روايه انت لي الحلقه 40 جزء 1 و 2

11 14٬017
 

روايه انت لي الحلقه 40 جزء 1 و 2

روايه انت لي الحلقه 40 جزء 1 و 2

روايه انت لي الحلقه 40 جزء 1 و 2

روايه انت لي الحلقه 40 جزء 1 و 2 , معكم صديقة زاكي الشيف الموهوبة ,leen

الحلقة الاربعون الجزء 1

~ مُفترق الطرق ~

وقفتُ عند أسفل عتبات السلّم… مأخوذا بهول ما سمعتُ… مشلول الإرادة…

اختفتْ رغد بعدما صرختْ في وجهي ( أكرهكَ يا بليد )

إن أذني ّ لم تسمعا… إنما هو قلبي الذي اهتز بعنف بعد الصدمة…

التفتُ إلى الوراء بجهد فرأيتُ أروى تقف ملتصقة بالجدار محملقة بي تكاد بنظراتها تثقبُ عيني ّ فيما تعبيرات الذهول طاغية على وجهها الملوّن…

كانتْ أمسية جميلة و قد استمتعتُ فيها مع سيف و طفله… ثم سهرتُ مع أروى نشاهد مسرحية فكاهية رائعة… كان كل شيء رائعا قبل قليل…

لماذا يا رغد ؟

لماذا ؟؟

” وليد ”

الحروف خرجتْ متقطّعة من فم أروى المصعوقة بما سمعتْ… و بالتأكيد تريد الآن أن تسمع من جديد…

” وليد… وليد… ماذا قالتْ رغد ؟؟ ”

ركّزتُ نظري في أروى … و لم أرد…

أروى اقتربتْ منّي خطوة بعد خطوة ببطء … كأن قدميها قد ثقلتا فجأة و ما عادتْ بقادرة على رفعهما

و لما صارتْ أمامي أبعدتُ نظري عن عينيها… فقد كانتْ نظراتها قوية جدا… و مركزة جدا إلا أنها سرعان ما مدّتْ يدها إلي و سألتْ :

” وليد … أنت َ … أنت َ … من… قتل عمّار ؟؟ ”

سماع اسمه أجبر عينيّ على العودة فورا إلى عينيها المذهولتين

” وليد …؟؟ أنت …!! ”

أجبتُ أخيرا :

” نعم … أنا من قتل عمار القذر… ابن عمّك ”

أروى رفعتْ يدها بعيدا ثم وضعتْها على فمها و شهقتْ بقوة.. و تجمّدتْ اللحظة ساعة أو عاما أو حتى قرنا من الزمان…

لم أحس إلا بقطرات العرق تسيل على جسمي… و بالحرارة تنبعثُ منه…

و لم استطع تحرير بصري من قيد عينيها…

بدأتْ الآن تهزّ رأسها في عدم تصديق و دهشة ما مثلها دهشة…

” لا … لا أصدّق ! وليد !”

و التقطتْ بعض أنفاسها و تابعتْ :

” كل… هذا الوقت… و أنتَ … تخفي عنّي ؟؟ لا أصدّق ! ”

و مرّة أخرى حرّكتْ يدها نحوي و أمسكتْ بكتفي

” غير صحيح ! وليد أنتَ … تمزح ”

قلتُ بحزم :

” قتلتُه و دخلتُ السجن… و لستُ نادما… هذه هي الحقيقة… هل عرفت ِ الآن ؟ ”

ابتعدتْ أروى عنّي و هي تهتفُ :

” لا … لا … ”

ثم توقفتْ فجأة و استدارتْ إليّ و قالتْ :

” لماذا ؟؟ لماذا قتلته ؟ ”

قلتُ مباشرة :

” لأنه يستحق الموت… الحيوان… القذر… الحقير… ”

عادتْ تسأل مندهشة مبحوحة الصوت :

” لماذا ؟ ”

جوابي كان بضربة سددتُها إلى سياج السلم الخشبي كدتُ معها أن أحطّمُه…

أروى كررتْ :

” لماذا ؟ أخبرني ”

و لما لم أجبها أقبلتْ نحوي مجددا و أمسكتْ بذراعي ّ الاثنتين و هتفتْ :

” أخبرني لماذا ؟؟ لماذا ؟؟؟ ”

صرخت ُ بانفعال :

” لأنه حيوان… ألا تعرفين معنى حيوان ؟؟ ”

أروى تهزُّ رأسها و تقول:

” ماذا تخفي عنّي يا وليد ؟؟ قلْ لي ؟؟ لماذا أخفيتَ هذا عنّي ؟؟ لماذا لم تخبرني لماذا ؟ ”

و بدأتْ دموعها بالانهمار…

شعرتُ بأني أختنق… الهواء من حولي لم يكن كافيا لملء رئتيّ… أبعدتُ يديها عني و أوليتُها ظهري و سرتُ متجها نحو مدخل المنزل…

نادتني أروى:

” إلى أين تذهب ؟؟ لا تدعني هكذا يا وليد… قل لي ما الذي تخفيه عنّي ؟؟”

لم أجبها فقد كنتُ من الضيق و الغضب ما يكفي لأن أدمّر مدينة بكاملها…

” وليد إلى أين ؟ ”

صرختُ :

” دعيني و شأني يا أروى ”

و أسرعتُ نحو الباب و غادرتُ المنزل…

الساعة آنذاك كانتْ منتصف الليل… و لم أكن لأغادر المنزل في مثل هذا الوقت لو أن الضيق لم يصل بي إلى حد الاختناق…

كنتُ أريد أن أهدأ بعيدا…

أعيد عرض الشريط و أركز فيما حصل…

استوعب الحدث و أفكر فيه…

توجهتُ نحو البحر…أرفس رماله و أرجم أمواجه إلى أن أفرغتُ ما في صدري من ثورة في قلبه… و لو كان يتكلم لصرخ صرخة تصدعتْ لها كواكب المجرة من فرط الألم…

و كإنسانٍ مجردٍ من أي اعتبارات… على سجيته و فطرته… أطلقتُ العنان لدموعي… و بكيتُ بألم…

تفقدتُ ساعتي فلم أجدها و تحسستُ جيوبي بحثا عن هاتفي فلم أعثر سوى على سلسلة مفاتيحي… السلسلة التي أهدتني إياها رغد ليلة العيد…

لا أدري كم من الوقت مضى و لكني لمحتُ أول خيوط الفجر يتسلل عبر عباءة السماء…

عندما وصلتُ إلى المنزل… وجدتُه يغط في سكون مخيف…

أردتُ أن أتفقد الفتاتين… وجدتُ أروى نائمة في غرفتها و قد تركتْ الباب مفتوحا و المصابيح مضاءة فاستنتجتُ أنها نامتْ بينما كانت تنتظر عودتي…

توجهتُ نحو غرفتي و توقفتُ عند الجدار الفاصل بين بابها و باب غرفة رغد

و استعدتُ ذكرى الليلة الماضية و اشتعل الألم في معدتي…

أديت صلاتي ثم ارتميتُ على سريري و عبثا حاولتُ النوم… لم أنم و لا لحظة واحدة

و عاصرتُ بزوغ الشمس و مراحل سباحتها في كبد السماء ساعة ً ساعة و حمدتُ الله أنه كان يوم إجازة و إلا لتغيبتُ عن العمل من شدة التعب…

لم أفعلْ شيئا سوى التفكير و التفكير…

و عند نحو العاشرة و النصف سمعتُ طرقا على الباب…

” تفضّل ”

لقد كانتْ أروى…

و على غير العادة لم نبدأ حديثنا بالتحية…

” هل استيقظتَ ؟ ”

سألتني و وجهها يسبح في الحزن…

” بل قولي : هل نمتَ ؟ ”

لم تعلق أروى، ثم قالتْ :

” أيمكننا التحدث الآن ؟ ”

” تفضلي ”

و بالطبع تعرفون عم سنتحدث…

” أريد أن أعرف… تفاصيل مقتل عمار… و لم أخفيتَ الحقيقة عني… و ما علاقة كل هذا برغد ؟ ”

تنهدتُ ثم قلتُ :

” هل… سيغير ذلك شيئا ؟ ”

أروى قالتْ بسرعة :

” بالطبع… سيغيّر الكثير… ”

و لا أدري ما قصدتْ بذلك… و لم يعد يهمني ما قد يحدث…. في نظري الآن… لا شيء يستحق الاهتمام…

” حسنا يا أروى… لقد سبق و أن أخبرتُك بأنني انتظر الوقت المناسب لأطلعكِ على أمر مهم… و لم يعد هناك معنى للصمت بعد الآن ”

” إذن … اخبرني بكل شيء … ”

تنهّدتُ تنهيدة مريرة… خرجتْ من صدري عجوزا واهنة لم تجد ما تتكئ عليه… و سرعان ما هوتْ في أعماق الذكريات…

” قبل أكثر من تسع سنوات… قتلتُ عمار… و دخلتُ السجن… و هناك تعرّفتُ إلى والدك… بمحض الصدفة… و قبل وفاته أوصاني بكِ و بأمكِ خيرا… و ماتَ و هو لا يعرف أنني… من قتل ابن أخيه أو ربما لا يعرف حتّى… أن ابن أخيه قد قُتِل ”

كانتْ أروى تصغي إلي باهتمام…

و عندما توقفتُ نظرتْ إلي بتعجب و قالتْ:

” هذا كل شيء ؟ ”

قلتُ بضيق باد ٍ :

” نعم ”

هزّتْ رأسها استنكارا و قالتْ:

” لا تخفي عنّي شيئا يا وليد… اخبرني بالحقيقة كاملة ”

” ماذا تريدين أن تعرفي ؟ ”

” لماذا قتلتَ عمّار ”

التزمتُ الصمت

” لماذا يا وليد ؟ ”

أجبتُ :

” فيم يهمّك ذلك ؟ ”

” بالتأكيد يهمني أن أعرف ”

قلتُ :

” لم يكن ذلك يهمّك … سابقا ”

صمِت ّ قليلا ثم قلتُ :

” أتذكرين ؟؟ ارتبطت ِ بي و لم تسأليني لِمَ دخلتُ السجن… و من قتلتُ… و لماذا ..”

أروى قالتْ :

” لكن… ذلك كان قبل أن أكتشف أن الضحية كان ابن عمّي ”

هيجتني الجملة فهتفتُ منفعلا :

” الضحية ؟؟ تقولين عن ذلك الحقير الضحية ؟؟ ”

حملقتْ أروى بي ثم انطلق لسانها مندفعاً :

” هذا ما يثير جنوني… لماذا تنعته بالحقير و القذر؟ ماذا فعل؟ ماذا حصل؟ ما الذي كان بينكما؟ و لماذا قتلته؟ ”

لم أجب…

” وليد أجبني ؟ ”

أشحتُ بوجهي بعيدا… لكنها حاصرتني من كل الجوانب

” لماذا لا تريد أن تجيب يا وليد ؟؟ بدايةً… أنا لا أصدق أنك يمكن أن تقتل رجلاً مهما حصل… فلماذا قتلتَ ابن عمّي ؟ ”

قلتُ منفعلا :

” لا تشيري إليه بـ ( ابن عمّي ) فهذا يثير التقزز يا أروى ”

” وليد ! ”

قلت ُ بصبر نافذ :

” اسمعي يا أروى… لا استطيع أن أفصح عن السبب… لقد قتلتُه و انتهى الأمر… و لستُ نادما… و لن أندم يوما على ذلك… ”

ثم استطردت ُ :

” أرجوك ِ يا أروى… أنا متعب للغاية… هذا يكفي الآن ”

الحيرة تملكتْ أروى ممزوجةً بالفضول الشديد… و أصرتْ على معرفة المزيد لكنني امتنعتُ عن البوح بالحقيقة…

فجأة سألتْ :

” هل… تعرف رغدُ ذلك ؟ ”

و ربما للانفعال الذي ظهر على وجهي استنبطتْ هي الجواب دون أن أنطق…

ثم بدا عليها بعض التردد و قالتْ أخيرا :

” و … هل … لثروتي علاقة بذلك ؟ ”

نظرتُ إليها مستغربا و سألتُ:

” ثروتك؟؟ ماذا تعنين؟ ”

قالت :

” أعني… هل كنتَ تعرف… عن ثروة عمّي قبل زواجنا ؟ ”

صُعقتُ من سؤالها… وقفتُ فجأة مذهولا كمن لدغته أفعى…

قلتُ :

” ما الذي تقولينه؟؟ ”

أروى وقفتْ بدورها و أفلتتْ أعصابها منطلقة:

” أنا لا أعرف ما الذي أقوله… لا أعرف كيف أفكّر… قبل ساعات اكتشفتُ أن خطيبي هو قاتل ابن عمّي… و أنتَ تخفي عني الحقيقة… و ترفض البوح بشيء… كيف تريدني أن أفكّر يا وليد أنا أكاد أجن … ”

حقيقة لم أرَ أروى بهذه الحالة من قبل…

قلتُ بعصبية :

” لا علاقة لهذا بزواجنا يا أروى… لا تذهبي بأفكارك إلى الجحيم ”

صرختْ :

” إذن قل لي الحقيقة ”

” أي حقيقة يا أروى بعد ؟؟ ”

” لماذا قتلتَ عمار و لماذا أخفيتَ الأمر عنّي ؟؟ و لماذا لا تريدني أن أعرف السبب ؟ ”

وضعتُ يدي على جبيني و ضغطت على صدغي ّ حائلا دون انفجارهما…

” لماذا يا وليد ؟ ”

صرختُ :

” أرجوك يا أروى… لا تضغطي علي… لا استطيع إخبارك عن الأسباب… ”

احمرّ وجه أروى الأبيض غضبا و قالتْ و هي تهمّ بالمغادرة :

” سأعرفُ الأسباب… من رغد إذن ”

و انطلقتْ نحو الباب

أبعدتُ يدي عن رأسي فجأة و تركتُه ينفجر صداعا قاتلا… و هتفتُ بسرعة :

” أروى انتظري ”

لكن أروى كانت قد غادرتْ الغرفة و لالتصاق غرفتي بغرفة رغد سرعان ما مدّتْ ذراعها و طرقتْ باب رغد و نادتها

أسرعتُ خلفها محاولا منعها

” توقفي يا أروى إيّاكِ ”

قلتُ ذلك و أنا أبعدُ يدها عن الباب…

” دعني يا وليد… أريد أن أعرف ما تخفيانه عني… ”

جذبتُ أروى بقوة حتى آلمتُها و صرختُ بوجهها :

” قلتُ توقفي يا أروى ألا يكفي ما فعلتِه بالأمس ؟؟ يكفي ”

” أنا ؟ ما الذي فعلتُه ؟ ”

” ما قلتِه لرغد عن ثروتكِ و عما ننفقه من ثروتكِ… و أنتِ تعلمين يا أروى أنني احتفظ بسجل لكل المصروفات… و أنّ ما أعطيها إياه هو من راتبي أنا و مجهودي أنا… ”

هنا فُتِح الباب و أطلتْ منه رغد…

أول ما اصطدمتْ نظراتنا تولّد شرر أعشى عينيّ…

هل رأيتموه ؟؟

حملقنا ببعضنا قليلا… و الطيور على رؤوسنا نحن الثلاثة…

أول ما تكلمتْ رغد قالت بحدة:

” نعم ؟ ماذا تريدان ؟ ”

و نقلتْ بصرها بيننا… و لم ننطق لا أنا و لا أروى…

قالتْ رغد:

” من طرق بابي ؟ ”

هنا أجابتْ أروى:

” أنا ”

سألتْ رغد بغضب:

” ماذا تريدين ؟ ”

أروى ترددتْ ثوانٍ لكنها قالت:

” سأسألك سؤالا واحدا ”

هنا هتفتُ رادعا بغضب :

” أروى… قلتُ كلا ”

التفتتْ إليّ أروى محتجةً :

” و لكن يا وليد ”

فصرختُ مباشرة و بصرامة :

” قلتُ كلا … ألا تسمعين ؟ ”

ابتلعتْ أروى سؤالها و غيظها و أشاحتْ بوجهها و انصرفتْ من فورها…

لم يبقَ إلا أنا و رغد… و بضع بوصات تفصل فيما بيننا… و شريط البارحة يُعرض في مخيلتنا… عيوننا متعانقة و أنفاسنا مكتومة…

تراجعتْ رغد للخلف و همّتْ بإغلاق الباب …

” انتظري ”

استوقفتها… لم أكن أريدها أن تبتعد قبل أن أرتاح و لو قليلا…

” ماذا تريد ؟ ”

سألتني فقلتُ بلطفٍ و رجاء :

” أن نتحدّث قليلا ”

فردتْ بحدة و جفاء :

” لا أريد التحدث معك… دعني و شأني ”

و دخلتْ الغرفة و أغلقتْ الباب بهدوء… لكنني شعرتُ به يصفع على وجهي و أكاد أجزم بأن الدماء تغرق أنفي…

جلستُ في الصالة مستسلما لتلاعب الأفكار برأسي تلاعب المضرب بكرة التنس… بعد ذلك رغبتُ في بعض الشاي علّه يخفف شيئا من صداع رأسي…

هبطتُ إلى الطابق السفلي و إلى المطبخ حيث وجدتُ أروى و خالتي تجلسان بوجوم حول المائدة…

حييتُ خالتي و شرعتُ بغلي بعض الماء…

” وليد ”

التفتُ إلى أروى… التي نادتني و رأيتُ في وجهها تعبيرات الجد و الغضب…

” أريدُ العود إلى المزرعة ”

حملقتُ في أروى غير مستوعبٍ لجملتها الأخيرة هذه… سألتُ :

” ماذا ؟ ”

أجابتْ بحزم :

” أريد العودة إلى المزرعة… و فورا ”

التفتُ إلى خالتي فهربتْ بعينيها إلى الأرض… عدتُ إلى أروى فوجدتُها تنتظر جوابي

قلتُ :

” ماذا تقولين ؟ ”

” ما سمعتَ يا وليد… فهل لا دبّرت أمر عودتنا أنا و أمي الآن ؟؟ و إذا لم تستطع مرافقتنا فلا تقلق. نستطيع تدبير أمورنا في المطار و الطائرة ”

عدتُ أنظر إلى خالتي فرأيتُها لا تزال محملقة في الأرض…

” خالتي … ”

التفتتْ إلي فسألتُ :

” هل تسمعين ما أسمع ؟ ”

الخالة تنهدتْ قليلا ثم قالتْ :

” نعم يا بني. دعنا نعود لأرضنا فقد طال بعدنا و أضنانا الحنين ”

أدركتُ أن الأمر قد تمتْ مناقشتُه و الاتفاق عليه من قِبلهما مسبقا… عدتُ أكلم أروى:

” ما هذا القرار المفاجئ يا أروى… غير ممكن … تعلمين ذلك ”

أروى قالت بحدة :

” أرجوك يا وليد… لستُ أناقش معك تأييدك من عدمه… أنا فقط أعلمك عن قراري و أريد منك شراء التذاكر… ”

” أروى !! ”

” و هذا قرار نهائي و لا تحاول ثنيي عنه…رجاء ً يا وليد احترم رغبتي …”

و عبثا حاولتُ … و باءتْ محاولاتي بالفشل… و أصرتْ أروى و أمها على العودة إلى المزرعة و بأسرع ما يمكن…

تركتُ الماء يغلي و يتبخر و ربما يحرق الإبريق… و خرجتُ من المنزل… لم يكن لدي هدف و لكنني أرت الابتعاد قبل إثارة شجار جديد…

حاولتُ إعادة تنظيم أفكاري و حلولي فأصابني الإعياء من كثرة التفكير…

عندما عدتُ وقت زوال الشمس… كانتْ أروى و خالتي قد حزمتا أغراضهما في الحقائب…

” بالله عليك يا أروى… تعلمين أنه لا يمكنكما السفر… ”

قالت :

” لماذا ؟ ”

قلتُ :

” تعرفين لماذا… لا يمكن أن… نبقى أنا و رغد بمفردنا ”

و كأن كلامي هذا أشعل الجمر في وجهها… إني لم أرَ أروى غاضبة بهذا الشكل من ذي قبل…

” من أجل رغد ؟ لقد انتهينا يا وليد… أنا لم يعد يهمني ما تفعله و ما لا تفعله من أجل رغد… دبر أمورها بعيدا عني… لا علاقة لي بهذه الفتاة من الآن فصاعدا ”

و تركتني و غادرتْ المكان…

وقفتُ حائرا غير قادر على التصرف… خاطبتني خالتي آنذاك :

” دعنا نذهب يا بني فهذا خيرٌ لنا ”

قلتُ معترضا :

” كيف تقولين ذلك يا خالتي؟؟ تعرفين أن رغد تدرس في الكلية و لا يمكنني العودة بها إلى المزرعة و لا البقاء معها هنا وحيدين… أرجوكِ يا خالتي قدري موقفي… أرجوك … اقنعي أروى بتغيير قرارها المفاجئ هذا ”

لكن خالتي هزتْ رأسها سلبا… و قالتْ:

” ابنتي متعبة يا وليد… لقد لقيَتْ منك و من ابنة عمّك الكثير… رغم كل ما تفعله من أجلك… أنتَ صدمتها بقوة… و صدمتني كذلك… دعنا نعود إلى مزرعتنا نتنفس الصعداء… يرحمك الله ”

لم أجرؤ على إطالة النظر في عينيها أكثر من ذلك… و لم أجسر على قول شيء… شعرتُ بالخجل من نفسي و أنا أقف حاملا ذنبي الكبير …أمام كل ما فعلتْه عائلة نديم لي عبر كل تلك الشهور…

كم أشعر بأنني خذلتهم… و صدمتهم…

لكن…

ألم يكونوا يعرفون بأنني قاتل مجرم خريج سجون؟؟

هل يفرق الأمر فيما لو قتلتُ عمار عما لو قتلتُ غيره ؟؟

هل كان علي أن… أبوح بسري إلى أروى منذ البداية؟؟

كان يوما من أسوأ أيام حياتي… حاولتُ النوم من جديد بلا جدوى… و حاولتُ الذهاب إلى رغد و لم أجرؤ… و حاولتُ التحدث مع أروى فصدتني…

قبل غروب الشمس، ذهبتُ إلى أحد مكاتب شركة الطيران و حجزتُ أربعة تذاكر سفر إلى الشمال…

عدتُ بعد صلاة العشاء حاملا معي طعاما جلبتُه من أحد المطاعم…

كنتُ أشعر بالجوع و التعب و آخر ما أكلته كان بعض المكسرات ليلة أمس… كما و أن أروى لم تعد أي وجبة هذا اليوم…

” أحضرتُ أقراص البيتزا لنا جميعا… دعونا نتناولها فلابد أنكما جائعتان مثلي ”

قلتُ ذلك و أنا أضع العلب الأربع على المنضدة في غرفة المعيشة، حيث كانت أروى و الخالة تجلسان و تشاهدان التلفاز…

الخالة ابتسمتْ ابتسامة سطحية أما أروى فلم تتحرك…

فتحتُ علبتِي و اقتطعتُ قطعة من البيتزا الساخنة و قضمتُها بشهية…

” لذيذة… تعالي يا أروى خذي حصّتك ”

و مددتُ باتجاهها إحدى العلب… أروى لم تتحرك… فقلتُ مشجعا :

” إنها لذيذة بالفعل ”

أتدرون بم ردّتْ ؟

” خذها لابنة عمك… لابد أنها الآن تتضور جوعا و هي حبيسة غرفتها منذ البارحة ”

فوجئتُ و اغتظتُ من ردّها… و ما كان منّي إلا أن وضعتُ العلبة على المنضدة مجددا و أعدتُ قطعتي إلى علبتها كذلك…

الجو غدا مشحونا… و حاولتْ خالتي تلطيفه فأقبلتْ نحوي و أخذتْ إحدى العلب… و وضعتها بينها و بين أروى و بدأتْ بالأكل…

أما أروى فلم تلمسها…

حملتُ العلبة الثالثة و قلتُ و أنا أغادر الغرفة:

” نعم… سآخذها إليها ”

و لا أدري بم تحدثتا بعد انصرافي…

حالما طرقتُ باب رغد و تحدثتُ إليها :

” أحضرتُ لك ِ قرص بيتزا… تفضلي ”

ردتْ علي :

” لا أريد منك شيئا…”

امتصصتُ ردها المر رغما عني، و أجبرتُ لساني على الكلام :

” لماذا يا رغد؟ إلى متى ستصومين؟ هل تريدين الموت جوعا؟ ”

و ردّتْ علي :

” أكرم لي من الأكل من ثروة الغرباء ”

استفزني ردها فطرقتُ الباب بانفعال و أنا أقول :

” ما الذي تقولينه يا رغد؟ افتحي الباب و دعينا نتحدّث ”

لكنها صاحتْ:

” دعني و شأني ”

فما كان منّي إلا الانسحاب… مكسور الخاطر…

استلقيتُ على أريكة في الصالة العلوية… وسط الظلام… لا أرى إلا السواد يلون طريقي و عيني و أفكاري…

و مرتْ الساعة بعد الساعة… و الأرق يأكل رأسي… و الإجهاد يمزق بدني و الجوع يعصر معدتي… و يهيج قرحتي… و لم يغمضْ لي جفن أو يهدأ لي بال…

بعد سكون طويل سمعتُ صوت أحد الأبواب ينفتح…

لابد أنها رغد… إذ أن أروى و الخالة تنامان في غرفتين من الناحية الأخرى من المنزل، بعيدتين عن الصالة و عن غرفتينا أنا و رغد…

أصغيتُ السمع جيدا… شعرتُ بحركة ما… فقمتُ و حثثتُ الخطى نحو غرفة رغد…

رأيتُ الباب مفتوحا و يبدو أنها قد غادرتْ قبل ثوان…

وقفتُ عند الباب منتظرا عودتها… و أنا بالكاد أحملُ جسدي على رجلي… و استندُ إلى الجدار الفاصل فيما بين غرفتينا ليمنحني بعض الدعم…

كنتُ بحاجة لأن أراها و أكلمها و لو كلمة واحدة… عل ّ عيناي تأذنان بإسدال جفونهما…

بعد قليل أقبلتْ رغد…

و انتفضتْ حالما رأتني… و كذلك أنا… تشابكتْ نظراتنا بسرعة… و انفكّت بسرعة!

رغد كانتْ تحمل قارورة مياه معدنية… و كانت ترتدي ملابس النوم… و بدون حجاب…

أبعدتُ نظري عنها بتوتر و أنا أتنحنح و أستديرُ نحو باب غرفتي و افتحه و أخطو إلى الداخل… على عجل… و من ثم أغلق الباب… بل و أوصده بالمفتاح !

وقفتُ خلف الباب لبعض الوقت… أتصبّب عرقا و اضطرب نفسا و أتزايد نبضا… و أشدّ و أرخي عضلات فكي في توتر… حتى سمعتُ باب غرفة رغد ينغلق…

و نظرتُ إلى الجدار الفاصل بين غرفتينا… و اعتقد … إن لم يكن السهر قد أودى بعقلي… أنني رأيتُ رغد من خلاله !

إنني أراها و أشعر بحركاتها… و أحس بالحرارة المنبعثة منها أيضا !

مرتْ دقائق أخرى و أنا لا أزال أشعر بها موجودة حولي… أكادُ أجن… من أجل التحدث معها و الاطمئنان عليها… و لو لدقيقة واحدة…

و لم أستطع تجاهل هذا الشعور…

فتحتُ بابي و خطوتُ نحو بابها و قبل أن يتغلب علي ترددي طرقته بخفة…

” رغد … ”

لم اسمع الجواب… لكني متأكد من أنها لم تنم…

عدتُ و طرقته من جديد :

” رغد… ”

و سمعتُ صوتها يجيبني على مقربة… بل إنني كدت ألمسه ! أظنها كانت تهمسُ في الباب مباشرة !

” نعم ؟ ”

ارتبكت ُ و تعثرتْ الكلمات على لساني…

” أأأ… إممم … هل أنت ِ نائمة ؟ أعني مستيقظة ؟ ”

” نعم ”

” هل… استطيع التحدث معك ؟ ”

لم تجب رغد…فحدقتُ النظر إلى الموضع الذي يصدر منه صوتها عبر الباب مفتشا عن كلامها!

أعرف… لن تصدقوني !

لكنني رأيتُه أيضا …

” ماذا تريد ؟؟ ”

أجبت ُ بصوت ٍ أجش :

” أن أتحدّث معكِ… قليلا فقط ”

و لم ترد… قلتُ :

” أرجوكِ رغد… قليلا فقط ”

و لم تجبْ… فكررتُ بنبرة شديدة الرجاء و اللطف :

” أرجوكِ… ”

بعد ثوان انفتح الباب ببطء…

كانتْ صغيرتي تنظرُ إلى الأرض و تتحاشى عيني ّ… أما أنا فكنتُ أفتش عن أشياء كثيرة في عينيها… عن أجوبة لعشرات الأسئلة التي تنخُر دماغي منذ الأمس…

عن شيء ٍ يطمئنني و يسكّن التهيّج في صدري…

و يمحو كلماتها القاسية ( أكرهك يا بليد ) من أذني ّ ….

” أنا آسف صغيرتي و لكن… أود الاطمئنان عليكِ ”

ألقتْ رغد عليّ نظرة خاطفة و عادتْ تخبـّئ بصرها تحت الأرض…

” هل أنت ِ بخير ؟ ”

أومأت ْ إيجابا… فشعرت ُ ببعض ٍ من راحة ٍ … ما كان أحوجني إليها…

” هل… يمكننا الجلوس و التحدث قليلا ؟ ”

رفعت ْ نظرها إليّ مستغربة، فهو ليس بالوقت المناسب للحديث … و كنت ُ أدرك ذلك، لكنني كنت ُ غاية في الأرق و انشغال البال و لن يجد النوم لعيني ّ سبيلا قبل أن أتحدث معها…

” أرجوك…فأنا متعب… و أريد أن أرتاح قليلا… أرجوكِ ”

ربما خرج رجائي عميقا أقرب إلى التوسل… كما خرج صوتي ضعيفا أقرب إلى الهمس… و تفهّمتْ رغد ذلك و فسحتْ لي المجال للدخول…

توجهت ُ مباشرة إلى الكرسي عند المكتب و جلست ُ عليه… و أشرتُ إليها :

” اجلسي رغد ”

فجلستْ هي على طرف السرير…

حاولتُ تنظيم أفكاري و انتقاء الكلمات و الجمل المناسبة و لكن حالتي تلك الساعة لم تكن كأي حالة…

لمحت ُ قارورة الماء نصف فارغة موضوعة على المكتب إلى جواري…

” رغد… ألا تشعرين بالجوع ؟ ”

سرعان ما نظرتْ إلي تعلوها الدهشة !

فهو ليس بالموضوع الذي يتوقع المرء أن يدور نقاشٌ طارئ ٌ في منتصف الليل حوله!

قلت ُ بحنان :

” يجب أن تأكلي شيئا قبل أن تنامي… ”

عقــّبتْ هي باندهاش :

” أهذا كل شيء ؟؟ ”

تأوهت ُ و قلت ُ:

” لا و لكن… أنت ِ لم تأكلي شيئا منذ ليلتين و أخشى أن يصيبك الإعياء يا رغد ”

لم تتجاوب معي… فأدرت ُ الحديث إلى جهة أخرى…

” رغد… مهما كان ما قالته أروى… أو مهما كان شعوركِ نحوها… أو حتى نحوي… لا تجعلي ذلك يزعزع من ثقتك… بأن ّ… بأن ّ… ”

و تعلقت ْ الكلمات على طرف لساني برهة شعرتُ فيها بالشلل… ثم أتممت ُ جملتي بصوت أجش…

” بأنكِ… كما كنت ِ… و كما ستظلين دائما… صغيرتي التي… التي… ”

و تنهدتُ بمرارة…

” التي … أحبُ أن أرعاها و أهتم بجميع شؤونها مهما كانت… ”

نظرت ْ إلي بتمعن و اهتمام… و لكنها لم تعلـّـق…

أضفتُ :

” و كل ما أملك يا رغد… قل ّ أم كثر… هو ملكك ِ أنت ِ أيضا و تحت تصرّفكِ… يا رغد… أنا لا آخذ شيئا من ثروة أروى… إنما استلم راتبا كأي موظف… إنني احتل منصب المدير كما تعلمين… و دخلي كبير… فلا تظني بأنني أحصل على المال دون عناء أو دون عمل… ”

رغد قالت فجأة:

” بل أنا من … يحصل عليه دون عناء و دون عمل… و دون حق و لا مقابل ”

ازداد ضيق صدري و لم يعد قادرا حتى على التنهّد…

سألتها بمرارة و أنا أحس بعصارة معدتي تكاد تحرق حبالي الصوتية:

” لماذا يا رغد؟؟ لماذا دائما… تقولين مثل هذا الكلام؟؟ ألا تدركين أنك… تجرحين شعوري؟”

تعبيرات رغد نمّتْ عن الندم و الرغبة في الإيضاح… و لكن لا أعرف لم انعقد لسانها…

قلتُ :

” رغد… أنا … لطالما اعتنيتُ بكِ… ليس لأن من واجبي ذلك… حتى في وجود والدي ّ رحمهما الله… و حتى و أنت ِ مرتبطة بسامر… و أنت ِ طفلة و أنتِ بالغة و أنت ِ في كل الأحوال و مهما كانت الأحوال… دائما يا رغد… أنتِ صغيرتي التي أريد و لا شيء يبهجني في حياتي أكثر من … أن اعتني بها… كجزء ٍ لا يتجزأ منّي يا رغد… ”

أجهل مصدر الجرأة التي ألهمتني البوح بهذه الكلمات الشجية وسط هذا الظلام الساكن…

تلعثمتْ التعبيرات على وجه رغد… أهي سعيدة أم حزينة؟ أهي مصدقة أم مكذبة؟ لا يمكنني الجزم…

سألتني و كأنها تريد أن تستوثق من حقيقة تدركها… ليطمئن قلبها :

” صحيح… وليد ؟ ”

لم أشعر بأن إجابتي من كل هذا البعد ستكون قوية ما يكفي لطمأنتها… وقفتُ… سرتُ نحوها… أراها أيضا بعيدة… أجثو على ركبتيّ… تصبح عيناي أقرب إلى عينيها… تمتد يداي و تمسكان بيديها… ينطق لساني مؤكدا :

” صحيح يا رغد… و رب الكعبة… الذي سيحاسبني عن كل آهة تنفثينها من صدرك بألم… و عن كل لحظة تشعرين فيها باليتم أو الحاجة لشيء و أنا حي على وجه الأرض… لا تزيدي من عذابي يا رغد… أنا لا استطيع أن أنام و في صدرك ضيق و لا أن أهدأ و في بالك شاغل… و لا حتى أن آكل و أنت ِ جائعة يا رغد… أرجوك… أريحيني من هذا العذاب… ”

لم أشعر إلا ويدا رغد تتحرران من بين يدي و تمسكان بكتفي ّ

” وليد…”

امتزجتْ نظراتنا ببعضها البعض… و لم يعد بالإمكان الفصل فيما بينها…

عينا رغد بدأتا تبرقان باللآلئ المائية…

قلتُ بسرعة :

” لا تبكي أرجوك ”

رغد ربما ابتلعتْ عبراتها في عينيها و سحبتْ يديها و شبكتْ أصابعها ببعضها البعض… ثم طأطأتْ رأسها هاربة من نظراتي…

ناديتُها مرة و مرتين…لكنها لم ترفع عينيها إلي ّ… ولم تجبني…

” رغد… أرجوك… فقط … قولي لي أنكِ بخير حتى أذهب مرتاحا… أنا بحاجة للنوم… كي أستطيع أن أفكر… لا استطيع التفكير بشيء آخر و أنا… قلق عليك ِ ”

أخيرا رغد رفعتْ عينيها و نظرتْ إليّ…

” هل … أنتِ بخير ؟؟ ”

هزّتْ رأسها و أجابت :

” نعم … بخير ”

تنهدتُ ببعض الارتياح… ثم قلتُ :

” جيد… لكن… يجب أن تتناولي بعض الطعام قبل أن تنامي… هل أعيد تسخين البيتزا؟؟”

قالتْ مباشرة :

” لا… لا …”

قلتُ :

” إذن… تناولي أي شيء آخر قبل أن تنامي… رجاء ً ”

نظرتْ إلى الأرض و أومأتْ إيجابا…

تأملتُها برهة عن قرب… ثم وقفتُ و أعدت ُ تأمّلها من زاوية أبعد… و مهما تبعد المسافات… إنها إلى قلبي و كياني أقرب… و أقرب…

أقرب من أن أقوى على تجاهل وجودها و لو لبرهة واحدة…

أقرب من أن أستطيع أن أغفو دون أن أحس بحرارة قربها… في جفوني…

و أقرب من أن أسمح لصدى ( أكرهكَ يا بليد ) بأن… يبعدها عنّي…

قلتُ :

” حسنا صغيرتي… سأترككِ تأكلين و تنامين… ”

و خطوتُ نحو الباب… ثم عدتُ مجددا أتأملها… راغبا في مزيد من الاطمئنان عليها… متمسكا بآخر طيف لها… يبرق في عيني ّ…

” أتأمرين بشيء ؟ ”

رغد حركتْ عينيها إليّ… ثم قالتْ :

” كلا… شكرا ”

فقلتُ :

” بل … شكرا لك ِ أنتِ صغيرتي… و اعذريني… ”

و ختمتُ أخيرا :

” تصبحين على خير ”

و غادرتُ غرفتها عائدا إلى غرفتي…

رميتُ أطرافي الأربعة على سريري ناشدا الراحة… لكني لم أحصل حقيقة عليها … لم تكن جرعة رغد كافية لتخدير وعيي… و لليلة الثانية على التوالي أعاصر بزوغ الفجر و أشهد مسيرة قرص الشمس اليومية تشق طريقها ساعة ً ساعة … عبر ساحة السماء…

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

صحوت ُ من نومي القصير و أنا أشعر بدوار شديد و رجفة في أطرافي… و إجهاد و ضعف عام في عضلاتي… لم استطع التحرك عن موضعي في السرير… لابد أن السبب هو الجوع فأنا لم آكل شيئا منذ ليلة شجاري مع الشقراء… و بالرغم من أن وليد نصحني بالطعام البارحة إلا أنني لم أكن أشعر بأي شهية له

هذا إضافة إلى تأثير السهر و الأرق… اللذين لم يبرحاني مذ حينها…

كلّما حاولتُ الحركة ازداد الدوار… و تسارعتْ خفقات قلبي … و صعُبَ تنفسي…إنه ذات الشعور الذي داهمني يوم فرارنا حفاة من المدينة الصناعية… و تشردنا جياعا عطشى في البر…

أمن أحد ليساعدني؟ أريد بعض الماء … أريد قطعة خبز… أكاد أفقد وعيي…!

أغمضتُ عيني و تنفستُ بعمق و حبستُ الهواء بصدري كي أمنع عصارة معدتي من الخروج… و زفرتُ أنّة طويلة تمنيتُ أن تصل إلى مسامع وليد… لكن الجدار الفاصل بيننا بالتأكيد امتص أنيني…

بعد قليل سمعتُ طرقا على الباب… معقول أنه وليد قد سمعني؟ الحمد لله…!

استجمعتُ بقايا قوتي و قلتُ مباشرة:

” ادخل ”

لم أكن ارتدي غير ملابس النوم و لكن أي قوة أملك حتى أنهض و أضع حجابي؟؟ لففتُ لحافي حولي عشوائيا و كررتُ:

” ادخل ”

انفتح الباب ببطء و حذر…

قلتُ بسرعة مؤكدة :

” تفضل ”

بسرعة… أنقذني…

و أنا انظر نحو الباب… بلهفة…

أتدرون من ظهر؟

إنها أروى…

فوجئتُ بها هي تدخل الغرفة…

قالتْ و هي تقفُ قرب الباب :

” أريد أن أتحدّث معك ”

أغمضتُ عيني… إشارة إلى أنني لا أريدها… إلى أنني متعبة… إلى أنني لم أكن أنتظرها هي… و لم أكن لأطلب العون منها…

قالتْ :

” هو سؤال واحد أجيبيه و سأخرج من غرفتك ”

قلتُ و أنا أزفر بتعب :

” أخرجي ”

لكن أروى لم تخرج… فتحتُ عيني ّ فوجدتها تقتربُ منّي أكثر… أردتُ أن أنهض فغلبني الدوار… أشحتُ بوجهي بعيدا عنها… لا أريد أن أراها و لا أريد أن تراني بهذه الحالة…

أروى قالتْ :

” فقط أجيبيني عن هذا السؤال يا رغد… يجب أن تجيبيني عليه الآن… ”

لم أتجاوب معها

حلّي عني يا أروى ! ألا يكفي ما أنا فيه الآن ؟؟ إنني إن استدرتُ إليك فسأتقيأ على وجهك الجميل هذا…

” رغد ”

نادتني

فأجبتُ بحنق :

” ماذا تريدين منّي ؟ ”

قالتْ :

” أخبريني… أتعرفين… لماذا … قتل وليد عمّار ؟؟ ”

انتفض جسمي كلّه فجأة… و الخفقات التي كانت تهرول في قلبي صارتْ تركض بسرعة… بأقصى سرعة…

التفت ُ إلى أروى… أو ربما الغرفة هي التي دارتْ و جعلتْ وجهها مقابل وجهي… لست ُ أكيدة…

 

الحلقة الاربعون الجزء 2

حملقتْ أروى بي ثم قالتْ :

” تعرفين السبب… أليس كذلك ؟ أنا واثقة…”

هززتُ رأسي نفيا… أريد محو السؤال و محو صورتها و محو الذكريات التي كسرتْ الباب و اقتحمتْ مخيّلتي فجأة … هذه اللحظة…

قالت أروى:

” بل تعرفين… تصرفاتك و انفعالك يؤكد ذلك يا رغد… أنا واثقة من هذا… لا أعرف لم أنتما مصران على إخفاء الأمر عنّي… لكن… ”

هتفتُ :

” كفى…”

أروى قالتْ بإصرار :

” للأمر… علاقة بك ِ أنت ِ… أليس كذلك ؟؟ ”

صرخت ُ و أنا أحاول صم أذني ّ عن سماع المزيد… و إعماء عيني عن رؤية شريط الماضي…

” يكفي ”

لكن أروى تابعتْ :

” أخبريني يا رغد… يجب أن تخبريني… لماذا قتل وليد عمّار… و ما علاقتكِ أنتِ بهذا … لماذا صرخت ِ حين رأيت ِ صورته معلقة على جدار المكتب؟؟ و لماذا تنعتانه أنتما الاثنان بالحقير؟؟ ماذا فعل؟؟ ما الذي ارتكبه و جعل وليد… يقتله انتقاما؟؟ أنت ِ تعرفين الحقيقة… أليس كذلك؟؟ من حقي أن أعرف… أخبريني … ”

” كفى… كفى … كفى … ”

صرختُ و أنا أضغط بيدي كلتيهما بقوة على صدغي ّ محاولة منع الذكرى المريرة الملغومة من الانفجار في رأسي…

آنذاك… ظهر لي وجه عمار في الصورة… نعم… لقد رأيتُه يقترب منّي… رأيتُ يديه تمتدان نحوي… قفزت ُ عن سريري مفزوعة… صرختُ … رأيت ُ الجدران تتصدع إثر صراخي… رأيتُ السقف ينهار… و الأرض تهتز … أحسست ُ بعيني تدور … و الغرفة تدور… و شعرت ُ بيد ٍ ما تمتد ُ نحوي… تحاول الإمساك بي…

إنها… يد عمّار !

” لا… لا… لاااااااااااااا ”

على هذه الصرخات انتفضتُ و رميتُ بفرشاة أسناني جانبا و خرجتُ من الحمام مسرعا مبتلعا بقايا المعجون دفعة واحدة و مطلقا ساقي ّ للريح… نحو غرفة رغد…

كان الباب مفتوحا و الصراخ ينطلق عبره… مفزِعا…

اقتحمتُ الغرفة فورا و رأيتُ رغد واقفة عند سريرها ممسكة برأسها بكلتا يديها و تصرخ مذعورة … فيما أروى واقفة مذهولة إلى جوارها معلقة يديها في الهواء…

” رغد ؟؟ ”

هرولتُ باتجاهها مفزوعا طائر العقل … و رأيتُ يديها تبتعدان فجأة عن رأسها و تمتدان نحوي… و في ثوانٍ… تخطو إلي ّ… و تهوي على صدري… و تطبق علي ّ…

تعثر قلبي الراكض و انزلق أرضا بعنف… جراء الموقف…

كنتُ مذهولا … لا أعرف و لا أدرك ما يحصل من حولي…

” رغد ؟؟ ”

صرخت ُ فزعا… و أنا ألتقطها بين ذراعي فجأة و أضمها إلي ّ و أشعر بصراخها يخترق أضلاع قفصي الصدري…

” بسم الله الرحمن الرحيم… ماذا حصل رغد …؟ ”

حاولت ُ إبعاد رأسها كي أنظر إلى عينيها لكنها غاصتْ بداخلي بعمق … بقوة و هي تصرخ:

” أبعده عني… أبعده عنـّـي … أبعده عنـّـي ”

ألقيتُ نظرة خاطفة على أروى فرأيتها مجفلة فزعة محملقة بعينيها…

صرختُ :

” ماذا حصل ؟ ”

لم تقو َ على الكلام…

صرختُ ثانية :

” ماذا حصل ؟؟ يا أروى؟؟ ”

تأتأتْ أروى :

” لا… أدري… ”

أبعدتُ رأس رغد عن صدري فلم تقاوم… نظرتُ إلى عينيها أريد أن أسألها عمّا حصل… فإذا بهما تحملقان في الفراغ… و إذا بذراعيها تهويان فجأة على جانبيها… و إذا بها تنزلق من بين يدي…

بسرعة أمسكتُ بها و أنا أصرخ:

” رغد… رغد ”

رفعتُها إلى السرير و جعلتُ أخاطبها و أهزها … لكن عينيها كانتا تبحلقان في اللاشيء… و فجأة دارتا للأعلى و انسدل جفناها من فوقهما…

” رغد… رغد… ما بك … رغد أجيبيني ”

لكنها لم تجب…

صرختُ بانفعال :

” أجيبيني يا رغد… رغد…أرجوكِ… ”

و أنا أهزها بعنف محاولا إيقاظها… لكنها… بدت فجأة كالميتة….

تزلزل قلبي تحت قدمي مرتاعا و صرختُ مذهولا:

” يا إلهي… ماتت ْ صغيرتي ماتت ْ …”

و أنا مستمر في هزّها بعنف دون جدوى…

التفتُ إلى أروى و صرختُ بقوة:

” طبيب… إسعاف… ماء … افعلي شيئا… احضري شيئا … تحركي بسرعة ”

و أروى واقفة كالتمثال … متجمدة في فزع ..

صرختُ :

” هيا بسرعة ”

تحركتْ أروى باعتباط … يمينا يسارا حتى إذا ما لمحتْ قارورة الماء تلك على المكتب… أسرعتْ إليها و جلبتها لي

رششتُ الماء على وجه رغد … بل إنني أغرقتُه و أنا لا أزال أهزها و أضرب خديها بقوة… حتى ورّمتهما….

رغد فتحتْ عينيها فناديتها مرارا لكنها لم تكن تنظر إليّ أو حتى تسمعني… بدتْ و كأنها تسبح في عالم آخر…

” رغد… أتسمعينني؟؟ ردي عليّ… ردي عليّ يا رغد أرجوك… ”

و لم تتجاوب معي…

بسرعة قربتُ من فمها قارورة الماء و طلبتُ منها أن تفتحه و تشرب…

رغد لم تحرك شفتيها… بل عادتْ و أغمضتْ عينيها… لكنها لا تزال تتنفس… و لا يزال الشريان ينبض في عنقها بعنف…

أبعدت ُ القارورة و رحت ُ أحرك رأسها يمينا و شمالا بقوة … محاولا إيقاظها…

و التفتُ إلى أروى آمرا :

” أحضري بعض السكّر ”

وقد تفجرتْ فكرة هبوط السكر في بالي فجأة…

أروى حدّقت بي ببلاهة… غير مستوعبة لشيء فهتفتُ:

” السكر يا أروى… بسرعة ”

وانطلقتْ أخيرا خارج الغرفة و عادتْ بعد ثوان تحمل علبة السكّر…

كانتْ رغد لا تزال شبه غائبة عن الوعي على ذراعي…

تناولتُ علبة السكر بسرعة و سكبتُ كمية منه داخل القارورة و رججتها بعنف… ثم قرّبتها من رغد مجددا :

” رغد… أتسمعينني؟؟ افتحي فمك…”

لكنها فتحتْ عينيها و نظرتْ إليّ…

رأس رغد كان على ذراعي اليسرى و القارورة في يدي اليمنى… ألصقتُها بشفتيها و قلتُ:

” هيا يا رغد…افتحي فمك ”

لم تع ِ رغد كلامي…

رفعت ُ رأسها و فتحت ُ فمها بنفسي… و دلقت ُ شيئا من الشراب فيه…

” اشربي….”

عينا رغد أوشكتا على الإغماض… فهززتها بقوة :

” أوه لا… لا تنامي الآن… أفيقي… اشربي هيا… ”

و رفعت ُ رأسها للأعلى أكثر…

حينها وصل الشراب إلى بلعومها فسعلتْ… و ارتد الشراب إلى الخارج…

فتحتْ رغد عينيها و بدا و كأنها استردتْ شيئا من وعيها إثر ذلك…

قربت ُ القارورة من فمها مجددا و قلتُ:

” أتسمعينني يا رغد ؟؟ اشربي… أرجوك…”

سكبتُ كمية أخرى في فمها فابتلعتها رغد فجأة… ثم فجأة رأيتُ المزيج يخرج من فمها و أنفها… و ينسكب مبللا وجهها و ملابسها…

” أوه يا رغد…. كلا… كلا….”

ضممتُها إلى صدري بهلع … بفزع… بعشوائية… و بانهيار…

كانت طرية كالورقة المبللة…

غمست ُ يدي في علبة السكّر و أخذتُ حفنة منه… و رفعتُها نحو فمها المفغور و نثرتُها فيه… مبعثرا الذرات على وجهها المبلل و على عنقها و ملابسها و في كل مكان من شدّة اضطرابي…

” ابلعيه… أرجوك… أرجوك يا رغد… ”

عدتُ و أخذتُ كمية أخرى و حشوتُ فمها بها… و أغلقتُه بيدي… و هي مستسلمة لا تقاوم… و لا تظهر على قسمات وجهها أية تعبيرات…

كأنها تمثال من الورق الذابل…

كانت… كالميتة على ذراعي…

عدتُ أخاطبها فخرج صوتي مبحوحا ممزقا… و كأن حفنة السكر تلك قد انحشرتْ في حنجرتي أنا… و أعطبتْ حبالي الصوتية…

” ابلعيه يا رغد… أرجوك… يجب أن تبلعيه… يا إلهي ماذا جرى لصغيرتي ؟؟ ”

أبعدتُ رأس رغد عنّي قليلا… فرأيتُ عينيها نصف مفتوحتين تحملقان في اللاشيء … و فمها مفتوح تنساب من زاويتيه قطرات اللعاب ممزوجة بحبيبات السكر….

و شيئا فشيئا بدأتْ تحرّك عينيها و فمها و تستعيد وعيها…

” رغد … ”

صحت ُ بلهفة… و أنا أرى عينيها تدوران في الغرفة و من ثم تنظران إلي ّ

” رغد… رغد… هل تسمعينني ؟؟ ”

رغد تنظر إلي… إذن فهي تراني… و تسمعني…

فمها أراه يتحرك و يبتلع السكر…

بسرعة تناولت ُ قارورة المزيج تلك و ألصقتُها بفمها مباشرة و قلتُ :

” اشربي … أرجوك… أرجوك… ”

شربتْ رغد جرعة … و ابتلعتْها… تلتها جرعة أخرى…

أبعدت ُ القارورة و أعدتُ رجها بقوة… ثم قربتُها من شفتيها و طلبتُ منها أن تشرب المزيد…

” اشربي… قليلا بعد يا رغد… هيا … ”

حتى أرغمتُها على شرب المزيج كاملا… و قد تجاوبتْ منقادة و نصف واعية على ذراعي…

و هي على ذراعي… استردّتْ وعيها تدريجيا…

و هي على ذراعي… كانتْ تتنفس بقوة… و اضطراب… و ترتعش كعصفور يحتضر…

و هي على ذراعي… انحدرتْ من عيني دمعة كبيرة… بحجم السنين التي فرقتْ فيما بيننا…

و هي على ذراعي… و أنا ممسك بها بكل قوتي و كل ضعفي… مخافة أن تنزلق من بين يدي… مخافة من أن يبعدها القدر عني… مخافة من أن أفقدها هذه المرة… للأبد…

لقد كانت شبه ميتة بين يدي…

رغد الحبيبة… طفلتي الغالية… منبع عواطفي و مصبها… شبه ميتة… على ذراعي ؟؟

” هل تسمعينني يا رغد ؟ أتسمعينني ؟ ”

سألتُها عندما رأيتُها تحدّق بي… بدتْ و كأنها مشوشة و غير قادرة على التركيز… أخذتْ تدور بعينيها على ما حولها… توقفتْ برهة تحملق في أروى… و أخيرا عادتْ إلي…

” أخبريني… هل أنتِ بخير؟؟ أتسمعينني؟؟ أتستطيعين التحدّث؟ ردي عليّ يا رغد أرجوك… ”

” وليد… ”

أخيرا نطقتْ…

قلتُ بلهفة :

” نعم رغد… أأنت ِ بخير؟؟ كيف تشعرين؟ ”

رغد أغمضتْ عينيها بقوة… كأنها تعتصر ألما… ثم غمرتْ وجهها في صدري… و شعرتُ بأنفاسها الدافئة تتخلخل ملابسي… كما أحسستُ بالبلل يمتصه قميصي… من وجهها…

حركتُ يدي نحو كتفها و ربتُ بخفة:

” رغد…؟؟ ”

تجاوبتْ رغد معي… أحسستُ بهمسها يصطدم بصدري… لم أميّز ما قالتْ أولا… لكنها حين كررتْ الجملة استطاعتْ أذناي التقاطها …

” أبعده عنّي… ”

توقفتُ برهةً أفتشُ عن تفسيرٍ لما سمعتُ… سألتُها بحيرة و عدم استيعاب :

” أُبعِدُهُ عنكِ ؟؟ ”

كررتْ رغد… و هي تغمرُ وجهها أكثر في ثنايا قميصي :

” أَبعدهُ عنّي … ”

قلتُ مستغربا :

” من ؟؟ ”

سرتْ رعشة في جسد رغد انتقلتْ إليّ … نظرتُ إلى يدها الممدودة جانبا فرأيتُها ترتجفُ… و رأيتُها تتحرك نحوي و تتشبثْ بي… كانتْ باردة كالثلج… و أيضا أحسستُ برأسها ينغمسُ في داخلي أكثر فأكثر… ثم سمعتُها تقول بصوتٍ مرتجف واهن:

” عمّار ”

آن ذاك… جفلتُ و تصلبتْ عضلاتي فجأة… و تفجرتْ الدهشة كقنبلة على وجهي…

حركتُ يدي إلى رأسها و أدرتُه إليّ… لأرى عينيها… فتحتْ هي عينيها و نظرتْ إليّ…

قلتُ :

” من ؟؟ ”

فردّتْ :

” عمار… أبعده عنّي… أرجوك ”

اختنق صوتي في حنجرتي بينما ارتجّتْ الأفكار في رأسي…

قلتُ :

” عمــ….مار ؟؟ لكن… ”

و لم أقوَ على التتمة…

ماذا جرى لصغيرتي ؟ ما الذي تهذي به ؟؟

قالتْ :

” أبعده… أرجوك ”

ازدردتُ ريقي بفزع و أنا أقول :

” أين… هو ؟ ”

رغد حركتْ عينيها و نظرتْ نحو أروى… ثم هزتْ رأسها و أغمضتْ عينيها و عادتْ و غمرتْ وجهها في صدري و هي تصيح :

” أبعده عني… أبعده عنّي… وليد أرجوك…”

آنذاك… شعرتُ بأن خلايا جسمي كلها انفصمتْ عن بعضها البعض و تبعثرتْ على أقطار الأرض… و فشلتُ في جمعها…

البقايا المتبقية لي من قوة استخدمتُها في الطبطبة على رغد و أنا أردد :

” بسم الله عليكِ… اهدئي يا رغد… ماذا حل بكِ؟ …هل رأيتِ كابوسا ؟؟ ”

رغد كررتْ مجددا و هذه المرة و هي تبكي و تشدّ ُ الضغط عليّ متوسلة:

” أبعده يا وليد… أرجوك… لا تتركني وحدي… لا تذهب…”

” أنا هنا يا رغد… بسم الله عليكِ… يا إلهي ماذا حصل لكِ ؟ هل تعين ما تقولين؟ ”

أبعدتْ رغد رأسها قليلا و وجهتْ نظرها إلى أروى و صاحتْ مجددا:

” أبعده أرجوك… أرجوك… أنا خائفة… ”

جُن ّ جنوني و أنا أرى الصغيرة بهذه الحالة المهولة ترتجف ذعرا بين يدي …

هتفتُ بوجه أروى :

” ماذا فعلت ِ بالصغيرة يا أروى ؟ ”

أروى واقفة مدهَشة متجمدة في مكانها تنظر إلينا بارتباك و هلع…

صرخت ُ :

” ماذا فعلت ِ يا أروى تكلّمي ؟ ”

ردتْ أروى باضطراب:

” أنا ؟؟ لا شيء… لم أفعل شيئا ”

قلت ُ آمرا بصرامة :

” انصرفي الآن … ”

حملقتْ أروى بي مذهولة فكررت ُ بغضب :

” انصرفي هيا … ”

حينها خرجتْ أروى من الغرفة… و بقينا أنا و رغد منفردين… يمتص كل منا طاقته من الآخر…

كانت الصغيرة لا تزال تئن مراعة في حضني… حاولتُ أن أبعدها عنّي قليلا إلا أنها قاومتني و تشبثتْ بي أكثر…

لم استطع فعل شيء حيال ذلك… و تركتُها كما هي…

هدأتْ نوبة البكاء و الروع أخيرا… بعدها رفعتْ رغد رأسها إلي و تعانقتْ نظراتنا طويلا…

سألتُها :

” أأنت ِ بخير ؟ ”

فأومأتْ إيجابا…

” كيف تشعرين ؟ ”

” برد … ”

قالتْ ذلك و الرعشة تسري في جسمها النحيل…

جعلتُها تضطجع على الوسادة و غطيتها باللحاف و البطانية… و درتُ ببصري من حولي فوجدتُ أحد أوشحتها معلقا بالجوار فجلبتُه…

و أنا ألفّه حول وجهها انتبهتُ لحبيبات السكر المبعثرة على وجهها و شعرها… و ببساطة رحتُ أنفضها بأصابعي…

كان وجهها متورما محمرا من كثرة ما ضربته! أرى آثار أصابعي مطبوعة عليه !…

آه كم بدا ذلك مؤلما… لقد شقّ في قلبي أخدودا عميقا…

أنا آسف يا صغيرتي…سامحيني…

لففتُ الوشاح على رأسها بإحكام مانعا أي ٍ من خصلات شعرها القصير الحريري من التسلل عبر طرفه…

” ستشعرين بالدفء الآن… ”

سحبت ُ الكرسي إلى جوار السرير و جلستُ قرب رغد أراقبها…

إنها بخير… أليس كذلك؟

هاهي تتنفس… و هاهما عيناها تجولان في الغرفة… و هاهو رأسها يتحرك و ينغمر أكثر و أكثر في الوسادة…

لابد أنه هبوط السكّر… فقد مرتْ رغد بحالة مشابهة من قبل… لكنها لم تكن تهذي آنذاك…

هل كان كابوسا أفزعها؟؟

هل قالتْ لها أروى شيئا أثار ذعرها؟؟

ماذا حصل؟؟

لابد أن أعرف…

انتظرتُ حتى استرددتُ أنفاسي المخطوفة… و استرجعتُ شيئا من قواي الخائرة… و ازدردت ُ ريقي الجاف إلا عن طعم المعجون الذي لا يزال عالقا به… و استوعبتُ الموقف، ثم خاطبتُ رغد :

” رغد ”

التفتتْ رغد إلي ّ فسألتُها:

” ماذا… حصل ؟ ”

كنتُ أريد الاطمئنان على وعيها و إدراكها… و معرفة تفسير ما حدث…

رغد نظرتْ إلي ّ نظرة بائسة… ثم قالتْ و صوتها هامس خفيف:

” شعرت ُ بالدوخة منذ استيقاظي… و عندما وقفت ُ أظلمتْ الصورة في عيني ّ و فقدت ُ توازني… ”

ثم أضافتْ :

” لم آكل شيئا… أظن أنه السبب ”

ثم تنهّدتْ باسترخاء…

قلتُ :

” أهذا كل شيء؟”

قالت :

” نعم ”

” و أنتِ الآن… بخير ؟؟ ”

أجابتْ :

” نعم… بخير ”

تنهدتُ شبه مطمئنا و قلتُ :

” الحمد لله…”

و أضفتُ :

” لقد أفزعتني…”

نظرتْ هي إليّ ثم غضّت بصرها اعتذارا…

قلتُ :

” الحمد لله… المهم أنكِ بخير الآن ”

عقبتْ :

” الحمد لله ”

سكتُ قليلا و الطمأنينة تنمو في داخلي، ثم استرسلتُ :

” إذن… لم تأكلي شيئا البارحة.. أليس كذلك ؟ ”

و لم أرَ على وجهها علامات الإنكار…

قلت ُ معاتبا و لكن بلطف:

” لماذا يا رغد؟ لم تسمعي كلامي… أتريدين إيذاء نفسك؟؟ انظري إلى النتيجة… لقد جعلت ِ الدماء تجف في عروقي هلعا…”

حملقتْ رغد بي لبرهة أو يزيد… ثم نقلتْ بصرها إلى اللحاف بعيدا عنّي… تأسفا و خجلا…

لم يكن الوقت المناسب للعتاب.. لكن خوفي عليها كاد يقتلني… و أريد أن أعرف ما حصل معها…

قلت ُ :

” أحقا هذا كل ما في الأمر ؟ ”

عادتْ رغد تنظر إليّ مؤكدة :

” نعم… لا تقلق… أنا بخير الآن ”

سألت ُ :

” و أروى… ماذا كانت تفعل هنا ؟ ”

أجهل معنى النظرات التي وجهتها رغد نحوي… لكنني رجّحت ُ أنها لا تود الإجابة…

احترتُ في أمري… أردت ُ أن أسألها عما جعلها تشير إليها كـ عمار… و لم أجرؤ…

قلتُ أخيرا… و أنا أهب ُ واقفا :

” حسنا… دعيني أحضر لك ِ شيئا تأكلينه ”

و هممتُ بالانصراف غير أن رغد نادتني:

” وليد… ”

التفتُ إليها و رأيتُ الكلام مبعثرا في عينيها… لا أعرف ماذا كانت تود القول… غير أنها غيّرت حديثها و قالتْ:

” أنا آسفة ”

ابتسمتُ ابتسامة سطحية و قلتُ مشجعا :

” لا عليك ”

ابتسمتْ هي بامتنان و قالتْ :

” شكرا لكَ ”

و غادرت ُ الغرفة… مطمئن البال نسبيا و اتجهتُ إلى المطبخ…

هناك حضرت ُ الشاي و فتشتُ عن بعض الطعام فوجدت ُ علب البيتزا التي كنتُ قد اشتريتها بالأمس و لم تُمس…

و عدا عن العلبة التي تناولتـْها خالتي ليندا، فإن البقية كما هي

قمت ُ بتسخين أحد الأقراص على عجل… و انطلقتُ حاملا الطعام إلى رغد…

كانتْ على نفس الوضع الذي تركتُها عليه…

جلست ُ على المقعد إلى جوارها و قدّمتُ لها الوجبة

” تفضلي… اشربي بعض الشاي لتدفئي ”

جلستْ رغد و أخذتْ تحتسي الشاي جرعةً جرعة… وهي ممسكة بالكوب بكلتا يديها…

” هل تشعرين بتحسّن ؟ ”

حركتْ رأسها إيجابا

قلتُ :

” جيّد… الحمد لله… تناولي بعضا من هذه … لتمنحك بعض الطاقة ”

و قربتُ إليها إحدى قطع البيتزا … فأخذتْها و قضمتْ شيئا منها…

سألتُها :

” أهي جيّدة ؟ لا أعتقد أن طعمها قد تغيّر ؟ ”

أتعرفون كيف ردّت رغد ؟؟

لا لن تحزروا… !

فوجئتُ برغد و قد قربتْ قطعة البيتزا ذاتها إلى فمي… تريدُ منّي أن أتذوقها!

اضطربتُ، و رفعتُ يدي لأمسك بالقطعة فأبعدتْ رغد القطعة عن يدي… و عادتْ و قرّبتْها إلى فمي مباشرة !

الصغيرة تريد أن تطعمني بيدها !

نظرتُ إليها و قد علا التوتر قسمات وجهي كما لوّنته حمرة الحرج… و رغد لا تزال معلّقة البيتزا أمام فمي…

أخيرا قلتُ :

” كـُـ… كليها أنت ِ رغد ”

و لو ترون مدى الامتقاع و التعبيرات المتعسة التي ظهرت على وجهها !

و إذا بها تقول:

” لا تريد أن تأكل من يدي ؟ ”

فاجأني سؤالها في وقت لم أصح ُ فيه بعد من مفاجأة تصرفها… و لا مفاجآت حالتها هذا الصباح…

إنّ شيئا ألمّ بالصغيرة… يا رب… لطفك …

رفعتُ حاجباي دهشة… و تلعثمتْ الحروف على لساني…

” أأأ… رغد… إنه… أنا… ”

رغد… ماذا جرى لك اليوم ؟؟ ماذا أصابك …؟

أنت ِ تثيرين جنوني… تثيرين فزعي… تثيرين مخاوفي … تثيرين شجوني و آلامي و ذكريات الماضي…

ماذا دهاك يا رغد ؟؟

بربّك… أخبريني ؟؟

كنتُ على وشك أن أنطق بأي جملة… تمتّ ُ أو لا تمتُ للموقف بصلة إلاّ أن رغد سبقتني و قالتْ منفعلة:

” لكنك تأكل من يدها… أليس كذلك ؟ ”

ذهلتُ لجملتها هذه … أيما ذهول…

رغد لم تبعد يدها بل قربتها مني أكثر .. لا بل ألصقتْ البيتزا بشفتي و نظراتها تهددني…

حملقتُ بها بدهشة و قلق… شيء ما قد حلّ بصغيرتي… ماذا جرى لها ؟ يا الهي…

” رغد… ”

لما رأتْ رغد استنكاري… أبعدتْ البيتزا عني، و وجهها شديد الحزن تنذر عيناه بالمطر… و فمها قد تقوس للأسفل و أخذ يرتعش… و رأسها مال إلى الأسفل بأسى و خيبة ما سبق لي أن رأيتُ على وجه رغد شبيها لهما… و بصوت ٍ نافذ الطاقة هزيل متقطّع أقر ب إلى الأنين قالتْ:

” أنت …لا تريد… أن… تأكل من يدي أنا… أليس… كذلك ؟ ”

و هطلتْ القطرة الأولى… من سحابة الدموع التي سرعان ما تكثـّفتْ بين جفنيها…

إنها ليستْ باللحظة المناسبة لأي شرح أو تفسير… أو علة أو تبرير… أو رفض أو اعتراض !

قلتُ مستسلما مشتتا مأخوذا بأهوال ما يجري من حولي:

” لا… لا ليس كذلك … ”

شيئا فشيئا انعكس اتجاه قوس شفتيها… و ارتسمتْ بينهما ابتسامة مترددة واهية… و تسللتْ من بينهما الدمعة الوحيدة مسافرة عبر فيها إلى مثواها الأخير…

نحو فمي ساقتْ رغد قطعة البيتزا ثانيةً… و بين أسناني قطعتُ جزءا منها مضغتُه دون أن أحسّ له طعما و لا رائحة…

اتسعتْ الابتسامة على وجه الصغيرة و سألتني:

” لذيذة ؟ ”

قلتُ بسرعة :

” نعم … ”

ابتسمتْ رغد برضا… و كأنها حققتْ إنجازا عظيما…

ثم واصلتْ التهام البيتزا و طلبتْ مني مشاركتها ففعلتُ مستسلما… و أنا في حيرة ما مثلها حيرة من أمر هذه الصغيرة…

كم بدا القرص كبيرا… لا ينتهي…

كنتُ أراقب كل حركة تصدر عن صغيرتي… متشككا في أنها قد استردتْ إدراكها كاملا… الرعشة في يديها اختفتْ… الارتخاء على وجهها بان… الاحمرار على وجنتيها تفاقم… و الأنفاس من أنفها انتظمتْ…

و أخيرا فرغتْ العلبة… لقد التهمنا البيتزا عن آخرها لكن… لم أشعر بأنني أكلتُ شيئا…

في هذه اللحظة أقبلتْ أروى و وقفت عند الباب مخاطبة إياي:

” إنه هاتف مكتبك يا وليد… رن مرارا…”

نقلت ُ بصري بين أروى و رغد… الفتاتان حدقتا ببعضهما البعض قليلا… ثم مدتْ رغد يديها و أمسكتْ بذراعي كأنها تطلب الأمان…

كان الخوف جليا على وجهها ما أثار فوق جنوني الحالي… ألف جنون و جنون…

” رغد !! ”

رغد كانت تنظر إلى أروى مذعورة… لا أعرف ما حصل بينهما…

قلتُ مخاطبا أروى :

” انصرفي الآن يا أروى رجاء ً ”

رمقتني أروى بنظرة استهجان قوية… ثم غادرتْ…

التفتُ إلى الصغيرة و سألتُها و القلق يكاد يقتلني :

” ماذا حل بكِ يا رغد ؟ أجيبيني ؟؟ هل فعلتْ بك ِ أروى شيئا ؟؟ ”

رغد أطلقتْ كلماتها المبعثرة بانفعال ممزوج بالذعر:

” لا أريد أن أراها… أبعدها عني… أنا أكرهها… ألا تفهم ذلك؟؟… أبعدها عني…أرجوك ”

لن يفلح أي وصف لإيصال شعوري آنذاك إليكم… مهما كان دقيقا

أخذتُ أطبطب عليها أحاول تهدئتها و أنا المحتاج لمن يهدّئني….

” حسنا رغد… يكفي…أرجوك اهدئي… لا تضطربي هكذا…بسم الله الرحمن الرحيم…”

بعد أن هدأتْ رغد و استقرتْ حالتها العجيبة تلك… لم أجرؤ على سؤالها عن أي شيء… عرضتُ عليها أن آخذها إلى الطبيب، لكنها رفضتْ تماما… فما كان منّي إلا أن طلبتُ منها أن تسترخي في فراشها لبعض الوقت و سرعان ما اضطجعتْ هي و غطّتْ وجهها بالبطانية… ليس لشيء إلا.. لأنها أرادتْ أن تبكي بعيدا عن مرآي…

كنتُ أسمع صوت البكاء المكتوم… و لو دفنته يا رغد تحت ألف طبقة من الجبال… كنتُ سأسمعه !

لكنني لم أشأ أن أحرجها… و أردتُ التسلل خارجا من الغرفة…

وقفت ُ و أنا أزيح المقعد بعيدا عنها بهدوء… و سرتُ بخفة نحو الباب…

فيما أنا على وشك الخروج إذا بي أسمعها تقول من تحت البطانية:

” وليد…أرجوك…لا تخبرها… عما حصل في الماضي… أرجوك ”

تسمرتُ في موضعي فجأة إثر سماعي لها… استدرتُ نحوها فرأيتها لا تزال مختبئة تحت البطانية… هروبا من مرآي…

تابعتْ :

” لن احتمل نظرات السخرية… أو الشفقة من عينيها… أرجوك وليد..”

بقيتُ واقفا كشجرة قديمة فقدتْ كل أوراقها الصفراء الجافة في مهب رياح الخريف…

لكن المياه سرعان ما جرتْ في جذوري … دماء ً حمراء مشتعلة تدفقتْ مسرعة نحو رأسي و تفجرتْ كبركان شيطاني… من عيني ّ…

تبا لك ِ يا أروى…!!

خرجتُ من غرفة رغد غاضبا متهيجا و بحثتُ عن أروى و وجدتُها في الردهة قرب السلّم… ما أن رأتني حتى وقفتْ و أمارات القلق على وجهها صارخة…

قالتْ مباشرة :

” كيف هي ؟ ”

و قبل أن تسترد نفسها من الكلام انفجرتُ في وجهها كالقنبلة:

” ماذا فعلت ِ بها ؟ ”

الوجوم و الدهشة عليا تعبيراتها و قالتْ مضطربة:

” أنا !! ؟؟ ”

قلتُ بصوت ٍ قوي غليظ :

” نعم أنت ِ … ما الذي فعلته بها ؟؟ أخبريني ؟ ”

أروى لا تزال مأخوذة بالدهشة تنم تعبيرات وجهها عن السذاجة أو التظاهر بالسذاجة… و هو أمر أطلق المدافع في رأسي غضبا… فزمجرت ُ :

” تكلّمي يا أروى ما الذي كنت ِ تفعلينه في غرفتها؟؟ ماذا قلت ِ لها تكلّمي ”

أروى توتّرتْ و قالتْ مستهجنةْ:

” و ما الذي سأفعله بها ؟؟ لم أفعل شيئا… ذهبت ُ لأسألها عن شيء… إنها هي من كان غير طبيعيا… بدتْ و كأنها ترى كابوسا أو فلما مرعبا… ثم صرختْ.. .لا علاقة لي بالأمر ”

قلتُ بغضب :

” عن أي شيء سألتها ؟ ”

بدا التردد على أروى فكررتُ بلكنة مهددة:

” عن أي شيء سألتها يا أروى تكلّمي؟؟ اخبرني بالتفصيل.. ماذا قلت ِ لها و جعلتها تضطرب بهذا الشكل؟؟ عم سألتها أخبريني؟ ”

” وليد ! ”

هتفتُ بعنف :

” تكلّمي ! ”

شيء من الذعر ارتسم على وجه أروى… من جراء صراخي…

أجابتْ متلعثمة :

” فقط …سـ… سألتها عن… سبب قتلك عمار… و إخفائك الحقيقة عنّي… و عن … علاقتها هي بالأمر… ”

انطلقتْ الشياطين من بركان رأسي … كنت ُ في حالة غضب شديد… لم استطع كتمانه أو التغلب عليه…

صرخت ُ في وجه أروى بعنف:

” أهذا كل شيء ؟ ”

أجابتْ أروى مذعورة:

” نعم… لا تصرخ بوجهي … ”

لكنني خطوتُ نحوها… و مددتُ يدي و أمسكتُ بذراعها بقوة و ضججتُ صوتي:

” و لماذا فعلتِ ذلك ؟ ألم أحذركِ من هذا ؟ ألم أطلب منكِ ألا تتحدثي معها ؟ لماذا فعلت ِ هذا يا أروى لماذا ؟ ”

أطلقتْ أروى صيحة ألم… و حاولتْ تحرير ذراعها منّي… لكنني ضغطتُ بشدة أكبر و أكبر… و هتفتُ بوجهها منفعلا :

” كيف تجرأتِ على هذا يا أروى ؟؟ أنظري ماذا فعلت ِ بالصغيرة… إنها مريضة… ألا تفهمين ذلك ؟؟ إن أصابها شيء … فستدفعين الثمن غاليا ”

صاحتْ أروى:

” اتركني يا وليد … أنت تؤلمني… ”

قلتُ :

” لن أكتفي بالألم… إن حلّ بالصغيرة شيء بسببكِ يا أروى… أنا لا أسمح لأحد بإيذائها بأي شكل… كائنا من كان… و لا أسامح من يسبب لها الأذى أبدا يا أروى…أتفهمين ؟؟ إلا صغيرتي يا أروى… إلا رغد… لا أسامح فيها مس شعرة… أبدا يا أروى أبدا… أبدا… هل فهمت ِ ؟؟ ”

و أفلتُّ ذراعها بقسوة مبعدا إياها عنّي بسرعة… لئلا تتغلب علي الشياطين و تدفعني لارتكاب ما لن ينفع الندم بعده على الإطلاق…

كان هذا.. مطلعا تعيسا أسود ليوم جديد أضيفه إلى رصيد أيام حياتي الحزينة المؤلمة… و هو مطلع لم يساوي الكثير أمام ما كان يخبئه القدر… في نهايته.

 

عرض التعليقات (11)