روايه انت لي الحلقه 43 جزء 1 و 2

8 14٬017
 

روايه انت لي الحلقه 43 جزء 1 و 2

روايه انت لي الحلقه 43 جزء 1 و 2

روايه انت لي الحلقه 43 جزء 1 و 2

رواية انت لي

الحلقة الثالثة و الاربعون الجزء 1

مـــــن حبيبتك؟؟

الساعه الثالثه إلا عشر دقائق عصراً أفقت من النوم مفزوعا على صوت رنين هاتفي.

تناولت الهاتف بسرعه وأنا استرجع وعيي فجأه واتذكر رغد وما ألم بها

أجبت بقلق:

نعم هذا أنا”.

وسمعت صوت رغد يحدثني من الطرف الآخر:

مرحبا وليد. هل كنت نائما؟”

قلت:

نعم رغد هل انت بخير؟

قالت:

“أجل. اتصلت مرتين ولم ترد! كنت أريد أن أطلب منك جلب بعض حاجياتي معك.

متى ستأتي؟””

ألقيت نظرة على ساعة الحائط ثم قلت:

“بعد ساعة من الآن. لقد استغرقت في النوم ولم أحس بشي. أنا أسف. ماذا أجلب معي؟”

وذكرت لي عدة أشياء تلزمها… وإن كان (الحذاء) من بينها!

لم ألتق بأروى خلال تلك الساعة ولم أسمع ردا حين طرقت باب غرفتها

لأعلمها بانصرافي..

وذهبت إلى المستشفى وأنا أحمل باقة من الزهور الجميلة وعلبة شوكولا كبيرة بالإضافة إلى حاجيات رغد..

عندما وقعت أنظاري عليها للوهلة الأولى شعرت براحة..

إذ أنها بدت بحالة أفضل

وعاد لون الحياة إلى وجهها بعد الشحوب. كما أنها سرت بباقة الزهزر وشكرتني عليها.

أقللت خالتي إلى المنزل وعدت سريعا إلى رغد حيث قضيت معها ساعات الزياره..

تخلل تلك الساعات فترة العشاء وقد قمت بنفسي بتشجيع ومساعدة رغد على تناول

الطعام.

تجابها معي طمأنني إلى أنها تجاوزت مرحلة الانهيار النفسي وتقبلت لحد ما وضعها الحالي. هاذا إضافة إلى

أن كلام الطبيب منحني المزيد من الطمأنينة على وضعها هذا اليوم.

بعد أن أنهت عشائها بدا عليها بعض الشرود والتوتر …

وأنا أعرف صغيرتي حين يشغل بالها شيء..

سألتها:

” أهناك شيء يا رغد؟”

نظرت إلي وفي عينيها التردد ولمحت أصابع يدها السليمه تتحرك باضطراب.

وكأنها تود قول شيء تخشاه.

قلت مشجعا:

“خير صغيرتي؟؟ ماذا يزعجك؟

قالت بعد تردد:

“ماذا قالت لك؟”

نظرت إليها مستنتجا ما تعنيه. كانت الإشارة إلى أروى طبعا. الاهتمام كان جليا على وجهها.

رددت عليها:

“لاشيء”

فسألت:

لاشي؟

فوضحت:

“أعني أنني لم أتحدث معها بعد. حقيقة لم أجد الوقت لذلك. كنت نائما طوال الساعات.

تلاشى جزء من توتر رغد وسكنت أصابعها ولكنها لم تزل مشغولة البال.

قلت:

“أهناك شيء تودين قوله لي يا رغد؟

اضطربت وأجابت:

” لا. لكن…”

“لكن ماذا؟”

“لاتتصغ لما تدعيه هي علي… إنها تكرهني”.

وقد قالتها بانفعال فقلت:

“لا أحد يكرهك يا رغد.

فردت بانفعال أكثر:

“بل تكرهني.., وتعتبرني عالة عليك وعلى ثروتها.. وحتى على منزلنا”.

قلت نافيا:

“غير صحيح يارغد… أروى ليست من هذا النوع”.

قالت بعصبيه:

“قلت لك لا أريد سماع أسمها… لماذا تدافع عنها؟ ألم ترَ مافعلت بي؟؟ أنت لم تسمع ماقالته لي”.

أحسست بأن أي شراره قد تشعل حريقا فظيعا… فأردت تدارك الأمر وقلت:

“لاتلقي بالا لشيء الآن. سنناقش المشكلة بعد خروجك سالمة إن شاءالله”.

هدأت رغد وقرأت الرضا والامتنان على قسمات وجهها,ألحقتهما بابتسامة بسيطة بكلمة:

“شكرا على تفهمك”.

ابتسامتها السطحية هذه أدت مفعولها وأشعرتني بتيار من الراحة… أما جملتها التالية فأطلقت قلبي محلقا في السماء…

“أنت طيب جدا… أثق بك كثيرا يا وليد”.

غمرتني نشوى دخيلةٌ على الظروف والحال اللذين نمر بهما … وأطلقت زفرة ارتياح وسرور من أعماق صدري…

وانقضت ساعات الزيارة وذهبت إلى المنزل مرتاح البال زمتهلل الوجه لحد ملحوظ…

ثماصطحبت الخالة ليندا إلى المستشفى لتبقى مع رغد طوال الليل…

عندما وصلنا إلى المستشفى, وبعد أن ركنت السيارة في أحد المواقف الخاصة,

خاطبتني الخالة قائلة:

” وليد يابني… عد إلى أروى وتحدث معها”.

كانت نبرتها مزيجا من الجدية والحزن… أيقضتني من نشوة السرور التي كنت أغط فيها…

شعرت بالحرج وقلة الحيلة ولم أجرؤ على النظر إلى عينيها… الخلة تابعت:

“إنها ليست على مايرام يابني…أنت منشغل هنا مع رغد وإصابتها… لكنأروى أيضا في حالة سيئة وبحاجة إليك باركك الله”.

بخجل رفعت بصري إليها وأطرقت برأسي مؤيداً…

حين وصلت إلى البيت وقفت أمام غرفة أروى في حيرة… لم تكن لدي الأفكار الحاضره لطرحها في الحديث…وأحاديثنا في الأيام الأخيرة كانت مشحونة جدا…

ومؤخرا تصرفت معها بخشونة بالغة…

مددت يدي أخيرا وطرقت الباب…

” هذا أنا… أيمكنني الدخول؟؟”

فلم ترد. فقلت:

“أروى… هل أنت نائمة؟؟”

فلم ترد.

كررت مناداتها إلى أن سمعتها تجيب أخيرا وبنبرة غاضبةٍ:

“نعم؟ ماذا تريد”.

قلت:

“ام لاتردين علي؟؟ أقلقتني عليك”.

فسمعتها ترد بأسلوب لم يعجبني:

“أحقا؟؟ لاداع لأن تقلق بشأني. يكفيك ما أنت فيه ومن تقلق بشأنهم. لاتتعب نفسك”.

وقفت برهة حائرا ومنزعجا في مكاني.. فأنا لم أعتد الصدود من أروى بل رحابة الصدر وطول البال وحرارة الترحيب…

ثم ناديتها مرتين وطلبت منها الإذن لي بالدخول لنتحدث… ولما تجلهلت نداءاتي تجرأت وفتحت الباب!

دخلت الغرفة فرأيت أروى تهب واقفة مفاجأة من دخولي… ورأيت الاحمرار يطلي وجهها بسرعه… وأروى من النوع الذي يتغير لون وجهه بسرعه مع تغيرات انفعالاته…

قلت وأنا أراها تضطرب وترتد خطوة للوراء:

“أنا… أنا آسف ولكنني…”

وتنحنحت لأزيل الحروف التي تعثرت في حنجرتي… ثم تابعت بصوت خافت

وحنون:

“قلق بشأنك”.

حل صمت عميق فيما بيننا فلا أنا قدرت على مواصلة الكلام ولا هي تكلمت لتشجعني… بل تراجعت خطوة أخرى للوراء وأدارت وجهها وأبعدت عينيها عني…

هل سنقف هكذا طويلا!؟؟ يجب أن أفعل شيئا!

تجرأت وخطوت بضع خطوات مترددة مقتربا من أروى… وهي لاتزال مديرة وجهها عني متحاشية النظر إلي…

“أروى”.

ناديتها بصوت حنون…

وإن لم تنظر إليّ أو لم ترد علي… فهي على الأقل تسمعني…

قلت:

“أروى… أنا آسف لما بدر مني… أعرف أنني… أنني كنت فظا.. لكن… اعذريني فأنا أمر بظروف تفقد المرء اتزانه”.

وأضفت:

“والأجدر بك كزوجة مساندتي وليس مؤاخذتي…”

هنا التفتت أروى إلي ورفعت بصرها نحوي… فقرأت في عينيها كلمات غاضبة…

ثم علقت:

“والأجدر بك كزوج… ملاطفتي وليس الصراخ في وجهي وسحق عظامي في الجدران”.

لم أعرف بم أعقب! صعقني تعقيب أروى وأشعرني بذنب مؤلم…

أنا وأروى ومنذ ليلة شجارها مع رغد… على خلاف يتفاقم يوما بعد يوم… وأحدثت شجاراتها مع رغد بيننا فجوة كبيرة آخذة في الاتساع…

أولتني أروى ظهرها مجددا لتبعد عينيها وتعبيرات وجهها عن مرآي. ومرت اللحظة خلف اللحظة ونحن واقفان على هذا الوضع…

أردت أن أشعرها بندمي وبأنني راغب في أن نتفاهم ونتصالح…

مددت يدي ووضعتها على كتفها برفق… ثم أدرتها لتواجهني… وعندما التقت نظراتنا شاهدت بريق الدموع في عينيها…

“أروى…”

قلت هامسا:

“دعينا نتفاهم… أرجوك”.

رفعت أروى يدها ومسحت الدمعة العالقة في رموشها قبل أن تطل… وأظهرت تعبيرات التماسك وقالت أخيرا:

“حسنا. عم تريدنا أن نتفاهم؟”

قلت وأنا لا أزال واضعا يدي على كتفها:

“عن كل شيء… والأهم عنك أنت”.

نظرت إلي وهي وتضيق فتحتي عينيها وتقول:

“عني أنا؟”

أجبت:

“نعم. فأنا أود الاطمئنان عليك قبل كل شي الآن…”

قالت:

“وكيف تراني الآن؟؟”

قلت مشجعا:

“أراك بخير والحمدلله… ألست كذلك؟”

أمالت أروى إحدى زاويتي فمها للأعلى وعقبت:

“تلزمك نظارة”.

وهي إجابة لم أتوقعها من أروى… ولم أستسغها… ثم أبعدت يدي عن كتفها إشارة إلى أنها غاضبة مني…

قلت محاولا استرضاءها:

“أروى… أنا آسف… آسف لأنني قصرت معك وأسأت التصرف… أرجوك أن تعذريني… إنني لا أعرف ماحصل ولكنني مأخوذا بإصابة رغد البالغة ولم أستطع التفكير في شيء أخر معها… أردت أن أسألك لتتضح الأمور… ولكن… تعرفين… كنت مضطرا لملازمة رغد في المستشفى ولم تسنح الفرصة”.

قالت أروى وهي تعبر عن استيائها:

“مضطر؟؟”

قلت:

“أعني… أنه لابد من ذلك… لم يمكنني تركها وحيدة آنذاك لأنها تفزع من الوحده والغربة… إنه فزع مرضي كما أعلمتك مسبقا…”

قالت أروى بشيء من السخرية:

“وما الذي جعلك تتركهاالآن؟ هل تخلصت من مرضها أم ماذا؟”

لم أعقب على سؤالها, ثم قلت:

“اندع رغد لما بعد ولنتحدث عنك أنت الآن”.

ولم أفهم سر التعبيرات التي طلعت على وجه أروى لحظتها…

بعدها قالت:

“بالنسبة لي أنا… فأنا أريد العودة إلى المزرعة”.

فوجئت من كلامها وارتسمت على وجهي تعبيرات عدم التصديق… فنحن في ظروف ليست بحاجة للشرح ولايمكن لفكرة السفر أن تبقى في رأس أي منا…

قلت مستغربا:

“المزرعة؟؟”

فردت مؤكدة:

“نعم المزرعة. أريد العودة إلى المزرعة… إلى خالي… وفي أقرب فرصة”.

أتعني ماتقول؟؟ ألا ترى وضعنا الحالي؟؟ أهي جادة في كلامها هذا؟؟

قلت:

“كيف يا أروى؟ عجبا! كيف تفكرين في هذا الآن؟؟ لانستطيع السفر وتدركين لماذا”.

قالت موضحة:

“أما لم أقل نريد العودة… قلت أنني أنا أريد العودة… وإذا احتجتم لوالدتي فلا أظنها تمانع البقاء معكم… لكني أريد السفر وبسرعة… ولاتحاول ثنيي لأنني لن أغير موقفي”.

وكان على وجهها الحزم والجد… فأدركت مدى الإصرار الذي تحمله…

رفعت يدي الاثنتين إلى كتفيها من جديد وقلت بصوت راجٍ:

“لماذا ياأروى؟ ألا تقدرين مانحن فيه؟”

أجابت بصوت غاضب, أفلت من مكابحه فجأة وفجر نافورة من الدماء في وجنتيها:

“لماذا؟ أوتسألني لماذا؟؟ لأنني تعبت يا وليد… أكاد أنفجر… ألاتشعر بما أعانيه؟؟

ألا تحس بي يا وليد؟؟ ألا تحس؟؟

وقبل أن تتم جملتها كانت الدموع قد فارقت من عينيها… فرفعت كفيها وخبأت وجهها وبكت بصوت عال…

كانت يداي لاتزالان قابعتين على كتفيها بحنان… ربما لتطبطبان على موضع القسوة التي عاملتها بها صباحا…

بكت أروى بألم.. فرققت لحالها وقلت:

“أرجوكِ… لاتبكي…”

لكنها استمرت في إطلاق الزفرات الباكية الحارة…

قلت بلطف:

“اهدئي رجاءً…”

أروى أزاحت كفيها عن وجهها ونظرت إلي من بين الدموع…

“ألا تحس بي يا وليد؟؟”

أجبت بعطف:

“من قال ذلك؟!”

أروى عصرت عينيها من الدموع وهي تحرك رأسهها نفيا وتقول:

“لا… لا تحس بي! إنك لا تشعر بما أشعر به… ولا بما أعانيه”.

مدهشا من كلامها وقفت أحدق في عينيها وأصغي باهتمام…

وإذا بها تمد إحدى يديها إلى إحدى ذراعيّ الممدودتين إلى كتفيها فتشد عليها وتقول:

“وليد… وليد… أنا أحبك”.

شعرت بشيء يقف في حلقي فجأة ويسد مجرى هوائي! فتوقفت عن الحركة وعن التنفس…

أما هي فتابعت:

“أتدرك ذلك؟؟”

ولما رأت سكوني هزت ذراعي وكررت:

“أتدرك ذلك يا وليد؟ أتحس بي؟؟”

أطلقت زفرة أخيرة مصحوبة بإجابة متوترو:

“آه… أجل… طبعا”.

قالت:

“وأنت؟ هل تحبني؟”

ازداد توتري واستغرابي… ازدردت ريقي ثم قلت:

“ماذا دهاك يا أروى”.

قاطعتني سائلة وهي تضغط على ذراعي:

“هل تحبني؟”

قلت:

“أروى!!؟”

فضغطت أكثر على ذراعي وقالت:

“أجب يا وليد…”

احتقنت الدماء في وجهي واشتعل احمرارا… وخرجت أنفاسي حارة لفحة وجه أروى وأوشكت أن تحرقه…

“بالطبع…”

وكأن الإجابة قد فجرت بركانا مملوء بالحمم في عينيها… نظرت إلي نظرة تشكك… وحركت رأسها نفيا… ثم دفنت كل تلك الحرائق في صدري…

“لماذا تفعل هذا بي يا وليد؟؟ أنا لا أتحمل… لا أتحمل… لا أتحمل”.

انهارت أروى باكية على صدري بعمق.. فما كان مني إلا أن أحطتها بذراعي بعطف… وطبطبت عليها…

كنت أرغب في أن نتحدث معا ونستوضح الأمور… ونصلح الخصام القائم بيننا غير أن بكاءها وانهيارها بهذا الشكل جعلني أرجىء بعيدا الأفكار المبعثرة التتي كنت أحاول تجميعها قبل دخولي الغرفة…

تركتها تبكي على صدري وأخذت أمسح على شعرها الناعم… حتى هدأت قليلا…

فقلت مشجعا:

“يكفي يا أروى… أرجوكِ”.

وأمسكت برأسها وأبعدته عني قليلا… حتى التقت نظراتنا… وكم كانت عميقة ومكتظة بالمعاني…

همست بعطف وقلق:

“ماذا حل بكِ… أروى؟”

فردت للعجب ردا لايمت لسؤالي بصلة:

“إنك حتى… لم تفكر في الاحتفاظ بصورة لي! أنا خطيبتك… وزوجتك شرعا”.

نظرت إليها والدهشة تملأ وجهي… وبدأ سباق نبضات قلبي وانتهى بتوقف مفاجىء.

حين سمعت أروى تتابع قائلة:

“لكنك تحتفظ بصورتها هي!”

جفلت تيبست ذراعاي وتصلبت رجلاي… حملقت في أروى في عجز عن تحرير أنظاري من أسرها…

وإذا بها تقول:

“لايحتفظ الرجل بصورة فتاة تحت وسادته… إلا إذا كان يحبها… لا يحتاج المرء لذكاء خارق حتى يستنتج هذا”.

هنا انكتمت أنفاسي كليا ووقف شعر جسدي مذهولا… حدقت عيناي في عيني أروى واستقبل وجهي كلماتها القوية… كصفعة مباغتة اصطدمت به حتى تمحي ملامحم…

وبالتأكيد… فإن ملامح وجهي بالفععل قد اختفت… لأنني رأيت عيني أروى تدوران فيه… تفتشان عن شيء لم تعثر عليه…

متسمرا في مكاني… وساكنا عن أي حركةٍ أو نفسٍ أو نبض, وقفت أما أروى أتلقى النظرات الثاقبة… ذات المعاني المستهدفة…

لما رأت أروى سكوني المهول… حركت يديها نحو كتفي وضغطت عليهما… وسألت:

“هل تحبها؟”

السؤال المفاجىء المهول… أجبر فمي على الانفغار… لكن نفسا لم يخرج منه… ونفسا لم يدخل إليه…

شعرت بيدي أروى تشدان أكثر على كتفي… وكانت تركز في عيني كمسمار دق على بصري فثبته ومنعه من الهروب…

كررت:

“أنت تحبها… أليس كذلك؟؟”

لم أتحرك!

قالت ووجهها يشع احمرارا:

“أجب يا وليد؟؟”

حاولت أن أبلع ريقي لكن الشلل أصاب حلقي… كما أن الجفاف الشديد صير لساني إلى قطعة خشب مهترئة عاجزة عن الحراك…

“أجبني”.

ألحت أروى… وبصعوبة عصرت هذه الكلمات من لساني عصرا:

“بـــ… بالطبع… أليست ابنة عمي؟”

أروى هزت رأسها استنكارا وقالت:

“لا يا وليد! أنت تدرك ما أعني… أنت تحبها أكثر من ذلك… لا تحاول… إنك… أنت… آه”.

ولم تكمل أروى جملتها… بل سحبت يديها وأخفت وجهها بهما وابتعدت عني…

وربماكان هذا أفضل مافعلته… لتطلق سراح عيني…

ترنحت عيناي في اللاشيء… واللاهدف… وتأرجحت ذراعاي على جانبي كبندول الساعة… وتراقصت كلمات أروى الأخيرة بين طبلتي أذني حتى مزقتهما…

العرق كان يتصبب من جسمي… والدماء تغلي في عروقي… وأشعر ببخار يخترق جلدي ويطير إلى السقف…

لم أتوقع أن تأتي هذه اللحظة ذات يوم… ولم أفكر بها… وبقيت متجاهلا لاحتمالها وهاربا منه… حتى جاءت بغتة… فلم تجد لدي أي استعداد لاستقبالها…

كانت لحظة من أصعب لحظات المواجهة… بيني وبين أروى… كان… موقفا لا أحسد عليه… ورغم أنه فاجأني لحد الذهول… لحد الذوبان والتيه واللاشي… لم تصدر عني أية ردة فعل تجاهه… كنت مشلولا تماما… وما كان أسرع ما استسلمت لحصوله… وانسقت لما فرضه علي… فلا يوجد ما يمكنني أن أنفيه أو أدعيه أو أشكك فيه…

عرفت يا أروى؟؟ لابد أنك كنت ستعرفين ذات يوم…

أنا… لاأستطيع بأي حال أن أفلح في إنكار حقيقة بهذا الحجم… بحجم السماء في سعتها… وبوضوح الشمس في سطوعها…وبعمق البحر في جوفه…

إنهها الحقيقة التي تحتل تسعاً وتسعين جزءا من المائة… من حياتي كلها… ولساني يبقى عاجزا تماما عن نفيها أو تحويرها… وأفكاري منقادة لأوامر القلب الذي يستحيل عصيانه… وجنوني يدفعني لأن…أحتفظ بصورتها القديمة الممزقة كل تلك السنين… كل تلك السنين… مخبأة عندي… نعم… فهي فقط… كل ما أستطيع الاحتفاظ به… قريبا من قلبي… هي فقط… ما أستطيع أن أتحسسه بيدي… وأتأمله بعيني… وأضمه إلى صدري…

وخلال التسع سنوات الماضية… لم تفارقني هذه الصورة الغالية… كنزي الثمين… ولا ليلة واحدة…

بعد مرور بضع دقائق أو شهور أو حتى سنين… أصابني الإعياء فسرت حتى جلست على طرف السرير… التقطت أنفاسي كعجوز طاعن… أتعبه الوقوف على رجليه لبعض الوقت…

وبقيت على صمتي لدهر…

كنت أسمع صوت بكاء أروى ولا أرفع نظري إليها… حتى إذا ما توقفت, تسللت عيناي إليها بحذر…

كانت مولية ظهرها إلي ولكنها استدارت بعد قليل ولما التقت نظراتنا أسرعت بالانسحاب عن عينيها…

سمعتها بعد ذلك تقول:

“أريد أن ترتب أمر سفري بأسرع ما يمكن…”

وخرجت الجملة متحشرجة هزيلة… وجهة إليها بصري من جديد فوجدت الدموع وقد جفت عن عينيها والجفون قد تورمتوالخدين قد توهجا من أثر الملوحة…

قالتها وانتظرت ردت فعلي…

ولأنني ساعتها لم أكن بقادر على الرد فقد اكتفيت بالتنهد وإمالة رأسي نحو الأرض… وحينما رفعته مجددا رأيتها تخرج من الغرفة وتتجه إلى الحمام… حاولت أن أناديها لكن الضعف الذي ألم بي حال دون حراكي…

انتظرتها حتى تعود… وأنا ألملم بعض أشلاء شجاعتي… وأعيد ترتيب كلماتي…

لكن الانتظار طال ولم تعد…

قمت وتوجهت نحو الحمام وطرقت الباب:

“أروى ألن تخرجي الآن؟”

أجابت:

“كلا… لاتنتظرني”.

وأدركت أنها لا تريد مواصلة الحديث… فما كان مني إلا أن انسحبت.

وفي غرفتي أعدت حوارنا القصير… وتقليب الجمل التي قالتها أروى في رأسي مرارا… فيما كانت الصورة الممزقة تعبث بأصابعي…

( لا يحتفظ الرجل بصورة فتاة تحت وسادته… إلا إذا كان يحبها).

آه ياصغيرتي الممزقة…

ألم تكوني نائمة بأمان في محفظتي؟؟ لماذا أخرجتك تلك الليلة!؟ لماذا تخليت عن حذري هكذا؟؟

لقد… كنت دائما لي وحدي ولا يراك إلا عيناي… لماذا ظهرت لها وكشفت السر الدفين… وفي هذا الوقت بالذات؟؟

وتذكرت… أنه في منزلنا المحروق… في غرفة سامر… في إحدى المرات…

تركت صورة رغد الممزقة قرب وسادتي ونمت… ثم جاءت والدتي رحمها الله توقظني لتأدية الصلاة… ورأتها…

ظننت حينها… أن الموقف إنتهى في ساعته… ولو تعلمون… إلى أي مدى امتد… وماذا فعل…

طافت على مسمعي… ذكريات الكلمات الغامضة التي قالتها لي والدتي في لقائي الأخير لها قبل سفرها مع أبي إلى بيت الله… إلى حيث لارجعة عندما كانت توصيني برغد…

(” انتبه لرغد جيدا يابني”.

” بالطبع أمي!”)

أمي بدا المزيد من القلق جليا على وجهها وقالت:

(“كنا سنؤجل حجنا للعام التالي لكن… كتبه الله لنا هذا العام… هكذا قضت الظروف يابني”)

وهذا زادني حيرة!

قالت(“لو أن الظروف سارت على غير ذلك… لكانت الأوضاع مختلفة الآن… لكنه قضاء الله يا ولدي… سأدعوه في بيته العظيم بأن يعوضك خيرا مما فاتك… فلنحمده على ما قسم وأعطى”)

وقلت(“الـــ… حمدلله على كل شيء… أمي أنت تلمحين لشيء معين؟؟”)

فقالت:

(“لم تتغير هي عما تركتها عليه قبل سنين… كما لم تتغير أنت…”)

ثم أضافت:

(“إلا أن الظروف هي التي تغيرت… وأصبح لكل منكما طريقه…”).

وقد توهج وجهي منفعلا مع كلمات أمي والحقيقة الصارخة أمامي أنذاك…

ولم أستطع النبس ببنت شفة أمام نظراتها التي كشفت بواطن نفسي…

قالت:

(“اعنت بها كما يعتن أي شقيق بشقيقته… كما تعتني بدانة, وادع معي الله أن يسعدهم هم الثلاثة, وأنت معهم”).

آه يا أماه… إنك لاتعلمين ماحصل بعد رحيلك… لو تعلمين…!

في صباح اليوم التالي وفبل ذهابي إلى المستشفى التقيت بأروى صدفة في المطبخ…

كانت هادئة جدا… وتحضر بعض الطعام… وكانت بعض الأطباق موضوعة على المائدة… ورائحة الخبز المحمص والقهوة تملآن المكان…

وقفت أراقب أروى خلسة عند الباب… وأنا حائر… أأدخل… أم أنصرف…؟؟

هل سيزعجها مروري أم سترحب بي؟؟

بأي وجه أقابلها وأي كلام سأقول…؟ وأي موقف ستتخذ مني؟؟

وفيما أنا في حيرتي لمحتني أروى فجأة فارتاعت وأوقعت ما كان في يدها…

باشرت بالدخول وسرت نحوها والتقطت معها حبات الزيتون المبعثرة على الأرض وأنا أقول:

“أنا آسف… هل أفزعتك؟”

وهي ترد:

“فاجأتني”.

وبعد فراغنا من جمع الحبات التهمت إحداها…

“طيبة المذاق”.

قلت معلقا… متحاشيا إطالة النظر في عينيها قدر الإمكان… ومحاولا خلق جو جديد يمحو آثار جو البارحة الممطر… أو يلطفه…

قالت وهي تشير إلى طاولةالطعام, والتي وضعت عليها صحن الزيتون وبعض أطباق الفطور الأخرى:

“تفضل”.

بدا الطعام شهيا… وذا رائحة طيبة… تسيل اللعاب… وارتحت لتجاوبها مع الجو الجديد… وقد أتناول شيئا من الفطور معها لإخماد الحريق… ولو مؤقتا…

نظرت بشكل عفوي إلى ساعة يدي… لمعرفة الوقت تحديدا فما كان من أروى إلا أن علقت بطريقة فاجأتني:

“أم أن المدللة الحبيبة تنتظرك؟”

اصطدمت نظراتنا وتعاركت معا… ثم عادت نظراتي تجر أذيال الهزيمة إلى…

إذن… النار مضرمة ومستمرة ولاسبيل لإطفائها بوجبة فطور…

ومع رد أروى الحاد لم أجرؤ على قول أكثر من:

“إلى اللقاء”.

وسرت خارجا يلحقني صوتها وهي تقول:

“لاتنس موضوع السفر”.

***

أخبرتني مرح أنها ستأتي مع والدها لزيارتي عصر هذا اليوم.

مرح هي صديقتي وزميلتي في الجامعة, وهي ابنة السيد أسامة المنذر… مساعد وليد الأول في العمل… وشقيق المحامي يونس المنذر الرجل الذي أتى إلى مزرعة الشقراء يخبرها عن إرث عمها قبل شهور… والذي يعمل كذلك مع وليد…

ومرح رسامة بارعة… وهي شقيقة وتلميذة لأحد الفنانين الأساتذة المعروفين والذائعي الصيت على مستوى البلد…

كنت بطبيعة الحال لا أزال محبوسة على السرير الأبيض منذ يومين, معتمدة على الممرضات والسيدة ليندا في كل شيء.

كانت أعصابي منهارة تماما في اليومين السابقين… ولكنني اليوم أفضل بكثير والحمدلله.

إنها فترة الزيارة… وليد يقضيها كلها إلى جانبي… بينما تعود السيدة ليندا فيها إلى البيت…

وليد ذهب إلى عمله هذا الصباح وأتى إلي مباشرة بعد العمل… وها هو يجلس بقربي ويطالع إحدى الجرائد وعلى وجهه اهتمام ملحوظ…

يبدو أنه يقرأ أخبارا مزعجة,وأظنها عن الحرب… فهو مهووس بمتابعة تطوراتها وما يحدث في البلد أولا بأول…

على المنضدة المجاورة كان وليد قد وضع باقة رائعة من الورود الخلابة التي تبهج النفوس…

وعلبة كبيرة من الشوكولا الفاخرة التي وزع شيئا من محتواها على الأطباء والممرضات الذين يرعونني…

وألاحظ أن الرعاية في هذه المستشفى دقيقة جدا! الأطباء والممرضات يأتون لتفقدي بتكرار… حتى في أوقات الزيارة!

ها هو وليد يتثاءب من جديد! بين الفنية وأختها أراه يتثاءب أو يفرك عينيه… لاشك أنه لم ينم جيدا… وربما هو متعب ويريد أن يقيل… لكنه لم يعد للبيت بل أتى ليبقى معي… هذا يشعرني بالذنب!

إنه حنون جدا… أغدق علي عطفه وعاملني بمنتهى اللطف والاهتمام ورحابة الصدر في أزمتي هذه… حتى أنه… يساعدني في تناول الطعام!

بين لحظة وأخرى… أجر نظراتي وأحبسها بعيدا عنه, فتغافلني وتسلل خلسة إليه… مخترقة أسوار اللياقة والخجل!

إنهيتدي زي العمل… بذلة زرقاء اللون… أنيقة جدا… أراها للمرة الأولى… وقد صفف شعره بمستحضر يظهر الشعر وكأنه مبلل وتدلت خصلة طويلة لحد ما على جبينه العريض… فوق أنفه المعقوف مباشرة!

أرجو أن يكون منهمكا في القراءة وألا يلاحظ نظراتي الحمقاء!

طرق الباب…

“لا بد أنها مرح”.

قلت وأنا أنظر إلى الباب ثم إلى وليد, فوضع وليد الصحيفة جانبا وقام إلى الباب وفتحه وخرج…

وسمعت صوت رجل يحييه… ثم رأيت صديقتي مرح تطل من الباب, وتحمل باقة مذهلة من الزهور البديعة…

أخذتني بالأحضان وأمطرتني بالقبل وكلمات المواساة والتشجيع… ولا أخفي عليكم أنها رفعت من معنوياتي بقر كبير…

وبدأت بعد ذلك تتحدث وبشكل مستمر…

نسيت أن أخبركم أن مرح ثرثارة ومرحة جدا كاسمها…

حلوة المعشر وطيبة القلب… تحب الحياة وتنفق على متعتها بسخاء! إنها موهوبة في الرسم مثلي وأخوتها الرسامون يقيمون معارض فنية دورية… وقد أخبرتني بأن معرضهم التالي عما قريب وأنها ستشارك فيه ودعتني أيضا للمشاركة…

الفكرة أبهرتني…! مرح فتاة رائعة… وأفكارها رائعة أيضا…

وجود مرح معي في الجامعة في الواقع أبهج حياتي كثيرا… وساعدني على تطوير علاقاتي بالزميلات… وزيارتها هذه لي فجرت ينبوعا من الأمل والتفاؤل في صدري وأزاحت جزءا كثيرا من حزني وكآبتي… الحمدلله

فيما نحن نتجاذب أطراف الحديث حول المعرض الفني المرتقب طرق الباب ثم فتح ببطء وسمعت صوت وليد يتنحنح مستأذنا الدخول…

قلت:

“تفضل وليد”.

ولما أذنت له بالدخول دخل وقال:

” المعذره… سآخذ هذه”.

وتوجه نحو الصحيفة التي كان يطالعها قبل قليل فأخذها ثم قال موجها الكلام إلي وعيناه مركزتان على الصحيفة:

“أبو عارف يبلغك السلام ويحمد الله على سلامتك يا رغد”.

قلت:

“سلمه الله. اشكره نيابة عني”.

وهم وليد بالمغادره فقلت:

“وعلى الورد كذلك وليد”

قال:

“بالطبع”.

ثم غادر…

كنت لا أزال أنظر إلى الباب حين سمعت مرح تقول:

“أوه! أهذا السيد وليد شاكر؟؟!!”

تعجبت والتفت إليها فوجدت الدهشه تعلو وجهها فسألت مستغربة:

“نعم,ولكن كيف تعرفينه؟”

ابتسمت مرح وقالت وهي لاتزال ترفع حاجبيها من الدهشة:

“الجميع يتحدث عنه! والدي وعمي وأخوتي! كلهم يتحدثون عنه! هذا هو إذن!!”

سألتها متعجبة:

“يتحدثون عنه؟”

ردت:

“نعم! كمدير لمصنع البناء! السيد وليد شاكر قال, والسيد وليد شاكر فعل, والسيد وليد شاكر ذهب, والسيد وليد شاكر عاد!! هذا هو السيد وليد شاكر!!”

وكان التعجب طاغ على تعبيرات وجهها!

قلت:

” ولم أنت مستغربه هكذا؟؟”

مرح أطلقت ضحكة خفيفة وقالت:

“لم أتوقعه أبدا شابا صغيرا! أوه إنه في مقتبل العمر ! أهلي دائما يصفونه بالسيد النبيل! يقولون أنه ذكي وجدي ومهذب, ومهاب… ولايضحك أبدا! تخيلته رجلا صارما منغلقا في منتصف العمر أو حتى بعمر والدي!”

ثم أشارت إلي وأضافت:

“وأنت أخبرتني أنه أبوك بالوصاية! حسبته أكبر بكثير !”

قلت وأنا ابتسم عفويا:

“إنه يكبرني بنحو 10 سنين فقط!”

قالت والضحك يمتزج بكلامها:

“وكيف تنادينه في البيت؟ أبي؟؟ أو ابن عمي؟ أو السيد وليد شاكر؟؟”

ضحكت بخفة لتعليق مرح… وعلقت:

“وليد فقط! كما اعتدت أن أناديهمنذ الطفولة… لقد ربيت معه في بيت واحد… بعد فقد والدي… وكثيرا ما كنا نلعب سويا… وقد كنت أعتبره مثل أمي وأنا صغيره! والآن صار مثل أبي!”

ويا للأيام…!

سرحت برهة لألقي نظرة استرجاعية على الماضي البعيد… حيث ككنت طفلة صغيرة غضة… عَنى لها وليد الدنيا بأسرها!

وحقيقة لا يزال!

انتبهت على صوت مرح تتابع حديثها وقد لمعت نظرة ماكرة في عينيها:

“أب شاب… ثري وقوي وذكي… ومهذب… و…”

وهنا طرق البااب ثانية… وسمعت وليد ينادي باسمي فأذنت له بالدخول…

“أرجو المعذرة… الحلوى للزوار”.

قال وهو يسير نحو المنضدة المجاور لسريري حيث علبة الشوكولا…

قلت:

“ولصديقتي أيضا من فضلك”.

إذ إنه يشق علي تحريكها من موضعي, خصوصا مع إصابة يمناي.

فحمل وليد العلبة واقترب منا ومدها إلى مرح:

“تفضلي أنستي”.

مرح أخذت تقلب عينيهابين أنواع الشوكولا في حيرة أيها تختار! وأخيرا اختارت

إحدى القطع وهي تقول:

“شكرا… سننتظر حلوى خروجك من المستشفى بالسلامة يا رغد”.

ابتسمت, أما وليد فعقب:

“قريبا عاجلا بحول الله… الحلوى والعشاء أيضا”.

واستأذن وانصرف حاملا العلبة إلى والد مرح…

هذه المرة كانت أعيننا نحن الاثنتان تنظر إلى الباب, ثم إلى بعضها البعض في الوقت ذاته.

ثم إذا بي اسمع مرح تقول:

“إنه عطر (عمق المحيط) الرجالي!”

نظرت إليها باستغراب وقلت:

“عفوا!؟”

ابتسمت وقالت:

“أهديت زجاجة مماثلة لشقيقي عارف قبل أيام! شذى قوي وراق… وباهظ الثمن!”

يا لـهذه الــــ مرح!

عقدت حاجبي وضيقت عيني ونظرت إليها باستنكار… ثم قلت:

“ماذا كنا نقول؟”

قبل أن يقطع حديثنا وليد.

أجابت مرح:

“شاب… ثري… وقوي… وذكي… وراق…”

وتوقفت برهة ثم برقت عيناها وأضافت:

“وجذاب!”

أوه يا إلهي!

وقبل أن أنطق بأي تعليق طرق الباب مجددا والتفت رأسانا بسرعة نحوه… لكن الطارق هذه المرة كان السية أم فادي… زوجة السيد سيف صديق وليد المقرب…

عد أن رحل الزوار عدت إلى غرفة رغد فوجدتها بوجه مبتسم…

تهللت أسارير وجهي… لا بد أن زيارة صديقتها والسيدة أم فادي لها قد رفعت معنوياتها… ورغم أنهما لم تبقيا غير دقائق, إلا أنها كانت كافية لتشجيع رغد وتحسين مزاجها…

ولاحظت بعد ذلك أنها أيضا تناولت وجبة العشاء بشهية جيدة…

الحمدلله

كان الطبيب قد أخبرني بأنه باستطاعت رغد مغادرت المستشفى بعد بضعة أيام, كي تشعر بارتياح أكثر في بيتها وبين أهلها ويزول عنها الإحباط… ولعلمي بأنه لا أهل لها ولا عائلة تنتظرها… غير أروى التي لاتطيقها رغد…

طلبت منه إبقاءها في المستشفى لفترة أطول ريثما تسترد عافيتها وأتدبر أمرها مع أروى بشكل أو بأخر…

وبعد العشاء شكرتني رغد على المساعدة وابتسمت ابتسامت خجلة…

إنها ليست ابتسامة عادية… وتوقيتها غريب جدا…

فما معناها يا ترى؟؟!

تأملتها منتظرا التفسير… ثم سمعتها تسألني:

“وليد… هل تعرف ماذا يقول عنك آل منذر؟”

السؤال كان غريبا! لكن الأغرب هي هذه الابتسامة الحمراء المتفتحة على وجهها…

كأنها وردة بين الثلوج…

ولكن ما بال آل منذر هم الآخرين؟؟

قلت:

“ماذا؟”

رغد بعثرت نظرها عني وأجابت:

“”أنك… المدير الجدي… الذي لا يضحك أبدا!”

ارتفع حاجباي تعجبا وقلت:

“أنا؟”

“نعم”.

قلت مستغربا:

“من يقول ذلك؟”

رغد وهي لاتزال مبتسمة أجابت:

“جميعهم… ربما يهابونك! إنهم يعتقدون بإنك صارم جدا ولا تعرف المزاح ولا الضحك…”

وحدقت بي في ابتسام…

عفويا ضحكت ضحكة خفيفة وقلت:

“وهل تصدقين؟؟”

رغد ألقت علي نظرة متأملة وخجلة ثم قالت:

“لايبدو!”

الذي يبدو هو أن صديقة رغد قد نقلت إليها انطباع والدها وشقيقها وعمها عني.

لدي ثلاثة موظفين من آل منذر يعملون معي…يونس وأسامة وابنه زياد…

صحيح أنني جاد ودقيق في العمل, ولكنني لست ثقيل الظل… هل أنا كذلك؟؟

رغد نقلت نظرها إلى الورود التي إلى جوارها وتابعت:

“عندما يعرفونك عن قرب…سيكتشفون كم أنت طيب… وحنون”.

لحظتها… شعرت بروحي تحلق في السماء…

تأملت رغد فوجدتها تحدق في الورود وهي شبه مبتسمة…

آه يا رغد…

هل احتجت لكل ذلك الزمن… لتصفينني ولو بكلمة واحدة تشعرنني بأنني…

شيء في حياتك يستحق الوصف؟؟

وليلتها تجاذبنا أطراف حديث ممتع… أخبرتني رغد فيه عن معرض فني للرسامين

سيقام قريب وأن صديقتها وشقيقها الفنان عارف سيشاركان فيه…

وأنها تتمنى لو تعرض إحدى لوحاتها فيه أيضا…

قالت ذلك ثم نظرت إلى يدها المجبرة وعلاها بعض الحزن الذي سرعان ما تبدد حين قلت مشجعا:

“سنرى ما يمكن فعله”.

ابتسمت رغد ابتسامة رضا وامتنان…

وفارقتها تلك الليلة والبسمة ملتصقة بوجهها…

ذهبت إلى البيت ليلا… وكان أمامي فتاة أخرى أنتظر أن تلتصق ابتسامة ما بوجهها هي الأخرى!

بعد أن أوصلت الخالة إلى المستشفى دخلت إلى مكتبي, فإذا بأروى توافيني بعد دقيقة…

كان جليا على وجهها أنها ترغب في الحديث معي… طلبت منها أن تجلس…

وجلست على المقعد المجاور لها… انتظرت حديثها… ومرت بضع ثوان وبعض التردد مسيطر عليها ثم نطقت أخيرا:

“هل اشتريت التذاكر؟”

تنهدت باستياء… فقد كانت فكرة السفر هي آخر ما أنتظر الحديث عنه…

ونحن في مثل هذه الظروف… ثم قلت:

“ليس بعد”.

فقالت أروى متشككة:

“لكنك لم تنس أمرها أليس كذلك؟”

نظرت إلي نظرة مركزة فأجبتها:

“لا لم أنس… ولكن… دعي رغد تخرج من المستشفى أولا على الأقل”.

ومررت أصابعي في شعري وزفرت بضيق…

إشارة مني إلى أنه ليس بالوقت المناسب لحديث كهذا…

راقبتني أروى قليلا وربما لم تفهم إشارتي وسألتني:

“تبدو قلقا جدا… هل ابنة عمك بخير؟”

انقبضت عضلات فكي لدى سماع سؤالها ثم أرخيتها وأجبت:

“نعم”.

فإذا بأروى تقول مدافعة:

“وليد… اسمعني… أنا لم أدفع بها من أعلى السلم”.

حدقت بها مستغربا… ثم أطلقت بصري للفراغ وقلت:

“أعرف”.

فصمتت أروى ثم قالت:

“كنت أظن أنك فهمت شيئا خطأ… ماحصل هو أننا تشاجرنا وانثنينا لالتقاط شيء من على العتبات فانزلقت قدم رغد وأمسكت بي فوقعنا سوية”.

أثارت جملتها اهتمامي… فأنا حتى الآن لا أعرف تفاصيل ما حصل وتحاشيت سؤال رغد ومن سؤال أروى…

التفت إليها وقلت باهتمام:

“ولأجل ماذا تشاجرتما؟؟”

التزمت أروى جانب الصمت ثم سألتني:

“ألم تخبرك؟”

أجبت:

“لم أسألها… ولن أفعل على الأقل في الوقت الراهن…

لا أريد أن تنفعل بشكل أو بآخر… أريد أن تتحسن نفسيتها قبل أي شيء… لكن أخبريني أنتِ؟”

ترددت أروى ثم عقدت العزم وقالت:

“إنه هاتفك”.

استغربت:

“عفواً؟؟!”

فتابعت أروى:

“أنت نسيته في مكتبك… وكان يرن… وأرادت هي حمله إليك فطلبت منها إعطائي إياه فرفضت وأصرت على حمله إليك بنفسها…

كنا على الدرج… وحينما حاولت أخذه منها وقع على العتبات…”

وتوقفت. صمت لحظة أستوعب فيها ما قيل… ثم سألت:

“ثم ماذا؟؟”

فتابعت:

“أردنا إلتقاطه فوقعنا…”

قلت:

“أهذا كل شيء!؟”

غير مصدق… أن يكون سبب حادث فظيع ومؤلم هو شيء بهذه التفاهة…

ولما رأيت أروى تومىء برأسها (نعم) تملكني الغضب…

قلت تلقائيا:

“هكذا إذن… أردت نزع الهاتف من يدها فكسرتها”.

اندهشت أروى من تعقيبي وقالت:

“قلت لك إنه وقع للأسفل وأردنا التقاطه”.

وقفت مستاءً وقلت:

” أنا لم أنسه في المكتب أصلاً… بل أنا من أعطاها إياه تلك الليلة ولم يكن هناك داعٍ لأن تتدخلي لاستعادته”.

عبس وجه أروى وقالت مستنكرة:

“وليد! لقد كنتَ نائما في غرفتك… أردت إعادته إليك ليوقظك وقت الصلاة كالمعتاد… وهي أرادت أن تفعل هذا بنفسها”.

قلت بشيء من العصبية:

“ولماذا اعترضتها؟؟ أمن أجل شيء بهذه التفاهة تتسببان بحادث بهذا الحجم؟؟

لقد تكسرت عظامها وها هي طريحة الفراش كالمعاقة… كنت أعتقد أن شجاركما قام على أمر شأنا…

تقولين من أجل هاتف؟؟! ألا تخفين عني شيئا أكبر يا أروى؟؟”

هنا وقفت أروى بانفعال وهتفت بغضب:

ليس من أجل الهاتف… وأنا ليس لدي ما أخفيه عنك, مثلما تفعل أنت…

ولا أسمح بأن تتجاوز هي حدودها… كيف كنت تتوقع مني أن أتصرف؟؟ أأتركها تذهب إليك وأنا واقفة أتفرج؟؟

هل نسيت إنني أنا زوجتك وأقرب الناس إليك وليست هي”.

اندهشت… فتحت فمي لأنطق مستنكرا:

“أروى”

غير أنها لم تدعني أتم جملتي بل قاطعتني مباشرة وبانفعال:

“ماذا يا وليد؟ ماذا؟؟ ما الذي ستجرؤ على قوله الآن؟؟ إنني أنا زوجتك لا هي…

وأنا من يحق لها الاقتراب منك ومن خصوصياتك… لا هي…

أنا من يجب أن تضعها في اعتبارك الأول… ومن يجب أن تصرف عليها عواطفك وحبك… لا هي

وليد… إنني لا أحظى بعلاقة أكثر دفئا وعاطفة منها… وطوال تلك الشهور وأنا أفسر مواقفك بأنها من باب المسؤولية والأمانة…

وأتقبلها وبسعة صدر بل وبإعجاب… والآن… أكتشف أن الحقيقة قد تخطت ذلك…

إنك تحبها هي… ألست كذلك يا وليد؟؟”

حملقت في أروى في دهشة من كلامها… وعجز عن الرد…

وإذا بها تهتف في وجهي مستمرة بانفعال:

“لماذا لا ترد؟ أي حقائق تخفي عني بعد يا وليد؟؟ ماذا سأكتشف عنك أيضا؟؟

لماذا أتيت إلى مزرعتي أصلا؟؟ لماذا ظرت في حياتي؟؟ لماذا تزوجتني؟؟”

صعقني كلام أروى فانفضت يداي ثم إذا بهما تطبقان على ذراعيها وإذا بي أهتف بعصبية:

“أروى… هل فقدت صوابك؟؟”

أروى دفعت بيدي بعيدا عنها وهي تقول:

“اتركني… لماذا تزوجتني إن كنت تحبها هي؟؟ ماذا تخفي عني بعد؟؟

ما الذي تخططان له من خلفي؟؟…

ماذا… ماذا كنتما تفعلان عند النافذة؟؟قل”.

قلت مستاءً:

“أي نافذة وأي هذيان؟؟”

قالت مندفعة وهي تشير بيدها إلى نافذة الغرفة:

“هنا… ضحكاتك كانت تحترق الأبواب… وأراكما واقفين جنبا إلى جنب عند النافذة والأضواء مطفأة…

هل كنتما تتبادلان كلمات الحب وتضحكان علي؟؟”

وفهمت أنها تعني يوم الجمعة الماضي… عندما وقفت رغد تستمع للأذان عند النافذة في غرفة مكتبي وقدمت إلى جوارها…

لم أتحمل جنونها الفظيع هذا… فقبضت على يدها بشدة وهتفت في وجهها:

“حسبك… تماديت يا أروى؟؟ هل جننت؟؟”

فصرخت:

“وكيف تريد مني ألا أجن وأنا أكتشف أن زوجي خائن…؟؟

يظهر النبالة والشهامة مع ابنة عمه بينما في الخفاء يتبادلان الحب والصور ويستغفلاني؟؟”

هنا فقدت السيطرة على أعصابي وضغطت على يدها بقوة أوشكت معها على عصرها في قبضتي…

وصرخت وأنا أعض على أسناني:

” إياك… إياك أن تكرري الكلمة ثانية… أتسمعين؟؟

وإياك… ثم إياك… أن تقحمي رغد في هذا… لا علاقة لها بشي… فهمت؟؟

ولا أسمح بأن تتحدثي عنها هكذا… ولا تجعلي أفكاركِ تقودكِ إلى الجحيم…”

وتابعت:

“أكون خائنا لو كنت عرفتها بعد زواجي منك… لكن… لكن حبهها نشأ في صدري منذ طفولتي… ولا أسمح… بأن تصفيه بالخيانة…

إنه أكبر من أن… تفهميه… أو يفهمه أي أحد… وسواءً عرفت أو لم تعرفي…

وأعجبك أو لم يعجبك… فإن شيئا لن يتغير… وما في قلبي سأحمله إلى قبري…

وأنا أتحمل أي شيء في هذه الدنيا… أي شيء… إلا أن يصيب صغيرتي الأذى أو الإساءة…

بأي شكل… ومن أي شخص… مهما كان… أعرفت هذا الآن؟؟”

وأطلقت سراح يدها وابتعدت عنها وسددت ركلة عشوائية إلى المقعد…

أروى بقيت تنظر إلي برهة… ثم تصم أذنيها وكأنها تريد أن تحول دون تكرر

صدى كلامي بينهما…

ثم إذا بها تهتف:

“كيف… أمكنك… فعل هذا بي!؟”

ثم تهرول بسرعة خارجة من الغرفة…

بقيت واقفا على النار وجبت في الغرقة بضع خطوات عشوائية حتى استقررت أخيرا

على مقعدي خلف المكتب…

ركزت مرفقي على طاولة المكتب وأسندت رأسي على كفي بمرارة…

ما الذي فعلته؟؟

ما الذي قلته؟؟

ما الذي أصابك يا وليد؟؟ وما الذي ينتظرك؟؟

درت في دوامة الأفكار حتى داهمني الدوار والغثيان وشعرت بألم حاد في معدتي…

رفعت رأسي عن كفي وهممت بالتفتيش عن أقراص المعدة التي أتناولها عند الحاجة والتي أضع بعضها في أدراج مكتبي…

لفت انتباهي وجود مجموعة من الأوراق على المكتب, يعلوها قلم رصاص…

تركت يدي الدرج واتجهت إلى الأوراق عفويا… أزحت القلم ورأيت الورقة الأولى بيضاء خالية إلا من تجعيد خفيف…

تصفحت ما يليها… ودهشت لما رأيت…!!

أتعرفون ماذا رأيت؟؟

شيئا سيدهشكم مثلي ويلقي بكم في بئر الحيرة…

على تلك الأوراق كانت هناك صور مرسومة بقلم الرصاص…

لوجه شخص مألوف جدا… كان ينظر إلى إحدى النواحي وقد على وجهه تعبير القلق…

ملامحه كانت مرسومة بدقة عجيبة وكأنها خرجت من أصل الواقع مباشرة… وأكثر ما يثير الدهشة…

هو وجود انكسار بسيط على أنفه الطويل… مشابه تماما للانكسار الذي يعلو أنفي أنا!

قلبت الورقة بعد الأخرى… والدماء تتصاعد إلى وجهي… والدهشة تملأ عيني…

كان وجهي أنا… مرسوما على أكثر من ورقة… رسما هيكليا بسيطا وغير مكتمل… بقلم الرصاص…

هذه رسمات رغد…

تذكرت… إنني في ليلة الحادث, كنت قد تركتها في مكتبي مع هاتفي… لتنقل الصور التي التقطناها في النزهة إلى الحاسوب…

الصور… الهاتف… الحاسوب…!

أخذت أفتش في هاتفي وحاسوبي عن تلك الصور… لم أعثر عليها في الهاتف…

لكنني وجدتها في الحاسوب…

أتدرون ماذا وجدت بين الصور؟؟

صورة لي!

صورة وأنا أنظر إلى البحر… وعلى وجهي أمارات القلق…

مطابقا تماما لتلك التي وجدتها مرسومة على الورق…

رغد…

رغد…

آه… يا حبيبتي…

********************

اليوم سأجرب السير على عكازي…

الطبيب والنعالجة الطبيعية والممرضة والسيدة ليندا جميعهم يقفون إلى جانبي وأنا أحاول النهوض مستندة على العكاز…

أخصائية العلاج الطبيعي أجرت لرجلي تمارين تحريك بسيطة قبل قليل, وشرحت لي وللسيدة لينداكيفيتها… كانت سهلة ولكنها هيجت بعض الألم في قدمي ولذلك أنا متخوفة من استخدام العكاز…

الطبيب كان يكرر عبارات التشجيع… ويطمئنني بأن رجلي بخير…

لكنني قلقة وخاشية أن أصيب رجلي بالعرج… وأنتهي عرجاء… تثير شفقة الآخرين…

ولأن إصابتي شملت يدي اليمنى أيضا فإن استخدام العكاز لم يكن بالأمر السهل…

ولاقيت صعوبة في تثبيته والارتكاز عليه…

المحاولات الأولى لم تككن ناجحة ولم تثر في نفسي إلا القلق والكآبة…

وفيما أنا أخطو خطواتي البطيئة الثقيلة تعثرت بعباءتي وكدت أنزلق لولا أن تداركتني أيدي من حولي.

“لا أريد أن أستخدم هذا”.

قلت بذلك بغيظ مشيرة إلى العكاز… شاعرة بنفور منه ورفض كلي لاستخدامه…

اخصائية العلاج الطبيعي حاولت تشجيعي وحثي على إعادة المحاولة…

كانوا جميعا مسترسلين في تحريضهم لي على السير وتصوير الأمر بالمهمة السهلة فيما هي شاقة بدنيا ونفسيا…

“لا أستطيع”.

صرحت… فعقبوا جميعا:

“بلى تستطيعين… هيا حاولي مجددا… ستنجحين هذه المرة”.

أخيرا وافقت كارهة على المحاولة وسرت خطوتين أجر فيهما رجلي من خلفي وأكاد أتعثر بملابسي…

“هيا… أحسنت… واصلي…”

يشجعوني وأنا أكاد أنهار من التوتر…

هنا سمعت طرقا على الباب والذي كان نصف مغلق وجاء صوت وليد يحييّ.

ثم رأيته يدخل الغرفة وينظر إلينا… كان يحمل حاسوبه المحمول وكيساً ما.

رواية انت لي

الحلقة الثالثة و الاربعون الجزء 2

عندما نظر إلي هتفت مستنجدة:

“وليد…”

وألقيت بالعكاز جانبا ومددت يدي إليه… طالبة الدعم…

وليد وضع ما كان في يده جانبا وأسرع نحوي وما إن بلغني حتى ألقيت بثقل جسدي عليه

هو بدلا من العكاز وأنا أقول:

“لا أستطيع… لا أريد أن أمشي بالعكاز.. لا أريد”.

ربت وليد على يدي المجبرة وقال:

“اهدئي رغد… ماذا حصل؟؟”

قلت مستغيثة:

“قل لهم ألا يضغطوا علي… لا أريد هذا العكاز…

قدمي تؤلمني… لن أستخدمه ثانية… أرجوك أخرجني من هنا”.

تنقل وليد ببصره على الطاقم الطبي وقال مخاطبا الطبيب:

“ما الأمر يا دكتور؟”

الطبيب أجاب:

“لا شيء. إتها خائفة من استخدام العكاز ونحن نحاول تشجيعها”.

أبدى وليد تعبيرات الضيق على وجهه وقال:

“لكننا لم نتفق على هذا”.

استغرب الطبيب وسأل:

“على ماذا؟”

رد وليد:

“على بدء التمارين… لا أحب أن تقرروا شيئا دون إبلاغي…

ولا أقبل أن تضغطوا على الفتاة في شيء”.

نظر الطبيب وأخصائية العلاج الطبيعي إلى بعضهما البعض, نظرات ذات مغزى,

ثم التقطت الأخيرة العكاز الملقي على الأرض وقالت:

“حسنا… سنحاول مع العكاز لاحقا… لكن يجب الاستمرار على تمارين الرجل”.

التفت وليد إلي وقال:

“سنعود إلى السرير”.

وسرت متعمدة عليه إلى أن جلست باسترخاء على سريري…

“كيف تشعرين؟”

سألني وليد فأجبت منفعلة:

“أنا لن أمشي بهذا العكاز… إما أن أسير على قدمي كالسابق أو سأبقى في سريري للأبد”.

وليد رد:

“هوني عليكِ…”

كتمت خوفي وصمت…

غادر الطاقم الطبي وتبعهما وليد ثم عاد بعد بضع دقائق… ابتسم وقال:

“أحضرت لك بعض المجلات لتطلعي عليها”.

وقرب إلي الكيس الذي أحضره معه…

نظرة إله بامتنان وقلت:

“ولكن يا وليد أنا أريد الخروج من هنا… دعنا نعود للبيت”.

وليد ارتسم بعض القلق على وجهه ثم قال:

” من الأفضل أن تبقي لأيام أخرى بعد… ريثما تتحسن إصابتك وتتدربين على السير على العكاز أكثر”.

قلت:

“لن أحاول ثانية”.

بدأ القلق يتفاقم على وجه وليد فقلت:

“أرجوك… أنا لا أريد البقاء هنا”.

السيدة ليندا تدخلت قائلة:

“شرحت لنا أخصائية العلاج الطبيعي كيفية التمارين وسأتولى العناية بها في المنزل…

فإذا كان الطبيب يوافق فمن الخير لنا المغادرة يا بني”.

وليد لم يظهر تأييدا ولا أعرف لم يريد لي البقاء في المستشفى أكثر…

رغم الإرباك الذي سببه الأمر في عمله وفي وضعنا بشكل عام…

إضافة إلى تكاليف المستشفى الباهضة…

قال:

“لثلاثة أيام أخرى على الأقل”.

وكان الإصرار مغلفا بالرجاء ينبع من عينيه… فقلت باستلام:

“ثلاثة فقط”.

ابتسم وليد ثم التفت إلى السيدة ليندا وخاطبها:

“هيا بنا الآن إلى المنزل ياخالتي… وكان الله في عونك هذه الليلة أيضا”.

وكالعادة بعد اصطحابها للمنزل عاد وليد وبقى برفقتي طوال ساعات الزيارة…

وكان يشغل نفسه بانجاز أعماله في حاسوبه الخاص, بينما كنت أنا أتصفح المجلات التي جلبها لي وبين لحظة وأخرى ألقي نظرة على الساعة…

النهار غدا طويلا… وشعرت بالملل… وراودتني فكرة الاتصال بنهلة والتي لم أهاتفها منذ أيام ولم أعلمها عما حصل معي…

“وليد”.

ناديته وقد كان مركزا في الشاشة فالتفت إلي:

“نعم؟”

قلت:

“من فضلك هلا ناولتني الهاتف؟”

وأشرت إلى المنضدة المجاورة حيث كان الهاتف موضوعا على الوصول إليه.

أقبل وليد وناولني الهاتف وسألني عفويا:

“بمن ستتصلين؟”

أجبت:

“ببيت خالتي”.

وليد أمسك بالهاتف وأبعده عني… نظرت إليه باستغراب فرد على استغرابي بسؤال:

“هل سبق وأن أخبرتيهم؟”

أجبت:

“لا”.

وليد أعاد الهاتف إلى المنضدة وقال:

“جيد. لا داعي لأن تقلقيهم الآن”.

تعجبت وسألت:

“ألا تريد مني الاتصال بهم؟”

قال:

“أرجوك لاتفعلي رغد”.

ازداد عجبي وسألت:

“لماذا؟؟”

وليد شد على قبضتيه وعلاه التوتر ثم قال:

“تعرفين… إن ذلك سيسبب لهم القلق وأنت لا تزالين في المستشفى… الحمدلله أنك بخير ولا داعي لإشغال بالهم عليك”.

إنني أوافي نهلة بتفاصيل سخيفة عن حياتي اليومية فهل يعقل ألا أخبرها عن حادثة كهذه؟

قلت:

“سأطمئنهم إلى أنني بخير وسأغادر قريبا”.

وليد حرك رأسه اعتراضا.

قلت:

“لكن…”

وتكلم وليد بنبرة شديدة الرجاء:

“أرجوك يا رغد… لا تخبريهم بشيء… أرجوك”.

ورغم أنني لم أفهم موقف وليد غير أنني أذعنت لطلبه ولم أتصل بعائلة خالتي ولم أطلعهم على شيء مما حصل إلى أن التقينا فيما بعد…

ومضت الأيام الأخيرة… وأخيرا غادرت المستشفى…

كاد وليد قد أعد إحدى غرف الطابق السفلي لأقيم فيها مؤقتا…

ولأن منزلنا كبير وموحش ومليء بالعتبات والدرجات, فقد اختار لي أقرب غرفة إلى المطبخ وإلى غرفة المعيشة السفلية والتي استقلها هو بدوره للمبيت قريبا مني.

كنتقد تدربت على السير بالعكاز مضطرة… المهمة شاقة وتحركي بطيء وثقيل… لكنني عدمت حلا آخر…

أخذت أتنقل بالعكاز في غرفة نومي وفي الجوار بحذر ومشقة وغالبا ما أعتمد على الآخرين لجلب الأشياء إلي.

وليد والسيدة ليندا والخادمة تناوبوا على رعايتي وملازمتي معظم الأوقات.

أما الدخيلة الشقراء فلم أر وجهها الملون مُذ زارتني في المستشفى بعد الحادث…

وليد أصر على إقامة حفلة عشاء صغيرة دعونا إليها المقربين احتفالا بخروجي من المستشفى.

الفكرة لم تعجبني لأنني بالتأكيد سأضطر لمجالسة الشقراء مع الضيوف. لكنني رضخت للأمر من أجل وليد.

ما كان أطيبه وأكرمه… طوال فترة بقائي في المستشفى…

أول ضيفة وصلت كانت صديقتي مرح مع والدتها وشقيقتيها وقد استقبلتهن السيدة ليندا وقادتهن إلى غرفة الضيوف حيث أجلس.

أمطرتني الثلاث بالتحيات والتهنئات على خروجي من المستشفى وأهدينني سلة حلويات رائعة.

“ولكن أين هي السيدة أروى؟ نتوق للتعرف إليها”.

قالت ذلك مرح بكل عفوية وهي تجهل أن مجرد ذكر اسم هذه الدخيلة يثير غيضي…

السيدة ليندا ردت مبتسمة:

“إنها في الجوار… سوف أستدعيها”.

وذهبت لاستدعائها.

مرح قالت مازحة:

“أتحرق شوقا لرؤية مالكة المصنع وصاحبة الملايين! يقول أبي أنها كانت تعيش في مزرعة حياة عادية!”

أم عارف- والدة مرح- زجرت مرح على تعليقها ولكن مرح ابتسمت وقالت:

“هيا أمي! هذه رغد صديقتي المقربة وهي تعرف أنني أحب المزاح! ألا تبدو حكاية السيدة أروى أشبه بالأساطير؟؟”

لحظات وإذا بالشقراء تهل علينا…

قامت الثلاث وحيينها بحرارة وعبرن عن سرورهن الشديد بالتعرف إليها ولهفتهن المسبقة للقائها…

وكان جليا عليهن الانبهار بها… نعم فهي جميلة بدرجة آسرة للنظر وقد تزينت هذه الأمسية بشكل متقن جدا…

إنني أمهر منها في فن المساحيق والألوان… لكني الآن قابعة في مكاني بجبيرتي وعكازي…

وبدون أي زينة… ولا أثير سوى شفقة الأخرين…

بمجرد حلولها, سرقت الشقراء كل الأضواء بعيدا عني… أنا من كان يفترض أن تكون هذه الحفلة قد أقيمت من أجلها!

وعندما أتت أم سيف وأم فادي كذلك انضمتا إليهن.

وحتى على المائدة, كن يأكلن بسرور وعفوية ويمتدحن الأطباق اللذيذة واليد الماهرة التي أعدتها…

فيما كنت أنا المعاقة بالكاد ألمس الطعام بيدي اليسرى…

وعوضا عن أن تبهجني هذه الحفلة كما يفترض زادتني غيضا ونفورا من الدخيلة.

التزمت جانب الهدوء معظم الوقت لشعوري بأنني لا أملك شيئا أمام ما تملكه الشقراء مما يثير اهتمام وإعجاب الآخرين…

وعندما قامت الدخيلة برفع الأطباق الرئيسية إذا بمرح والتي كانت جالسة إلى جواري

تقترب مني وتهمس في أذني:

“زوجة أبيكِ مذهلة! جذابة مثله! كم هما ثنائي رائع”.

ولو لم أتمالك نفسي لأفرغت ما في معدتي من شدة الغيظ…

بعد أن خرج الضيوف, أويت مباشرة إلى غرفتي والنار تحرق صدري وتفحمه…

ولم أجد من حولي ما أفرغ فيه غضبي ولا من أبثه همي أو أعبر له عما يختلج داخلي…

فأخذت أبكي بحرقة… وأردت أن أكسر الجبيرة وأحطم العكاز اللذين لم يزيداني إلا بؤسا…

ومن شدة غيظي رميت بالعكاز بعيدا بقوة فارتطم بطاولة على مقربة وأحدث بعض الجلبة…

طرق الباب وسمعت وليد يخاطبني:

“هذا أنا يا رغد… هل انت بخير؟؟”

قلت:

“نعم. لا تقلق”.

قال:

“هل تحتاجين إلى شيء؟”

أجبت:

“كلا… شكرا”.

فقال:

“إذن تصبحين على خير”.

وأحسست به يبتعد…

شعرت برغبة مفاجئة في التحدث معه… أردت النهوض ولكن عكازي كان بعيدا…

ناديته لكنه لم يسمعني… زحفت على الأرض إلى أن وصلت إلى عكازي…

ثم ارتديت حجابي على عجل وسرت نحو الباب…

ذهبت إلى غرفة المعيشة المجاورة حيث يبات هو حاليا… وكان الباب مفتوحا ويكشف ما في الداخل…

إلى الجدار المقابل لفتحة الباب كانت أروى تسند ظهرها وقد مددت إحدى يديها إلى خصرها بينما يقف وليد أمامها مباشرة وذراعاه ممدودتان إلى الأمام ومسندتان إلى ذات الجدار مشكلتين طوقا حولها…

حين وقع بصري على منظرهما شعرت بالشلل المفاجىء وترنحت بعكازي…

بسرعة استدرت للوراء وخطوت خطوتين بالعكاز مبتعدة عن الصدمة… ولأنني شعرت بالشلل فقد رميت ثقلي كاملا على العكاز الذي انزلق فوق الأرضية الملساء وأوقعني فجأة…

تأوهت ألما… ولم أستطع النهوض ليس من شدة الإصابة بل من العشي الذي أصاب عيني من منظر الاثنين…

لمحت وليد يقبل نحوي قلقا ويجثو بقربي وهو يقول:

“أأنت بخير؟”

بخير…؟ لا! أنا لست بخير… لست بخير… لست بخير…

هب وليد لمساعدتي على النهوض فقلت زاجرة:

“دعني من فضلك”.

ومددت يدي إلى العكاز وأقمته عموديا على الأرض وحاولت النهوض…

غير أنني لم أستطع…

كانت أطرافي ترتجف وأعصابي منهارة وعجزة عن شد قبضتي على العكاز فانزلق مجددا…

قال وليد:

“دعيني أساعدك”.

لكنني رددت باقتضاب:

“قلت دعني وشأني… سأنهض بمفردي”.

وأعدت الاستناد إلى العكازوانهرت أرضا…

وليد حينما رأى ذلك مد ذراعيه ورفعني عن الأرض…

قلت بغضب:

“ماذا تفعل؟ كلا… أنزلني…”

قال وليد بانفعال:

“ستكسرين بقبة أطرافك إن تركتك هكذا”.

وسار بي رغما عني إلى أن أوصلني إلى غرفتي ووضعني على السرير.

قلت ثائرة:

“لا أريد مساعدة من أحد… دعوني وشأني”.

وليد نظر إلي باستغراب واستهجان معا وقال:

“ماذا جرى لك يا رغد؟ ما غيرك هكذا فجأة؟”

قلت بغضب:

“ليس من شأنك… إياك أن تكررها ثانية… من تظن نفسكك؟؟”

وليد حملق بي مندهشا:

“رغد!! أتهذين؟؟”

صرخت:

“نعم أهذي… أنا مجنونة… ماذا يهمك في ذلك؟؟”

أطرق وليد برأسه ثم قال مستاء:

“الظاهر أنني تسرعت حين أحضرتك من المستشفى… أنت لاتزالين متعبة”.

استفزتني جملته… فصرخت:

“متعبة ومجنونة وعرجاء… ثم ماذا؟ هل اكتشفت حقيقة ما أكون الآن؟”

تنفس وليد نفسا عميقا ثم أولاني ظهره وغادر.

ناديت بغضب:

“إلى أين تذهب؟ عد إلى هنان”.

لكنه اختفى… ثم فجأة ظهر يحمل العكاز وأتى به إلى جانبي…

لما رأيت العكاز قربي مباشرة ثار جنوني… أخذت العكاز ورميت به بقوة بعيدا فارتطم بنفس الطاولة وأحدث ذات الجلبة… وليد وقف بجواري يراقب بصمت…

قلت بحدة:

“لا أريد هذا ولن أستخدمه ثانية… هل فهمت؟”

لم يتحرك ولم يقل شيئا… فاشتططت غضبا من بروده وصرخت:

“لا تعده إلي ثانية… مفهوم؟؟”

وليد وقف يسمعني وينظر إلي ولا يرد!

أردت منه أن يقول شيئا.. أن يغضب… أن يتشاجر معي أو يواسيني… أن يبدي أي ردة فعل تفيد بأنه يسمعني ولكنه لم يحرك ساكنا.

قلت بتهيج:

“لماذا لا ترد؟”

وليد حدق بي لحظة ثم قال:

“هل انتهيت الآن؟”

حملقنا ببعضنا لفترة ثم استدار وليد بقصد المغادرة.

هتفت بسرعة:

“انتظر”.

استدار إلي بنفاذ صبر وقال بضيق بالغ:

“ماذا بعد؟”

ولما أحسست بضيقه هدأت فجأة وشعرت بالذنب…

صمت برهة متراجعة, وقبضت على ما أفلت من أعصابي… ثم قلت وقد تحول صوتي بغتة إلى السكينة:

“إلى أين تذهب”.

رد وليد بانفعال:

“إلى قعر الجحيم.. هل يهمك هذا؟”

وأراد أن يخرج فناديته مجددا :

“وليد”.

التفت إلي بطول بال وزفر زفرة قوية من صدره وقال باقتضاب:

“نعم؟”

إنه غاضب بالفعل…

يا أنت!.. يا من تقف هناك تشتعل غضبا.. يا من تدعي أنك ذاهب إلى قعر الجحيم…

إنك أنت جحيمي! اقترب وابتعد مني في آن واحد… فأنا أفقد توازني في كلا الوضعين…

ولاشيء يحرقني ويزيدني سعيرا وجنونا أكثر من رؤيتك إلى جانب الشقراء الدخيلة…

“نعم يا رغد هل هناك شيء آخر؟؟”

قال وليد ذلك لما استبطأ ردي ورأى ترددي…

“رغد؟؟!!”

قال مستغربا ومستاءً… فقلت منكسرة:

“أنا… آسفة”.

ومن التعبيرات التي تجلت على وجهه أدركت أنه لم يكن يتوقع أسفي أو ينتظره…

قلت:

“لا تغضب مني”.

حملق بي وليد في صمت ثم ضغط بإصبعه على المنطقة بين حاجبيه ثم قال:

“لست غاضبا… لكنني تعب من تقلبات مزاجك هذه يا رغد…”

ثم تابع بصوت راج:

“أعطيني فترة نقاهة أرخي فيها أعصابي المشدودة قبل أن تنقطع”.

فسرت الإرخاء الذي يقصده على أنه أروى… فهيجني المعنى وقلت منفلتة من جديد:

“وأعصابك هذه لا تسترخي إلا مع الشقراء؟”

نظر إلي بتعجب وتابعت:

“أما أما.. فأعصابي لن تستريح ومزاجي لن يصفو إلا إذا أرسلتها للمزرعة وأبعدتها عني نهائيا”.

مرر وليد أصابع في شعره كما يفعل عندما يتوتر… ثم زفر:

“يا صبر أيوب”.

وأحسست بالجملة تطعن قلبي.. فقلت ثائرة:

“يلزمك صبر بحجم المحيط إن كنت ستبقيها أمام عيني تصول وتجول…

وأنا معاقة بهذا الشكل.. لتتحمل النتائج.. قلت لك أنني أكرهها ولا أريد رؤية وجهها ثانية…

إنها حتى لم تفكر في الاعتذار عما سببته لي… بل لا بد أنها فرحة بإصابتي وتشمت بي..

وأنا أفضل الموت حرقا على أن أراها تجول أمام ناظري بكل حرية”.

ربما بالغت بالتعبير عن غيظي الشديد أمام وليد… هو وضع يديه على صدغيه ثم هتف بقوة:

“حاضر… حاضر يا رغد… حاضر… سأرسلها إلى المزرعة وأخلصك من كل هذا… أفعل أي شيء لأجلك… ماذا تأمرين بعد؟ فقط أريحيني…”

وضرب الباب بقبضته بقوة وانصرف…

*************

وعدت إلى غرفة المعيشة والمجاورة لغرفة رغد فوجدت أروى لا تزال هناك…

واقفة عند الباب وتستمع إلى شجارنا…

لم تتحدث بل ألقت علي نظرة خيبة سريعة ثم غادرت المكان…

قبل قليل كنت أحاول مصالحتها وتوضيح بعض الأمور العالقة منذ أيام…

إننا متخاصمان والجو مربوك للغاية وكلما حاولت التقرب منها صدتني بجملة: (أعدني إلى المزرعة).

أحاول بذل جهودي لإقناعها بالعدول عن الفكرة حاليا ولكن…

وإن كان هناك شعرة أمل واحدة فإن رغد بكلامها الأخير هذا… قطعتها…

رغد كانت بصحة مقبولة مُذ غادرت المستشفى وتقبلت بعد جهد فكرة السير على العكاز…

والأمور سارت على نحو مرضٍ إلى أن انتهت حفلت العشاء الصغيرة التي أقمتها إحتفالا بسلامتها…

وأعتقد… بل أنا على يقين من أن سبب تدهورها المفاجىء هو مقابلة أروى…

إن علي ألا أقف مكتوف اليدين وأترك الفتاة تتخبط وتنهار من جديد… في السابق كانت تنشغل في الجامعة وفي الدراسة…

أما وهي حبيسة الجبيرة والمنزل… فإن اصطدامها بأروى سيسبب كارثة نفسية لها…

ولأن الوضع لم يكن ليطاق البتة فقد انتهى قراري إلى أن اشتري تذاكر السفر عاجلا…

“لا بأس.. فنحن أعددنا أمتعتنا منذ أيام يا بني وسنضيف ما يلزم”.

أجابتني الخالة حين أخبرتها بعد أن عدت من شركة الطيران في اليوم التالي…

قلت:

“جيد. وهلا ساعدت رغد في تجهيز أمتعتها؟”

“بكل تأكيد”.

سألت:

“بالمناسبة هل هي مستيقضة؟”

فأننا لم أرها أو أعرف عنها شيئا منذ البارحة… ولا أعرف بأي مزاج استيقضت هذا الصباح!

ردت الخالة:

“نعم. انهت حمامها وطعامها قبل قليل فقد رأيت الخادمة تخرج بالأطباق من غرفتها”.

قلت:

“إذن رجاء أعلميها بأنني أود التحدث معها”.

وسبقتني الخالة إلى غرفة رغد لتعلمها بقدومي, ثم رأيتها تخرج وتقول:

“تفضل”.

البارحة كانت فتاتي غير طبيعية وأظنني أنا أيضا لم أسيطر على أعصابي كما ينبغي…

لكن أنا حتى لو غضبت من رغد وتقلبات مزاجها يتغلب خوفي عليها وحبي لها على أي شعور آخر ويعيدني إليها ملهوفا…

أشتاق وأعود إليها حتى لو لم أكن أجد لديها ما يغذي شوقي…

إنها المحور التي تدور حوله أحاسيسي ومشاعري واهتماماتي… وأمور حياتي كلها…

وقفت عن الباب وطرقته… وسمعتها تأذن لي بالدخول…

لا أعرف لماذا هذه المره تسارعت نبضات قلبي وساورني التوتر… أكثر من المعتاد…

رغد كانت جالسة على المقعد أمام المرآة… ونظرت إلي من خلال المرآة فازداد توتري ثم حييتها بصوت خافت, وهي ردت بهدوء.

سألتها:

“كيف أنت هذا الصباح؟”

متمنيا أن تكون إجابتها مطمئنة شكلا ومضمونا.

فردت:

“الحمدلله”.

وهي لا تزال تخاطبني عبر المرآة…

عقبت:

“الحمدلله”.

ولمحت العكاز إلى جوارها فسألت:

“هل قمت بالتمارين؟”

فردت:

“نعم”.

“وكيف تشعرين؟”

“بتحسن خفيف”.

ابتهجت وقلت:

“عظيم… ستتحسنين بسرعة إن شاء الله وتستغنين عن هذا قريبا”.

وأشرت إلى العكاز…

رغد نظرت إلى العكاز ثم إلي عبر المرآة نظرة تشكك وقلقوسألت:

“أحقا؟ أخشى أنني لا أستطيع الاستغناء عنه أبدا”.

قلت بسرعة:

“ما هذا الكلام؟ غير صحيح”.

وبدا على وجهها قلق أكبر وقالت:

“أو ربما يظل في قدمي شيء من العرج الأبدي”.

قلت معترضا:

“كلا”.

لكنها كانت شديدة القلق… بل إن أكبر مخاوفها كما استنتجت هو أن تنتهي إصابتها بالعرج لا سمح الله…

قلت مشجعا:

“لقد أكد الطبيب أنه أمر مؤقت إلى أن يشفى التمزق ويزول الورم وينجبر الكسر… لا تخافي صغيرتي”.

تعلقت عينا رغد بسراب كلماتي الأخيرة… ثم إذا بها تستدير نحوي لتواجه نظراتي مباشرة…

وتقول:

“وليد… فيما لو… لو لا قدر الله أصبحت عرجاء أو معاقة…فــ.. هل… ستظل تهتم بي؟”

فوجئت من سؤالها الغريب… والذي أجهل المغزى الحقيقي من ورائه… وكانت تنتظر مني الإجابة من لهفة نظراتها إلي…

أي سؤال هذا يا رغد…!؟

قلت:

“لا تفكري هكذا يا رغد بالله عليك… أنا متفائل جدا وبإذن الله سيعود كل شي على ما كان”.

لكنها عادت تسأل:

“لكن لو لا قدر الله لم أشف تماما… هل ستظل تعتني بي؟”

ومن الرجاء الذي قرأته في عينيها فهمت مقدار تشوقها لسماع إجابة مطمئنة…

آه يا رغد! أوتسألين؟؟ أيساورك أي شك تجاهي أهميتك وأولويتك أنت في حياتي..؟

قلت:

“وحتى لو بلغت المائتين من العمر وأصبحت عاجزة عن كل شيء… سأظل أعتني بك دوما يا صغيرتي”.

رأيت الابتسامة تشق طريقها إلى وجهها… كأنها شمس أشرقت في سماء نقية… ثم قالت:

“شكرا لك”.

ابتسمت بسرور وراحة وقلت:

“على الرحب والسعة”.

رغد كررت:

“أنا عاجزة عن شكرك على كل ماتفعله من أحلي..”

قاطعتها مداعبا:

“وهل ينتظر الآباء شكرا على رعايتة بناتهم؟”

رغد نظرت إلى الأرض ثم إلي وقالت:

“ولكنك ستكون في المائتين وعشر سنين من عمرك… أشك في أنك ستكون قادرا على حملي!”

ضحكت ثم قلت:

“لاتستهيني بقدراتي”.

ثم أضفت:

“حسنا! سأريك!”

وعلى غير توقع منها مددت يدي أسفل الكرسي الذي تجلس هي فوقه ورفعتهما سويا!

رغد هتفت متعجبة:

“أوه… ماذا تفعل؟!”

قلت:

“سأحملك إلى الطابق العلوي لتعدي حقيبة سفرك… ستساعدك الخالة”.

ولم أدع لها الفرصة للاعتراض وحملتها إلى غرفتها في الطابق العلوي واستدعيت خالتي والخادمة لمساعدتها… وذهبت لأعد حقيبتي أيضا…

*************

موعد سفرنا مساء اليوم… ولأنه سيكون سفر قصيرا فأنا لم أجهز في حقيبتي الكثير من الحاجيات.

وكنت اتمنى لو أنني لا أضطر للسفر وأنا بهذه الحالة, ولكن وليد لم يجد بدا من أن يسافر بنا نحن الثلاث ثم يعود بي…

الساعة الآن الثالثة فجرا… تصورا أنني مستيقضة حتى الآن… يحول الأرق الفظيع دون استسلامي لسلطان النوم…!

وليد أخبرني بأنه سيأخذني إلى بيت خالتي لأقضي عندهم بضعة أيام… وأنا لم أخبر عائلة خالتي عن قدومي إليهم ولا عن إصابتي, بطلب من وليد نفسه.

سوف نترك الشقراء والسيدة ليندا في المزرعة… ونعود أنا ووليد إلى البيت!

ألا يكفي هذا سببا لجعلي أتأرق طوال الليل؟؟

هذا إضافة إلى تفكيري الدائم بإصابتي وخوفي من أنأنتهي عرجاء… أو تفقد يدي مهارتها في الرسم…

الرسم!

على ذكر الرسم تذكرت شيئا مهما فهببت جالسة فجأة…

“لوحاتي!”

هتفت أخاطب نفسي… كيف يعقل أن تكون رسماتي الأخيرة قد غابت عن ذهني هكذا..؟!

نهضت عن سريري وأضأت المصابيح وجلت ببصري فيما حولي مفتشة عن الأوراق التي رسمت وجه وليد ليلة النزهة…

“يا ألهي… أين يمكن أن تكون؟؟”

فقد كانت في يدي عندما وقعت من أعلى الدرج ولا أعرف ما حل بها بعد ذلك…

ربما الشقراء أزالتها وتخلصت منها… أو ربما السيدة ليندا جمعتها ووضعتها في مكان ما… أو ربما وليد بالصدفة شاهدها… رباه!!

ولم أستطع مقاومة رغبتي الملحة في العثور عليها تلك الساعة.

فتشت تفتيشا سطحيا في الأماكن التي افترضت أن يمكن أن يكون قد نقلها إليها….

ولم أعثر على شيء للآن… وحان دور غرفة مكتب وليد!

البيت يخيم عليه السكون والظلام… وحقيقة يبدو مرعبا… وأنا أتحرك ببطء وبحذر وببعض الخوف… إلى أن دخلت غرفة المكتب…

كانت الغرفة غارقة في الظلام الدامس, أشعلت المصابيح وألقيت نظرة على ما حولي واستقر بي العزم على أن أبدأ بتفتيش مكتب وليد…

“ربما يكون أحدهم قد جلبها إلى هنا! لكني أخشى أن يكونوا قد ألقوا بها في سلة المهملات”.

قلت مخاطبة نفسي… وتأملت المكتب والأرفف العديدة والأوراق الكثيرة من حولي… وشعرت بالتقاعس… كيف يمكنني البحث بين كل هذه الأشياء؟؟

اقتربت من المكتب ولم ألحظ ما يسترعي الاهتمام على سطحه, فجلست على الكرسي خلفه وفتحت أول الأدراج وفتشت ما بداخله ثم تنقلت بين البقية واحدا تلو الآخر…

وفيما أنا أفعل ذلك فجأة سمعت صوتا مقبلا من ناحية الباب فجفلت وتسمرت في مكاني…

انكتمت أنفاسي من الفزع وتلاحقت نبضات قلبي… وكاد شعر رأسي يقف من الذعر…!

” رغد”!”

لقد كان صوت وليد!

سحبت يدي من الدرج الذي كنت أفتشه ووضعتها تلقائيا على صدري وأطلقت نفسا طويلا…

وليد تأملني وهو واقف عند فتحة الباب ويده ممسكة بمقبضه ووجهه يكسوه الاستغراب والقلق…

“ماذا تفعلين هنا وفي هذا الوقت!!؟؟”

نبعت قطيرات من العرق على جبيني من شدة فزعي وازدردت ريقي وتأتأت ولم أحر جوابا…

ولما رأى اضطرابي قال:

“هل أفزعتك؟؟”

أومأت برأسي (نعم) فأقبل نحوي حتى صار جواري وهو محملق بي باستغراب وحيرة…

ثم قال:

“أتبحثين عن شيء؟؟”

جمعت بعض الكلمات المبعثرة على لساني وقلت:

“أممم لا… أعني… لا شيء… لقد كنت…”

ولم أستطع التتمة…

وليد مد يدم وأمسك بيدي اليمنى المجبرة بلطف وقال:

“هوني عليك… هذا أنا ليس إلا!”

وبعد أن هدأت أنفاسي من فزعها وانتظمت خفقات قلبي ولاحظ وليد استرخائي قال:

“حسنا… عم كنت تبحثين؟؟”

شعرت بالخجل ولم أجرؤ على إجابته… ماذا أقول له؟!..

سحب وليد يده عن جبيرتي وانثنى أمامي ومد يده إلى أحد الأدراج واستخرج منه شيئا وضعه على المكتب مباشرة أمامي قائلا:

“عن هذه؟؟”

وإذا بها الأوراق التي كنت أفتش عنها ومعها قلمي الرصاصي…

تسلقت الدماء الحمراء أوداجي ورشت على وجهي صبغا شديد الاحمرار…

وسكنت عن أي كلام وأي حركة..

وليد بقي واقفا يراقب تقلبات لوني ولا أعرف ماذا كان يقول في نفسه…

وأخيرا قال:

“لم لم تنتظري حتى الصباح أو تطلبيها مني؟”

حينهها نطقت بارتباك:

“أأأ… طرأت… في بالي الآن”.

وليد عاد ومد يده وأخذ الأوراق من جديد وقال:

“هلمي بنا إلى النوم… ينتظرنا سفر ومشقة”.

وسار مبتعدا… والأوراق في يده!

هتفت:

“لوحاتي!”

فالتفت إلي وليد… ثم أمال إحدى زاويتي فمه للأعلى وهو ينظر إلي نظرة قوية ويقول:

“سآخذها إلى غرفتك! لا تخافي”.

وسبقني إلى غرفتي… تنفست الصعداء… ثم سرت خلفه بعكازي ببطء… وعند الباب تقابلنا وجها لوجه… هو يهم بالخروج وأنا أهم بالدخول…

بالضبط في طريق خطوات بعضنا البعض لكن أيا منا لم يتنحى عن طريق الآخر…

رفعت نظري إليه فإذا به ينظر إلي…بعمق وغموض… وجسده يحجب النور عني وظله يغطي جسدي… كالشجرة الخرافية الممتدة إلى السماء…

حاولت أن أهرب من نظراته… وأن أبتعد عن طريقه… ولم أفلح…

كنت كالأسيرة المقيدة المربوطة بإحكام إلى جذع الشجرة… ونظراته كانت قوية وثافبة…كتلك النظرات التي كانت معلقة في سقف غرفتي… في بيتنا المحروق… تراقبني وتخترقني كل حين…

رأيت على طرف لسانه كلاما يوشك أن يقوله… أكاد أجزم بأن بعض الحروف قد تساقطت منه…

لكن وليد زم شفتيه وعض على أسنانه وتنهد ثم قال أخيرا:

“تصبحين على خير”.

وغادر الغرفة…

عرض التعليقات (8)