عدا عن وجع في الظهر و برودة في الأطراف ! ”
وليد قال :
” لم يكن أمامي حل أفضل.. أنا آسف ”
قلت مباشرة :
” لا تهتم.. الأمر ليس سيئا لهذا الحد ”
أناقض بذلك الحقيقة التي عشتها ليلة أمس و أنا نائمة دون حجاب على مقعد صغير في شقة عزوبة صغيرة مع ابني عمّي الشابين.. لا يفصلني عنهما غير جدار واحد يتوسطه باب مفتوح على مصراعيه طوال الليل !
هل يبدو الأمر سيئا إلى ذلك الحد !؟
وليد قال :
” على كل.. كان ظرفا طارئا لن يتكرر بإذن الله ”
خفضت ببصري خجلا… و لم أجد تعليقا مناسبا
وليد قال :
” سنغادر عصرا إن شاء الله ”
قفزت ببصري إليه مجددا و كلي استنكار و اعتراض… قلت :
” اليوم ؟ عصرا ؟ ”
” نعم ”
” و ماذا عن … المستشفى ؟ ”
” لا ضرورة لها فأنا في تحسن ”
لم يعجبني ذلك فقلت :
” لكن الطبيب ليلة أمس شدد على ضرورة تلقيك العلاج في المستشفى ”
فرد وليد:
” سأتعافى مع هذا العلاج بإذن الله ”
صمت ّ في حيرة من أمري… بعدها سألت :
” لكن.. ألا يجدر بك ملازمة الفراش؟ كيف ستقود السيارة ؟ ”
قال :
” سامر سيصطحبنا إلى المزرعة… كما و أن سيارتي … كما تعلمين ! ”
و تذكرت أننا تركنا السيارة في الشارع في وجه الريح و المطر… و أن هاتف وليد في داخلها
ربما قرأ وليد التردد المكتوب على وجهي… لذا سألني :
” أهناك ما يقلقك ؟ ”
نعم يا وليد ! هناك الكثير الكثير… لأقلق بشأنه … و أوله أنت !
قلت :
” لم لا تنتظر إلى أن تسترد عافيتك يا وليد؟ إن كان الأمر بشأني أنا… فأنا سأطلب من خالتي الحضور الآن لأخذي معها… و… ”
و أخذا وليد يهز رأسه اعتراضا…
قلت :
” هكذا ستتمكن من… ”
لكن وليد قاطعني :
” كلا يا رغد… ”
حاولت المجادلة لكنه قال بصرامة لا تتفق و حالته المريضة :
” كلا ”
لذت بالصمت بضع ثوان… و أنا في حيرة من أمر هذا الـ وليد !
مادام يجدني عائقا في سبيل تحركاته، لم لا يتركني مع خالتي؟؟ لم يزيد عبء مسؤولياته بينما أنا على استعداد بل و راغبة بشدة في إعتاقه من مسؤوليته تجاهي؟؟
قلت بصوت ضعيف مغلوب على أمره :
” وليد… أنا لا أريد العودة إلى المزرعة… ”
نظرت إليه بتوسل… و واثقة من أنه فهم نظراتي… قال :
” لن نطيل البقاء هناك… يومين أو ثلاثة… ريثما استرد عافيتي و سيارتي ”
و سعل قليلا… ثم تابع :
” نسافر بعدها جوا إلى العاصمة، و منها إلى الساحلية ”
قلت :
” و معنا أروى… و أمها ؟ ”
أومأ برأسه إيجابا… فهززت رأسي رفضا…
أنا أرفض العودة لنفس الدوامة من جديد…
خاطبته بنبرة شديدة التوسل و الضعف…
” أرجوك… دعني أعود إلى خالتي … ”
وليد ركز النظر في عيني برهة…
” أرجوك … وليد ”
أغمض وليد عينيه و هز رأسه ببط ء
” لا يمكن يا رغد .. انتهينا من هذا الموضوع ”
و حين فتح عينيه كان نظرات التوسل لا تزال تنبعث من عيني ّ …
قال :
” أنا المسؤول عنك يا رغد… ”
قلت بسرعة و تهوّر :
” أنا أعفيك من هذه المسؤولية ”
و اكتشفت خطورة جملتي من خلال التعبيرات المخيفة التي انبثقت على وجه وليد فجأة…
حاولت أن أخفف تركيز الجملة فقلت :
” أعني… أنني لا أريدك أن … تزيد عبئي فوق أعبائك … و خالتي و عائلتها… مستعدون لأن…”
زمجر وليد :
” كفى يا رغد ”
فابتلعت بقية الجملة بسرعة كدت أغص معها !
بدا وليد عصبيا الآن… و لكن عجز عن الصراخ لبحة صوته :
” لا أريد أن اسمع هذا ثانية يا رغد… أتفهمين ؟ ”
لم أتجاوب معه فقال :
” أنا الوصي عليك و ستبقين تحت مسؤوليتي أنا إلى أن أقرر أنا غير ذلك… مفهوم ؟ ”
فجاءني أسلوبه الجاف الفظ هذا… فيما كنت أنا أتحدث معه بكل لطف و توسل… حملقت فيه مصدومة به… حتى المرض لم يلين عناده ؟!
” مفهوم يا رغد ؟؟ ”
قلت باستسلام و رضوخ :
” مفهوم ”
و خرجت بعد ذلك بهدوء من الغرفة…
كم أشعر بالذل… كيف يعاملني وليد بهذا الشكل ؟ لماذا يقسو علي و أنا من كدت أموت خوفا عليه؟؟ لماذا يتسلط علي و يضرب بعرض الحائط رغبتي ؟
و هل علي أن أتحمّل رؤية الشقراء ترافقه و تتبادل معه الاهتمام و العواطف الحميمة.. بينما أكاد أعجز أنا عن مسح الدماء النازفة من أنفه و هو جريح مريض ؟؟
بعد فترة حضر سامر جالبا بعض الأطعمة… و وجدت نفسي منقادة لما تفرضه الظروف علي… و جلست مع ابني عمّي أشاركهما الطعام بكل بساطة !
إن لدي ابني عم اثنين… هما أهلي و أحبتي و كل من لي… و يساويان في حياتي الناس أجمعين… و إن احتل أحدهما الماضي من حياتي… فإن الآخر … يحتل الحاضر و المستقبل…
ابنا عم… لا يوجد مثلهما ابنا عم على وجه الأرض !
و نحن نتناول الطعام كنت أراقبهما خلسة… و أصغي جيدا لكل كلامهما…
كم كانا لطيفين حنونين و هادئين جدا… بصراحة الله وحده الأعلم من منّا نحن الثلاثة كان الأكثر قلقا و الأشد اهتماما بشأن الآخرين !
فيما بعد تركت أكبرهما يقيل وقت الظهيرة… و جلست مع الأصغر في غرفة المعيشة نشاهد التلفاز…
~~~~~~~~~
لم أكن لأقدم على الحديث معها لو أن رغد لم تبادر هي بالكلام…
و بالرغم من أنني كنت أتحاشى النظر باتجاهها إلا أنه كان من غير الممكن تحاشي التعقيب على حديثها…
” ألا يجب … أخذه للمستشفى كما أوصى الطبيب ؟ ”
” لا أظنه سيرحب بالفكرة مطلقا ”
” حاول أن تقنعه… ! ”
نظرت إلى السقف و قلت :
” ما من جدوى … على الأرجح ! ”
رغد صمتت قليلا ثم قالت :
” لكن السفر قد يتعبه… و هو مصر على الذهاب للمدينة الساحلية … ”
و أتمّت بأسى :
” و على أخذي معه ”
شعرت من نبرة صوتها بعدم ارتياحها فقلت :
” ألا تريدين الذهاب ؟ ”
رغد قالت مباشرة :
” لا أريد… لكن… وليد مصر على اصطحابي معهم… لن يفيده ذهابي في شيء بل سيسبب له التعطيل و العقبات… ”
سألت :
” لم تقولين ذلك ؟ ”
رغد بدأت تتكلم… و كأنها تشكو إلي ّ … كأنها … كتمت في صدرها آهات عدّة و جمعتها سوية… لتطلقها أمامي… كأنها ما كادت تصدّق أنها وجدت من تبوح إليه بما يختلج بواطنها… و كأنها… نسيت … أن الرجل الذي تتحدّث إليه و تبثه همومها هو خطيبها السابق الذي كان و لا يزال يعشقها بجنون…
و حين تتألم رغد… ينتشر صدى آلامها في صدري أنا…
” أعرف أنني مصدر إزعاج له… و هم ّ مرمي فوق صدره… و لكنه لا يريد إزاحتي بعيدا… بل ربما يستمتع بفرض وصايته و سطوته علي ! إنه لا يريد أن أعيش في بيت خالتي و لا يريد أن أتحدّث مع ابنها… و يفرض علي ما ألبس و متى أخرج و إلى أين أذهب… في المزرعة و حتى في بيت خالتي ”
لم استطع التعقيب على حديثها هذه المرة… فماذا يمكنني القول؟؟
و لكن هل شقيقي… صارم لهذا الحد ؟ هل يقسو على رغد ؟؟ أليست مرتاحة للعيش معه ؟ ألم تكن هذه رغبتها هي ؟؟
تابعت :
” و أنا لا أحتمل العيش مع الشقراء… و هي أيضا لا تطيقني … لماذا لا يريد وليد فهم ذلك ؟”
و أيضا لم أعلّق…
و ربما لما رأت رغد صمتي شعرت بخيبة الأمل… إذ لم تجد منّي أي مواساة أو تفاعل… لذا لاذت بالصمت هي الأخرى…
هناك سؤال ظل يكتم أنفاسي و يخنفني… لم استطع تحاشيه و لا أدري أي جنون جعلني أطلقه من لساني بعد كل هذا الصمت و الجمود ..؟؟
” رغد … ”
رغد نظرت إلي و هذه المرة لم أهرب بعيني بعيدا… بل غصت في أعماق عينيها باحثا عن الجواب… و ليتني لم أجده…
” ألا زلت ِ … تحبينه ؟ ”
بالتأكيد كان هذا آخر سؤال تتوقع منّي رغد طرحه… خصوصا بعد التزمت و الاختصار الشديد في الحديث معها و تحاشيها قدر الإمكان…
و لم يكن من الصعب علي ّ أو على أي كان أن يستنبط الجواب من هاتين العينين…
تصاعدت الدماء إلى وجنتيها بينما هبطت عيناها إلى الأرض…
هل كان علي أن أطرح بجنون سؤالا كهذا ؟؟
يا لي من أحمق و فاشل…
من حينها لم أتحدّث معها بأي كلمة… حتى وقفت مودعا إياهما في المزرعة…
~~~~~~~~~~
وصلنا إلى المزرعة قرب الغروب… و استقبلت أورى وليد استقبالا حميما لن يسرني وصفه لكم… فيما أنا أحترق من شدّة الغيظ…
و أحسنت هي و أمها و خالها الترحيب بي و بسامر…
و عندما خرج سامر مغادرا المنزل فيما بعد تذكّر وليد مفاتيح سيارته فقال :
” المفاتيح مع سامر ”
قلت مباشرة :
” سأحضرها ”
و انطلقت مسرعة نحو الخارج…
كان سامر على وشك صعود السيارة فهتفت:
” سامر انتظر ”
و أقبلت مهرولة إليه … التفت سامر نحوي مستغربا و رفع نظارته الشمسية و نظر إلى عيني ّ مباشرة
قلت :
” مفاتيح سيارة وليد ”
” آه … نعم ”
و التقط المفاتيح من داخل السيارة – حيث كانت موضوعة على الرف – عبر الباب المفتوح و قدّمها إلي …
المفاتيح كانت ضمن عدّة مفاتيح أخرى مضمومة إلى بعضها البعض بالميدالية التي كنت ُ قد أهديتها وليد في عيد الحج الماضي… إن كنتم تذكرون…
و أنا أمد يدي لأستلم المفاتيح منه… تبعثرت نظراتنا ثم التقت من جديد…
قلت :
” تبدو مختلفا… ”
و أنا أدقق النظر في الجهة اليمنى من وجه سامر و تحديدا عينه و ما حولها… الموضع الذي كانت تغطيه ندبة قديمة قبيحة… شوهت وجهه مذ سقط على الجمر المتقد و نحن نركب دراجته الهوائية أيام الطفولة…
الندبة تقريبا اختفت… و بدا سامر مختلفا… و هذا أول ما أثار انتباهي حين خلع نظارته السوداء المبللة بالمطر و نحن نركب السيارة يوم أمس…
سامر أمال إحدى زاويتي فمه بابتسامة أقرب إلى السخرية و قال :
” هناك أشياء … لا بد من التخلص منها و من آثارها… ذات يوم ”
ثم استدار و ركب السيارة و ابتعد… تاركا الجملة ترن في أذني زمنا طويلا …
عندما عدت إلى الداخل… وقع بصري على منظر أثار ثورتي و جعلني أرمي بالميدالية رميا على المنضدة تجاه وليد…
أروى … كانت تجلس ملتصقة بوليد و تحيطه بذراعيها بينما تسند رأسها إلى كتفه بكل حنان !
لقد وجدتـْـها الشقراء فرصة ممتازة لكي تقترب من ابن عمّي … بينما أنا لا أجرؤ على شيء …
حسنا يا أروى
المعركة ابتدأت إذن ؟؟
استعنا بالله على الشقاء !
~~~~~~~~
مستلق ٍ على سريري و شاعر بإعياء شديد في جميع عضلاتي… أجاهد من أجل إرغام الهواء على المرور عبر أنفي شبه المسدود… تنتابني نوبات فظيعة من السعال إن تجرأت و فتحت فمي… أنا وليد… الصامد في وجه النواكب العظمى… مستسلم تماما أمام المرض!
أقبلت أروى تحمل طبق الحساء الدافئ و شرابا من خلاصة الأعشاب… و جلست قربي… استويت أنا جالسا و قرّبت ُ كأس الشراب من أنفي استنشق البخار المتصاعد منه… علّه يساعد على توسيع مجرى الهواء… و لم أكن أحس برائحته… و لم أحس بطعمه…
” الحمد لله ”
قلت بعدما أنهيت وجبتي فعقّبت أروى :
” بالهناء و العافية… حبيبي ”
نظرت إليها فابتسمت بحنان… ساهم في رفع معنوياتي المحبطة… من جراء المرض و من حالي مع رغد و أقاربها…
رددت إليها ابتسامة ممتنة… ثم عدت مضطجعا على الوسادة… شاعرا بالارتياح…
الساعة كانت العاشرة مساء ً و أنا ألازم فراشي منذ حضوري عصرا … و منذ حضوري لم أر رغد…
سألت أروى :
” ماذا عن رغد ؟ ”
هذه المرة لم تحاول أروى إخفاء انزعاجها من سؤالي… و ردّت :
” ربّما نامت في غرفتها… لا تفكّر في شيء الآن… ابق مرتاحا و مسترخيا أرجوك ”
و كأنها تؤكد أن رغد هي أحد أسباب قلقي و تعبي… و هي حقيقة غنية عن التأكيد !
ابتسمت ُ لأروى و قلت خاتما الحديث :
” تصبحين على خير ”
كانت حالتي أفضل بكثير حينما نهضت صباح اليوم التالي… و تمكنت من مغادرة الفراش…
أخذت حمّاما منعشا زاد من حيويتي… و فيما كنت أرتب فراشي بعد ذلك أقبل كل من أروى و الخالة و العم إلياس يطمئنون علي و يحمدون الله على تحسّن صحّتي…
جلسنا نتبادل بعض الأحاديث بشيء من المرح و السرور… و الضحك أيضا… إنني أنتمي إلى هذه الأسرة… و إن الله كان غاية في اللطف و الكرم سبحانه… و هو يضعها في طريقي… تعويضا عما فقدت.. و عمّن فقدت…
لكن… لم يكن حبهم لي و عطفهم علي… ليغني عن حاجتي للمحبة و العطف من شقيقي الوحيد سامر… أو شقيقتي الوحيدة دانة … أو … صغيرتي الحبيبة… رغد…
ما أحوجني إليهم جميعا…
لم أكن قد رأيت صغيرتي منذ قدمنا إلى المزرعة يوم أمس… لا أعرف كيف نامت أو كيف صحت… و أين تجلس و ماذا تفعل…
و صدّقوني… إنه من المستحيل علي أن أتوقف عن التفكير بشأنها… مهما حاولت !
قلت و أنا افتقدها بينما الجميع من حولي :
” أين رغد ؟ ”
هناك نظرة كانت خاطفة تبادلتها أروى و أمها ، لم تغب عن انتباهي… بل كنت أرصدها… ثم قالت خالتي :
” لم تغادر غرفتها منذ دخلتها يوم أمس ”
و هو جواب لا يصلح لرفع معنوياتي أو التخفيف عن آلامي… البتة !
وجهت خطابي إلى خالتي :
” اذهبي و تفقديها يا خالة… رجاء ً ”
ابتسمت خالتي و قالت :
” بكل سرور يا بني… سأستدعيها … ”
و غادرت يتبعها العم إلياس… ثم عادت قائلة :
” يظهر أنها لا تزال نائمة ”
بعد ساعات انشغلت أورى و الخالة في المطبخ، و العم في المزرعة… و أنا في القلق المتزايد على رغد !
ويحك يا رغد ! ألن تأتي للاطمئنان علي ؟؟
لم أطق صبرا… و ذهبت أنا للاطمئنان عليها…
طرقت باب غرفتها و قلت مصرحا :
” أنا وليد ”
و لما أذنت لي بالدخول… دخلت فرأيتها تقف عند المكتبة ممسكة بقلم… ربما كانت ترسم…
قلت :
” كيف حالك يا رغد ؟ ”
رغد ابتسمت بفرح و قالت بصوت خافت :
” بخير… ”
ثم بصوت أقوى :
” كيف حالك أنت ؟ ”
و لمحت القلق على وجهها… و شعرت بسعادة !
قلت مبتسما :
” الحمد لله … أفضل بكثير ”
فاتسعت ابتسامتها و ازداد فرحها و كررت :
” الحمد لله ”
قلت :
” لم ْ أرك ِ منذ الأمس… أقلقتني… لم َ لم ْ تأتي لزيارتي ؟ ”
طأطأت رغد رأسها ثم قالت :
” لا استطيع أن… أتجوّل في المنزل … ”
صمت ّ قليلا ثم قلت :
” هذا … بيتي يا رغد… و بيتي هو بيتك … ”
لكن رغد هزّت رأسها مخالفة لكلامي… أردت أن استنبط منها رأيها فقلت :
” أليس كذلك يا رغد ؟ ”
رفعت بصرها و قالت :
” لن أعتبر … هذا المكان… بيتي أبدا يا وليد… و سأظل أشعر بالغربة بينكم… طالما أنا هنا ”
تنهّدت ُ بمرارة… لم أكن أريد لصغيرتي أن تشعر بالغربة و هي معي أنا…
قلت :
” سنغادر غدا… إلى منزلنا يا صغيرتي ”
شيء من الاعتراض أيضا ارتسم على وجهها و قالت :
” لكن… أنت… مريض ”
قلت مطمئنا :
” أنا بخير… سبق و أن حجزت التذاكر و لا داعي لتأجيل الأمر… ”
صمتت رغد فسألتها :
” هل هذا … سيريحك ؟ ”
انتقلت أنظار رغد من عيني إلى الأرض… و لم تجب…
كنت أعرف بأنها لا ترغب في السفر بل في العودة إلى خالتها…
خطوت خطوات نحوها حتى صرت جوارها تماما… و أمكنني رؤية الرسوم التي كانت ترسمها على الورقة… كان رسما لفتاة صغيرة تحضن ذراعا بشرية كبيرة… تخرج من حوت مغمض العينين مفتوح الفكين تقطر الدماء من أنيابه !!
ما المقصود من هذا الرسم الغريب ؟؟!
ناديتها :
” رغد ”
فرفعت بصرها إلي ّ …
” عندما نذهب إلى المدينة الساحلية… فسألحقك بالجامعة … ”
ظلت رغد تحدّق بي… بشيء من التشكك أو المفاجأة
قلت مؤكدا :
” لقد رتّبت للأمر…و دبّرت لك مقعدا في كلية الفنون… لتتابعي دراستك…ألم يكن هذا حلمك ؟”
قالت بتردد :
” أحقا ؟ ”
قلت :
” نعم يا رغد… أنت موهوبة و المستقبل المشرق ينتظرك … ”
رأيت تباشير ابتسامة تتسلل إلى وجهها … إذن… فقد استحسنت الفكرة… الحمد لله !
” و في وقت الإجازات سآخذك إلى خالتك… أعدك بذلك … صدّقيني يا رغد … أنا أعمل لمصلحتك … و لم يكن قصدي إجبارك على شيء… و إن فعلت… أو تصرّفت معك ِ بصرامة… فأرجوك… سامحيني ”
عادت رغد ببصرها نحو الأرض …
” هل تسامحيني يا رغد ؟ ”
رغد ابتسمت و أومأت إيجابا فتنفّست الصعداء عبر فمي بارتياح…
تصادم الهواء البارد مع حلقي المتهيّج فأثار نوبة خفيفة من السعال جعلت رغد ترفع رأسها بقلق و تمسك بذراعي تلقائيا و تهتف :
” وليد … ”
انتهت نوبة السعال … و ركزت نظري نحو رغد… و رأيتها تشد ذراعي بقوّة … تكاد تحضنها !
فيما تتجلى تعبيرات القلق و الخوف على قسمات وجهها…
ابتسمت ! لا بل تحوّل سعالي إلى قهقهة !
أطلقت ضحكة قوية و أنا أقول :
” لا تخافي يا صغيرتي … حتى الحيتان تمرض أحيانا ! ”
تحسنت صحتي كثيرا و سافرنا جوا إلى العاصمة و من ثم إلى المدينة الساحلية أنا و رغد و أروى و الخالة ليندا.
أقبلت على العمل بجد و شغلت معظم أوقاتي فيه و قسّمت الباقي بين شؤون المنزل، و أروى و رغد
و آه من هاتين الفتاتين !
إنهما تغاران من بعضهما البعض كثيرا و باءت كل محاولاتي للتأليف فيما بينهما و تقريب قلبيهما لبعضهما البعض بالفشل و الخذلان…
المشاحنات تضاءلت بعض الشيء مع بداية الموسم الدراسي… إذ أن رغد أصبحت تغيب عن المنزل فترات طويلة…
الأمر كان صعبا في البداية إلا أن رغد تأقلمت مع زميلاتها و من محاسن الصدف أن كانت إحدى بنات السيد أسامة – المشرف السابق على إدارة مصنع أروى- زميلة لها و قد تصاحبت الفتاتان و توطدت العلاقة بينهما… تماما كما توطّدت فيما بيني و بين السيّد أسامه عبر الشهور… و وافق مبدئيا على عرضي بالعودة إلى المصنع…
و الدراسة شغلت فراغ رغد السابق و نظّمت حياتها و زادت من ثقتها بنفسها و بأهميتها و مكانتها في هذا الكون بعد أن فقدت كل ذلك بموت والدي ّ رحمهما الله…
و لأن الله أنعم علي بالكثير و له الحمد و الشكر دائما و أبدا… فقد أغدقت العطاء على صغيرتي و عيّشتها حياة مرفهة كالتي كانت تعيشها في كنف والديّ أو أفضل بقليل…
و فتحت لها حسابا خاصا في أحد المصارف… و وظفت خادمة ترعى شؤونها و شؤون المنزل…
ابتسمت لي الدنيا كثيرا و انتعشت نفسيتي… و لم يعد يعكر صفو حياتي غير الحرب…
إضافة إلى … المعارك الداخلية المستمرة بين الفتاتين !
” يجب أن تتحدّث إلى ابنة عمّك يا وليد فهي مصرّة على المذاكرة في المطبخ ! ”
تقوّس حاجباي استغرابا و سألت :
” المطبخ !؟ ”
قالت أروى :
” نعم المطبخ ! و ها قد نشرت كتبها و أوراقها في كل أرجائه بعدما سمعتني أقول لأمي أنني سأعد عشاء مميزا جدا لهذه الليلة ! ”
ضحكتُ بخفة و قلت :
” دعيها تذاكر حيثما تريد ! ”
بدا الاستهجان على وجه أروى و قالت :
” و لكن يا وليد الزمن يداهمنا و لن أتمكن من إعداد العشاء للضيوف في الوقت المناسب ! ”
كنت آنذاك مستلق ٍ على أحد المقاعد في غرفة المعيشة الرئيسية … أرخي عضلاتي بعد عناء يوم عمل طويل… و الساعة تقترب من الخامسة مساء …
أغمضت عيني ّ و قلت بلا مبالاة :
” لا تقلقي… إنه سيف ليس إلا ! ”
و كنت قد دعوت سيف و زوجته و طفلهما طبعا لمشاركتنا العشاء هذه الليلة…
” وليد ! ”
فتحت عيني فرأيت أروى تنظر إلي بغضب واضعة يديها على خصريها. ابتسمت و قلت :
” حسنا سأتحدّث إليها … لا تغضبي ”
و نهضت بكسل و أنا أمدد أطرافي و أتثاءب !
توجهت نحو المطبخ و وجدت الباب مغلقا فطرقته و ناديت رغد… بعد ثوان فتحت رغد الباب و وقفت وسط الفتحة !
” مرحبا رغد… كيف كان يومك ؟ ”
ابتسمت و قالت :
” جيد…”
” الحمد لله… و كيف دروسك ؟ ”
قلت ذلك و أنا أخطو نحو الأمام بهدف دخول المطبخ غير أن رغد ظلت واقفة معترضة طريقي كأنها تمنعني من الدخول !
قالت متلعثمة :
” جيدة… ممتازة ”
إذن في الأمر سر !
تقدمت خطوة بعد و لم تتحرك … بل ظهر التوتر على وجهها و احمر خداها !
قلت :
” بعد إذنك ! ”
و تظاهرت ُ بالعفوية و تنحّت ْ هي عن طريقي… بارتباك !
شعرت بالفضول ! لماذا لا تريد رغد منّي دخول المطبخ…؟؟
نظرت من حولي فرأيت مجموعة من الكتب و الدفاتر و الأوراق… و الكراسات أيضا مبعثرة هنا و هناك…
و كان كوب شاي موضوعا على الطاولة و منه يتصاعد البخار… و إلى جانبه كراسة و بعض أقلام التلوين… استنتجت أن رغد كانت تشرب الشاي جالسة على هذا الكرسي…
اقتربت منه فأسرعت هي نحو الكراسة و أغلقتها و حملتها في يدها…
إذن هنا مكمن السر !
ابتسمت ُ و قلت ُ بمكر :
” أريني ما كنت ترسمين ؟ ”
ارتبكت رغد و قالت :
” مجرد خربشات ”
اقتربت منها و قلت :
” دعيني أرى ”
قالت بإصرار :
” إنها لا تستحق الرؤية … دعك منها ”
وسّعت ابتسامتي و قلت بإصرار أكبر و بفضول أشد :
” أريد رؤيتها… هاتيها ”
و مددت يدي نحوها… و لما لم تتحرك قلت :
” هيا رغد ”
و تحركت يدها بتردد و أخيرا سلمت الكراسة إلي…
تعرفون كم تحب صغيرتي الرسم و كم هي ماهرة فيه… و كنت دائما أطلع على رسماتها و أتابع جديدها من حين لآخر… و يزداد إعجابي…
أخذت أتصفح الكراسة صفحة صفحة و أتأمل الرسمات… رسمات جميلة لأشياء مختلفة… من يد فنانة ! و رغد كانت تراقبني باضطراب ملحوظ… شيء يثير فضولي لأقصى حد ماذا تخبئين ؟؟!
و أخيرا وصلت إلى آخر رسمة… و هي الصفحة التي كانت رغد ترسم عليها قبل وصولي بالتأكيد… نظرت إلى الرسمة و فوجئت !
ثم نظرت إلى رغد … و تلقائيا أطلقت ُ آهة استنكارية !
أتدرون ما كان مرسوما ؟؟
صورة لأروى…و هي ترتدي مريلة المطبخ، و قد امتد شعرها الأشقر الحريري الطويل حتى لامس الأرض و كنسها !
رغد سحبت الكراسة فجأة و أخفتها خلف ظهرها… أما أنا فهززت رأسي اعتراضا و استنكارا…
و يبدو أن رغد أحست بالخجل من رسمها هذا و نزعت الورقة من الكراسة و جعّدتها و ألقت بها في سلة المهملات… ثم قالت دون أن تنظر إلي :
” آسفة ”
قلت رغبة منّي في تخفيف الحرج :
” أنت موهبة خطيرة ! ”
و لم تعلق رغد بل شرعت في جمع كتبها و أشياءها المبعثرة و من ثم هربت نحو الباب…
قلت :
” الشاي ! ”
مشيرا إلى كوب الشاي الذي تركته على الطاولة… فالتفتت إلي و قالت :
” تركت ُ لها كل شيء… أنا آسفة ”
و ولت مسرعة !
جلست أنا على نفس المقعد الذي رجحت أن رغد كانت تجلس عليه و في داخلي مزيج غير متجانس من الراحة و الانزعاج… و الضحك و الغضب !
بعد قليل أقبلت أروى تحمل وعاء يحوي بعض الخضار المقشرة و كيسا يحوي قشورها… و الظاهر أنها عملت في تقشير الخضار في مكان ما خارج المطبخ قبل أن تأتي إلي ّ في غرفة المعيشة…
وضعت أروى الوعاء على الطاولة و ابتسمت و هي تقول :
” أخيرا ! ألم تطب لها الدراسة هذا اليوم إلا هنا ؟؟ ”
ابتسمت ُ… و لم أعلّق…
و توجهت ْ أروى حاملة كيس القشور نحو سلة المهملات…
كنت ُ أراقب الدخان المتصاعد من كأس شاي رغد… و لا أعرف لم تملكتني رغبة عجيبة في احتسائه !
و ضعت يدي عليه و حالما أوشكت على تحريكه أوقفني صوت أروى :
” ما هذا ؟ ”
تراجعت بسرعة… و في اعتقادي أنها تستنكر رغبتي العجيبة هذه ! ما الذي يدعوني لشرب شاي تركته رغد !؟؟
التفت نحوها ببعض الخجل..
لكنها لم تكن تراقب الشاي…
كانت تمسك بورقة مجعّدة مفتوحة بين يديها… و تحملق فيها بغضب…
وقفت و اقتربت منها… فأخذت تحدّق بي … ثم مدّت الورقة إلي و قالت :
” انظر… مذاكرة ابنة عمّك ”
حقيقة لم أعرف كيف أتصرف حيال الموقف… حاولت التظاهر بالمرح و جعل الأمر يبدو دعابة بسيطة لكن أروى كانت غاضبة جدا…
” هذه إهانة متعمّدة يا وليد… لن أسكت عنها ”
” لا أعتقد أن رغد تقصد شيئا … إنها دعابة لا أكثر ! ”
قالت بغضب :
” ليست دعابة يا وليد… منذ متى و ابنة عمّك تهوى مداعبتي ؟؟ إنها تقصد إهانتي بهذا الرسم … لكنّي لن أسكت ! ”
و من فورها خرجت من الغرفة متجهة إلى رغد…
و لم تفلح محاولتي ثنيها عن إثارة مشكلة و خصوصا في هذا الوقت…!
أقبلت أروى إلى غرفتي و كنت أرتب كتبي و دفاتري على مكتبي الجديد و الذي اشتراه وليد لي مؤخرا…
وليد اشترى لي أشياء كثيرة…و غير طقم غرفة نومي كاملا… و كان يود نقل أشيائي إلى غرفة دانة سابقا… فهي أكبر حجما… و لكنني أصررت على البقاء في غرفتي الصغيرة الملاصقة لغرفته…
و منعت ُ أروى و أمها من استخدام أي ٍ من غرف النوم التي كنا نستخدمها سابقا… فأقامتا في غرفتين من الناحية الأخرى لمنزلنا الكبير…
و لأنني أعرف أنها ماهرة في أعمال المنزل و خصوصا الطبخ، و أنها تتباهى بذلك أمام وليد و أمامي… و أنها تريد أن تستعرض مهاراتها الليلة على العشاء … فقد اخترت المطبخ بالذات كي أذاكر فيه محاضراتي هذا اليوم !
يجب أن تعرف هذه الدخيلة أن هذا بيتي أنا… و مطبخي أنا… و أنا حرّة في فعل ما أريد وقتما أريد !
” ماذا تعنين بهذا يا رغد ؟ ”
كانت أروى تقول و هي ترمي بالورقة التي نزعتـُها من كراستي قبل قليل… و فيها صورة لأروى الحسناء تنظف الأرض بشعرها الطويل !
أوه ! كيف وصلت إليها..؟ مستحيل أن يكون وليد !
كنت ُ غاضبة من تباهيها بمهاراتها… و وعدها وليد بتقديم وجبة لذيذة تبهر ضيوفنا… و من شدة غيظي احتللت المطبخ و رسمتها بهذا الشكل!
لكني خجلة من وليد و الفكرة التي أخذها عنّي… و أريد أن أعتذر لها !
” أجيبي ؟؟ ”
صرخت أروى و هي شديدة الغيظ… كنت بالفعل سأعتذر لولا أنها أضافت :
” أنا لست خادمة هذا المنزل بل سيّدته و إن كنت ستسخرين من شيء فالأفضل أن تسخري من نكرانك للجميل و عيشك مرفهة مدللة من نقود لم ترثيها و لم تتعبي لجنيها يا ابنة العز و الثراء ”
شعرت بطعنة قوية في صدري أوشكت أن أرمي بالكتاب الذي بين يدي نحو وجهها لكنني لم أملك إلا الألم…
و هل أملك ردا غيره ؟؟
بم أرد و هي الحقيقة..؟؟ ألست ُ أنا العالة على الغير… أليست النقود التي يجلبها لي وليد… هي من ثروتها ؟
بعد أن انصرفت بفترة حضر وليد
و كعادته يأتي بعد انتهاء أي مشادة بيننا حتى لا يزيد تدخله الأمر سوء…
و لا بد أنه قضى الدقائق السابقة في استرضائها و جاء الآن ليواسني… أو ليوبخني!
” هل أدخل ؟ ”
و هو يقف عند الباب… و ينظر إلى الورقة المرمية على الأرض… ثم يلتقطها و يتأملها برهة، و يمزقها و يرمي بأشلائها في سلة المهملات…
قال :
” انتهى الأمر ”
مسكين وليد! أتظن بأنه بتمزيقك للورقة تحل المشكلة؟
لا أظنها تحل إلا إذا مزّقت الفتاة المرسومة عليها في الواقع !
قال :
” لا تكرري ذلك ثانية يا رغد … أرجوك ”
نظرت إليه بحنق… أهذا كل ما لديك ؟؟
قال :
” انظري أي مشاكل تقع بسبب تافه كهذا… نحن في غنى عن المزيد… دعينا نعيش في سلام ”
و استفزتني جملته فقلت بغضب :
” و هل ترى أنني شارون أم بوش لتخاطبني عن السلام ؟ ”
و ربما أثارت جملتي اندهاشه أو حتى لم يستوعبها إذ أنه حملق في ّ باستغراب
قلت بعصبية :
” هل أنا سبب المشاكل ؟ ”
قال :
” لا … لكن أروى لا تتعمّد مضايقتك يا رغد … إنها طيبة و مسالمة جدا ”
و ثار غضبي أكثر… رميت بالكتاب أرضا و صرخت :
” طبعا ستدافع عنها… أليست خطيبتك العزيزة الغالية … الثرية الحسناء … السيدة المدبّرة لشؤون هذا المنزل ؟؟ ”
” ليس الأمر هكذا … ”
قلت بانفعال :
” بل هو كذلك… و أنت بالتأكيد ستقف في صفـّها و تنحاز إليها ”
تنهّد وليد بانزعاج… و ضرب كفه الأيسر بقبضته اليمنى و قال بضيق :
” لقد حرت ما أفعل معكما؟ أنتما تثيران الصداع المستمر في رأسي… أنا لا أعرف لماذا لا تطيق أحداكما الأخرى بهذا الشكل !؟ ”
صمت برهة ثم قال :
” على الأقل… أروى يا رغد… لا تتربص لإزعاجك … لكنك يا رغد… ”
و توقف لانتقاء كلماته ثم قال :
” أنت يا رغد تتصيدين الفرص لمضايقتها…لا أعرف لماذا ؟؟ لماذا أنت متحاملة عليها لهذا الحد يا رغد ؟؟ ”
و أخذ يترقّب جوابي…
” لماذا يا رغد ؟؟ ”
الحلقة التاسعة و الثلاثون الجزء 3
أما زلت تسأل ؟؟
ألا تعرف ؟
ألا يمكن لعقلك المحشور داخل جمجمتك الكبيرة هذه أن يستنتج السبب؟؟
لأنني أحبك يا وليد!
أحبك و أكره أي امرأة تقترب منك…
ألا تفهم ذلك؟؟
ألا تكفي كمية الذكاء المحشوة في دماغك لاستنباط هذا ؟؟
و لا يبدو أن هذه الفكرة كانت لتخطر على بال وليد… البتة !
و لأنه كان لا يزال ينظر إلي منتظرا جوابا قررت أن أجيب !
” أتريد أن تعرف لماذا ؟ ”
قال بلهفة :
” يا ليت… فلربما استطعت تغيير شيء و حل المشكلة ”
ابتسمت بسخرية من مناه… ثم ضيّقت فتحتي عيني ّ و ضغطت على أسناني و قلت:
” لأنها… أجمل منّي ”
ذهل وليد… و بدوره اتسعت فتحتا عينيه و فمه أيضا…
قلت :
” هل عرفت الآن ؟ ”
ارتبك وليد و قال :
” هل هذا هو السبب حقا ؟ ”
قلت بمكر :
” نعم… فهل تستطيع تغيير شيء ؟ ”
وقع وليد في الشرك… و حار ماذا يقول… ثم قال بتردد و ارتباك:
” و … لكن … يا رغد… أيعقل أن تجعلي من هذا سببا كي… أعني لأن تـُثار كل تلك المشاكل ؟ ”
قلت :
” هذا أمر لن تفهمه أنت…! إنها أجمل منّي بكثير… أليست كذلك ؟ ”
و ترقبت بلهفة ما سيقول وليد…!
إن قال ( بلى ) فسأمزقه بأظافري…
و إن قال ( كلا ) فسأفقع عينيه !
انتظرت و انتظرت… و لكن وليد لم يجب ! بل تنحنح قليلا ثم أراد الانصراف…
وليد ! أجبني فورا … إياك أن تهرب…
” بعد إذنك ”
و استدار منصرفا…
لن تهرب يا وليد !
قلت باندفاع و عصبية :
” أجبني ”
وليد استدار إلي في ضيق… و كان وجهه شديد الاحمرار… و الحنق…
قلت :
” لماذا لا ترد ؟؟ قل أنها كذلك… فحتى الأعمى يستطيع أن يرى هذا ”
” رغد بربّك… ما الذي تهذين به؟ أي جنون !؟ ”
و أولاني ظهره و ولى منصرفا بسرعة… تبعه صوتي و أنا أقول بغضب :
” لا تحلم بأن أنسجم معها ذات يوم … لا تحلم أبدا ! ”
~~~~~~~~
و كالعادة كانت العشاء لذيذا جدا قد أرضى الضيوف و نال إعجابهم…
” سلمت يداها… أكلتُ كثيرا هذه الليلة ”
قال سيف و هو يحتسي الشاي عقب انتهائنا من وجبة العشاء…
قلت بسرور :
” سلّمك الله… بالهناء و العافية يا عزيزي ”
قال مازحا :
” و أنا من كان يتساءل ما سر هذه العضلات التي نبتت و تضخمت بشكل سريع و على ذراعيك ! تبدو أكثر ضخامة كلّما التقينا يا رجل ! ”
ضحكت لتعليق سيف المرح… حقيقة هي أنني خلال العام المنصرم ربحت عدة كيلوجرامات !
قلت :
” لكني كنت أكثر قوة و أنا أعمل في المزرعة… و أبذل مجهودا عضليا كل يوم ”
و لاحت في مخيلتي صورة المزرعة و أشجارها و ثمارها… و العم إلياس… و شعرت بالحنين إليهم…
قال سيف :
” ماذا بشأن المزرعة ؟ ماذا ستفعلون بها ؟ ”
قلت :
” كما هي يا سيف… فالعائلة متعلقة بها جدا و لا يمكنهم التفريط فيها… و ها أنا أتنقل بينها و بين المصنع في عناء ”
قال :
” و لكن… يجب أن تستقر يا وليد ! ماذا ستفعل بعد زواجك ؟ ”
أخذت أحك شعري في حيرة…
” خطيبتي تريد العودة إلى المزرعة و الاستقرار فيها… و ابنة عمّي ترفض العيش فيها تماما… و أنا في حيرة من أمري… مشلول الفكر ! ”
تابعت :
” و ليت الخلاف اقتصر على السكن فقط! بل في كل شيء يا سيف… كل شيء و أي شيء! إنني أعود من العمل مشحونا بالصداع فتستلماني و تشقان رأسي نصفين !”
و وضعت طرف يدي على هامتي كما السيف…
سيف ابتسم… و قال :
” إنهن النساء ! ”
قلت :
” الجمع بينهما في بيت واحد هو ضرب من الجنون… و الصغيرة صعبة الإرضاء و متقلبة المزاج… و أخشى أن أتحدّث معها فتظن أنني ضقت ذرعا برعايتها… و يُجرح شعورها…”
لم يعلق سيف … تابعت :
” أنا حائر يا سيف… لا أريد لأي شيء عظيما كان أم تافها أن يعكّر صفو حياتها.. و وجود أروى يثير توترها… و لا يمكنني إرسال أروى و أمها إلى المزرعة و العيش مع رغد هنا وحدنا ! ”
قال سيف مباشرة :
” صعب ! ”
” بل مستحيل ! ”
قال مقترحا :
” و لماذا لا تدعها مع خالتها كما فعلت سابقا يا وليد ؟ ”
قلت و أنا أهز رأسي :
” أبدا يا سيف… لا يمكنها الاستغناء عن وجودي و قربي … ”
سيف نظر متشككا ثم قال :
” أو… ربما العكس ! ”
حملقنا في بعضنا البعض قليلا… و شعرت بابتسامة حمراء تشق طريقها بين شفتي !
سيف قال مازحا :
” وليد الضخم… بطوله و عرضه و عضلاته المفتولة…تشل تفكيره فتاة صغيرة ؟!”
ابتسمت و أنا أقول :
” و ليست أي فتاة ! ”
و بدا الجد على وجه سيف و قال :
” فكّر في الأمر مليا يا وليد… الشرارة و البنزين لا يجتمعان في مكان واحد ! ”
كان سيف محقا فيما يرمي إليه…
قلت مغيرا الموضوع مباشرة :
” هل قابلت السيد أسامة ؟ ماذا قرر ؟ ”
ابتسم سيف و قال :
” هنيئا لك ! لقد كسبت حب و تقدير هذا الرجل و لذلك وافق على العمل معك ! ”
أطلقت صيحة فرح و هتفت :
” آه … وافق أخيرا ! الحمد لله ! شكرا لك يا سيف ”
و كنت قد طلبت من سيف مساعدتي في محاولة إقناعه بالعودة للعمل معي… فقد كنت بحاجة ماسة للمعونة من رجل بمثل خبرته و أمانته… و هذا الخبر أبهجني كثيرا تلك الليلة…
و لم أدرك أنني سأدفع ثمن بهجتي هذه … عاجلا جدا !
~~~~~~~
احتراما لضيفتنا، تظاهرت بالسرور و أخفيت كل الغضب في داخلي… و شاركت الجميع طعام العشاء الذي أعدته الشقراء و أمها… و كانتا المسؤولتين عن الطهي و شؤون المطبخ… تساعدهما خادمة وظفها وليد منذ فترة…
كانت الشقراء ترتدي بلوزة جميلة عارية الكمين و الكتفين … و تتزين بعقد ثمين من اللؤلؤ اشترته مؤخرا… و تلون وجهها الأبيض ببعض المساحيق… و تبدو في غاية الجمال و الأناقة… و لا بد أنها أثارت إعجاب ضيفتنا و أبهرتها في كل شيء…
و بعد خروج الضيوف ذهبت هي و بكامل زينتها و مباشرة إلى حيث كان وليد…
أما أنا فصعدت إلى غرفتي لاستبدل ملابسي…
نظرت إلى نفسي عبر المرآة و تخيلت صورتها إلى جواري فشعرت بالحنق و الغيظ… و رغبت في تمزيقها…
لم استطع تجاهل صورتها و هي تعيّرني بأنني أعيش عالة على ثروتها… ولم أتحمّل تخيلها و هي تجلس هكذا قرب وليد…
تملّكتني رغبة ملحة في الذهاب إلى وليد و إخباره عما قالت في الحال… و وضع حد نهائي لحالتي البائسة معها…
فتحت خزانتي و استخرجت جميع المجوهرات التي أنقذتها من حطام بيتنا المحروق… مجوهراتنا أنا و دانة و أمي رحمها الله… و أخذت أتأملها و أشعر بالألم… فهي كل ما تبقى لي…و لم أتصور أنني سأفرط فيها ذات يوم…
جمعتها كلها في علبتين كبيرتين و وضعتهما في كيس بالإضافة إلى البطاقة المصرفية التي منحني إياها وليد و كذلك الهاتف المحمول…
حملت الكيس و خرجت من غرفتي سعيا إلى وليد فوصلني صوت ضحكاته هو و الشقراء… ترن في أنحاء المنزل !!
كدت أصفع الكيس بأحد الجدران و أحطم محتوياته غيظا…
ذهبت إلى غرفة الجلوس … مصدر الضحكات… و كان الباب مفتوحا و من خلاله رأيت ما زلزني …
كان وليد شبه مستلق ٍ على المقعد و أروى الحسناء تجلس ملتصقة به… تمد إحدى يديها فوق كتفه و تطعمه المكسرات بيدها الأخرى….
كانا يشاهدان التلفاز ويبدو على وليد المرح و البهجة الشديدين… و هو يمضغ المكسرات… حينما رأياني ابتسم وليد و جلس معتدلا بينما أشاحت هي بوجهها عنّي…
” تعالي رغد ”
قال مرحبا ً … و الدماء الحمراء تتدفق إلى وجهه…
” هذه المسرحية مضحكة جدا ! ”
وقفت كالتمثال غير مستوعبة بعد للقطة الحميمة التي رأيتها تجمعهما سوية… أما النار فكانت تتأجج في صدري حتى أحرقته و فحّمته…
لم أتحرّك و لم أتكلّم… و ربما حتى لم أتنفس… فأنا لا أشعر بأي هواء يدخل صدري…
تبادل وليد و أروى النظرات و من ثم نظرا إلى الكيس…
قال وليد :
” أهناك شيء ؟ ”
أردت أن أخنق صوته… أقتل ضحكاته… أكسر فكّه الذي يمضغ المكسرات… أن أصفعه… أن أضربه… أن أمزقه بأظافري…
تبا لك يا وليد !
قلت باقتضاب :
” أريد التحدث معك ”
قال مباشرة و قد زال المرح و حلت أمارات الجد على وجهه العريض :
” خير؟ تفضلي ؟ ”
و الدخيلة لم تتحرك! لا تزال جالسة ملتصقة بوليد تقضم المكسرات…
إنني أوشك على ركلها بقدمي غيظا…
قال وليد :
” ما الأمر ؟ ”
تقدّمت نحوه… و الغضب يغلي في داخلي و رميت إليه بالكيس بعنف… و لو لم أتمالك نفسي لربما رميت به على أنفه و هشّمته من جديد…
الكيس استقر تحت قدميه… فنظر إليه بتعجب و سأل :
” ما هذا ؟ ”
قلت بانفعال :
” مجوهراتي ”
ازداد تعجّب وليد فقلت موضحة :
” أعرف أنها لن تغطّي كل ما أنفقتـَه علي ّ منذ رحيل والدينا… لكن… هذا كل ما أملك ”
قبل ثوان كان وليد مسترخ على المقعد و الآن أصبح على أهبة النهوض!
” ماذا تعنين يا رغد ؟ ”
قلت بعصبية :
” خذها… حتى لا يعيّرني الآخرون بأنني عالة على ثرواتهم ”
و رميت أروى بقنبلة شرر من عيني…و وليت هاربة…
ربما ارتطمت بجدار… أو تعثرت بعتبة… أو انزلقت أرضا… لم أكن أرى الطريق أمامي… لم أكن أرى غير اللقطة الحميمة تجمع بين الحبيبين …
وليد لحق بي و استوقفني و أنا عند أصعد عتبات الدرج و هو يقول بحدة :
” انتظري يا رغد… افهميني ما الذي تعنينه ؟ ”
استدرت إليه فرأيت أروى مقبلة خلفه نظرت إليهما بحدة ثم حملقت في أروى و قلت بعصبية :
” اسألها ”
وليد استدار إلى أروى ثم إلي ثم إليها و سأل بحيرة :
” ما الذي حدث؟ افهماني ؟ ”
قلت :
” بقي فقط ثمن التذكرة… و سأطلب من خالتي دفعها إليك حالما توصلني إليها… و الآن هل لا أعدتني إلى خالتي ؟ ”
زمجر وليد بانزعاج :
” ما الذي تقصدينه يا رغد ؟؟ أنا لم أفهم شيئا… هل لا شرح لي أحد ماذا يحدث ؟ ”
و التفت نحو أروى…
أروى قالت :
” أنا لم أعن ِ شيئا مما فهمت ْ ”
تقصدني بذلك، فأفلتت أعصابي و صرخت :
” بل تعنين يا أروى… إنك تعيريني لعيشي عالة متطفلة على ابن عمي… لكن اعلمي أنه من أجبرني على الحضور معه… و لو كان لدي أبوان أو أهل أو حتى بيت يؤويني ما اضطرني القدر للمكوث معك ِ أنت ِ تحت سقف واحد ”
بدا الذهول طاغيا على الأعين الأربع التي كانت تحدّق بي… ذهول ألجم لسانيهما عن النطق مباشرة…
” لكنهما ماتا… وبيتي احترق… و لم يتبقّ َ لي شيء غير هذه الحلي… خذاها و دعاني أرحل بكرامتي… ”
وليد قال منفعلا :
” ماذا أصابك يا رغد ؟ هل جننت ِ ؟ ”
قلت بعصبية أكبر :
” أرجوك… أعدني إلى خالتي… إن كانت كرامتي تهمك في شيء ”
” أي كرامة و أي جنون…؟؟ ”
و التفت إلى أروى بغضب :
” ماذا قلت ِ لها ؟ ”
أروى قالت مدافعة مهاجمة في آن معا :
” لاشيء… طلبت منها أن تحترمني… عوضا عن رسمي بتلك الصورة المهينة…”
وليد كرر بغضب و عصبية :
” ماذا قلت لها يا أروى ؟؟ تكلّمي ؟ ”
قالت أروى :
” الحقيقة يا وليد… فهي تعيش على ثروتي و عنائك… و لا تقدر و لا تحترم أيا منا ”
دار وليد دورة حول نفسه من شدة الغضب و لم يعرف ما يقول… رأيت وجهه يتقد احمرارا و أوداجه تنتفخ و صدره يزفر الهواء بعنف…
ضرب سياج الدرج بقبضته بقوة و صرخ بغضب :
” كيف تفعلين هذا يا أروى ؟ ”
قالت أروى بانفلات أعصاب :
” إن كان يرضيك ذلك فأنا لا يرضيني… و إن كنت تتحمّلها لكونها ابنة عمّك فما ذنبي أنا لأتحمّل الإحسان إلى و الإهانة من فتاة ناكرة الجميل ؟ ”
هيجتني جملتها أكثر و أكثر و أثارت جنون جنوني… و صرخت بتهوّر :
” أنا لا انتظر الإحسان من أحد… وليد ينفق علي لأنه الوصي علي ّ و المسؤول عن مصروفاتي… و هو من اختار كفالتي بعد عمّي… ألا ترين أنني يتيمة و بلا معيل؟ أنا أهلي لم يتركوا لي إرثا عندما ماتوا جميعا… مثل عمّك… و هذه الثروة التي تعيرينني بها… وليد هو الأحق بها منك ِ أنت ِ و من أي إنسان آخر في هذا الكون ”
و توقفت لألتقط بعض أنفاسي … ثم قلت موجهة خطابي لوليد :
” أخبرها بأنها من حقك أنت ”
وليد هتف بانفعال :
” رغد ! ”
قلت بإصرار :
” أخبرها ”
صرخ وليد :
” يكفي يا رغد ”
التفت أنا إلى أروى المذهولة بكلامي و أعلنت دون تردد :
” إنها لن تعوّض ثمن السنوات الثماني التي قضاها في السجن حبيسا مع الأوغاد… بسبب ابن عمّك الحقير الجبان ”
” رغد ”
انطلقت صرخة من وليد… ربما كان هي المعول الذي كسر السد…
انجرف كلامي كالسيل العارم يأبى الوقوف عند أي شيء…
” و بعد كل الذي سببه الحقير لي… و لابن عمّي… تأتين أنت ِ لتعكري صفو ما تبقى من حياتي… ألا يكفي ما ضاع منها حتى الآن ؟؟ ألا يكفي ما عنيته و أعانيه حتى اليوم؟؟ أنا أكرهك يا أروى … أكرهك و أتمنى أن تختفي من حياتي… أكرهك … أكرهك … ألا تفهمين ؟؟ ”
رميت الاثنين بنظرة أخيرة ملؤها الغضب… أروى مستندة إلى الحائط في ذهول رهيب… أشبه بلوحة مذعورة… و وليد عند أسفل عتبات الدرج تتملكه الدهشة و المفاجأة…
” لماذا تجبرني على العيش معها يا وليد ؟؟ لماذا ؟؟… إن كنت تحبّها فأنا أكرهها… و أكرهك أنت أيضا… و لا أريد العيش معكما… أنتما تتعسان حياتي… أكرهكما سوية… أعدني لخالتي… أعدني لخالتي… يا بليـــــــــــــــــد ”
فجرت هذه الجملة و انطلقت مسرعة نحو غرفتي