روايه انت لي الحلقه 44 و 45

6 18٬659
 

روايه انت لي الحلقه 44 و 45

روايه انت لي الحلقه 44 و 45

روايه انت لي الحلقه 44 و 45

روايه انت لي الحلقه 44 و 45 , معكم صديقة زاكي الشيف الموهوبة ,leen

رواية انت لي

الحلقة الرابعة و الاربعون الجزء 1

الخيار المستحيل

استقبلنان العم إلياس استقبالا حميما جدا… مليئا بالعناق والقبل… فقد كان غيابنا طويلا وبقي العجوز وحيدا بعيدا عن أخته وابنتها اللتين لم يسبق له فراقهما…

كانت خطتي المبدئية هي أن نأتي جميعا إلى المزرعة فقد تساعد الأجواء هناك على تحسين الأوضاع النفسية لنا…

وإن رفضت رغد البقاء هناك, وهذا ما أتوقعه, كنت سأخذها إلى بيت خالتها وأقضي في المزرعة بضعة أيام…

مخاوفي الأولى كانت في ردود فعل عائلة أم حسام تجاه إصابة رغد, والتي لم تذكر لهم شيئا حتى الآن…

بضع أيام في المزرعة هي كافية لتجديد نشاطي وطرد هموم صدري…

أزور أثناءها شقيقي سامر وأقنعه بالمجيء للعمل معي في المصنع, ونعود نحن الثلاثة إلى منزلنا الكبير…

كان هذا ما أتمنى حصوله وأجهل ما الذي ستؤدي إليه الأقدار مستقبلا…

أروى غاية في البهجة وتكاد تقّبل حتى الأشجار من شدة الشوق والحنين, والخالة لا تقل عنها فرحا…

أما الفتاة الواقفة خلفي فهي تسير بعكازها خطوة للأمام وخطوة للخلف, رافضة دخول المزرعة…

انطلقت أروى تعدو بين الأشجار كالفراشة… ونشرت الخالة بساطا قماشيا على العشب بجانب مدخل المنزل… وجلست عليه ومددت رجليها باسترخاء…

وذهب العم إلياس يقطف بعض ثمار العنب ثم غسلها وجلبها إلى البساط وأشار إلينا:

“تعالوا… تذوقوا”.

الوقت كان ليلا… والنسيم كان عليل جدا والهواء غني بالأوكسجين النقي الذي يبث الحيوية والانتعاش في البدن… وكم نحن بحاجة إليها…

“تعال يا وليد… إنه لذيذ جدا… تفضلي يا آنسة رغد”.

دعانا العم إلياس بسرور إلى وجبة العنب الطازجة…

التفت إلى رغد التي تقف خلفي مترددة وقلت:

“تعالي رغد”.

الإنارة كانت خفيفة منبعثة رئسيا من المصباح المعلق عند مدخل باب المنزل…

لكنها سمحت لي برؤية الاعتراض على وجه رغد.

خاطبتها:

“رغد… ما الأمر؟”

أفصحت:

تعرف… لا أريد المبيت هنا”.

اقتربت منها أكثر حتى أخفض صوتي وأضمن عدم وصوله لمسامع الآخرين…

“أرجوك يا رغد… لا تحرجيني مع العائلة… تحملي قليلا من أجلي”.

قالت:

“لكن…”

ولم تتم فقلت:

“بالله عليك… على الأقل لهذه الليلة… نرتاح من عناء السفر ونقابل كرم المضيفين بحسن الذوق…

لا يمكننا أن نخرج هكذا فجأة دون اعتبار للأدب واللياقة… أنا أرجوك بشدة يا رغد”.

واستجابت رغد لرجائي الملح… وسارت معي حتى حتى جلست على طرف البساط ببعض المشقة… وأقتربت أنا من سلة العنب وأخذت لي ولها شيئا منه…

وكان بالفعل لذيذ جدا…

تبادلت والعم إلياس أحاديث خفيفة متنوعة وشعرت بارتياح شديد قلما أشعر به مع شخص غيره…

والعم كان من الأدب بحيث إنه لم يسأل عن تفاصيل ما أصاب رغد حين رآها بالعكاز بل اكتفى بحمد الله على سلامتها…

قضينا نحو الساعة جالسين على البساط نتناول العنب حتى أتينا على آخره…

سمعت بعد ذلك رغد تهمس لي:

“لا أستطيع الجلوس هكذا طويلا… أصاب الإعياء رجلي”.

قلت:

“حسنا… هل تودين الذهاب إلى الداخل؟”

سألتني:

“ماذا عنك؟”

أجبت:

“أود البقاء هنا فالجو رائع جدا… وقد أبيت الليلة على هذا البساط!”

وابتسمت للتعجب الذي ظهر على وجه الصغيرة ثم نهضت ونهضت هي معي, واستأذنا للدخول إلى المنزل…

ساعدت رغد على صعود العتبات ورافقتها إلى غرفتها ثم توليت حمل الحقائب إلى الداخل وتأكدت من أن كل شيءمهيأ لها, وتركتها لتسترخي…

عدت إلى الخارج واستلقيت على البساط وبدأت أملأ رئتي من الهواء النقي…

أغمضت عيني في استرخاء تام… وكنت أسمع أحاديث العم والخالة المرحة…

وربما من شدة استرخائي غفوة لفترة من الزمن…

صحوت بعد ذلك على أصوات أشخاص يتحدثون,وحين فتحت عيني رأيت العم والخالة وأروى جالسين على مقربة مني وملتفين حول صينية الشواء… ورائحة المشويات تملأ المكان.

قال العم:

“ها قد نهض وليد… نوم العافية… تعال وشاركنا”.

جلست ونظرت إلى الجمر المتقد وقلت:

“آه… أما زال لديكم طاقة بعد السفر!”

رد العم:

“وهل ستنامون دون عشاء؟ اقترب بني”.

وجلست معهم أملأ أنفي بالرائحة الطيبة…

أروى كانت تتولى تقليب المشاوي بهمة… وكانت قد أطلقت شعرها الطويل لنسمات الهواء…

وعندما هب نسيم قوي حمل خصلة منه نحو الجمر فحركت يدي بسرعة لإبعاده وأنا أقول:

“انتبهي”.

لا أعرف إن كان العم لا حظ وجود شحنة بيني وبينها أم لا…

والخالة سرعان ماتدخلت وأعدت الطبق المنشود وبنفسها حملته إلى غرفة رغد, غير أنها عادت به بعد قليل وأخبرتنا أن الفتاة نائمة.

بعد وجبة غنية كهذه قمت أتمشى في المزرعة وأحرك عضلاتي… غبت طويلا ولما عدت صوب المنزل لم أر غير أروى مضطجعة على ذات البساط الذي كنت نائما فوقه… تراقب النجوم…

حينما أحست باقترابي جلست وأخذت تلملم شعرها الذي تعبث به الريح…

اقتربت منها ثم ناديتها وقلت:

“أروى…يجب أن نضع حدا لكل هذا”.

وقفت أروى وهمت بالمغادرة وهي تقول:

“نعم… سنضع حدا”.

*****************

نهضت باكرة جدا… على زقزقة العصافير القوية المتسللة عبر النافذة إلى الغرفة.

فيما بعد فتحت النافذة فتدفقت تيارات باردة من الهواء النقي إلى الداخل… وأطللت من النافذة فرأيت الخضرة تغطي المنظر وتأسر الأعين…

لم أستطع مقاومة هذه الجاذبية… ارتديت عباءتي وسرت بعكازي بحذر… وخرجت من المنزل.

كان صباح رائعا… والشمس بالكاد أرسلت الجيش الأول من أشعتها الذهبية لتغزو السماء.

على مقربة من المنزل وجدت السيدة ليندا تحمل سلة كبيرة وتجمع فيها ما تقطفه من العنب.

حييتها فردت مبتسمة وسألتني عن أحوال فطمأنتها إلى أنني بخير…

ووجدتها فرصة عفوية لأشكرها على وقوفها معي وعنايتها بي أيام أصابتي.

” لا داعي للشكر يابنيتي… نحن عائلة واحدة وجميعنا في خدمة بعضنا البعض”.

كان ردها كريما مثل طبعها… وأشعرني بالخجل من مواقفي السابقة منها بالرغم من أن ندي الحقيقي هو أروى…

” إنك طيبة القلب جدا وأنا لا أعرف كيف أشكرك أو أعتذر منكِ على أي إزعاج تسببت به لك”.

قلت بصدق وعرفان فكررت:

“لا ننتظر الشكر من أبنائنا على رعايتهم”.

عجيب! إنها نفس الجملة التي قالها وليد لي مؤخرا!

ولدى تذكري الجملة تذكرت كيف حملني وليد بالكرسي وصعد بي الدرج ثم نزل دون أن تظهر عليه أي إمارة تعب!

وكذلك تذكرت (لوحاتي) والموقف الأخير بيننا…

آه أنتم تعرفون مسبقا… كم هو طويل وعريض وضخم وقوي ابن عمي الحبيب هذا!

الشيء الذي لا تعرفونه والذي اكتشفته مؤخرا.. هو أن صدره واسع جدا جدا…

يكفي لأن أغوص فيه وأسبح دون أن أصل إلى بر أرسي عنده!

ابتسمت ابتسامة عريضة وأنا أتخيل وليد… ربما اعتقدت السيدة ليندا أنني ابتسم لها مسرورة بجملتها الأخيرة…!

خطوة مبتعدة عنها ومتغلغلة في عمق المزرعة بسرور…

ملأت صدري من الهواء المنعش الذي شعرت به يسري حتى في أطرافي… وكان عابقا بمزيج من رائحة الخضرة والزهور… كم كان هذا رائعا خلابا…

بعد فترة من الزمن.. ظهرت الشقراء أمامي فجأة..

كانت ترتدي ملابس بيتية وتطلق شعرها الطويل للهواء الطلق.. وتسير على العشب حافية القدمين..

اصطدمت نظراتنا ببعضها وتنافرت بسرعة! هممت بالانسحاب بعيدا عنها لكنها فجأة نادتني:

“انتظري”.

ماذا؟! أنا أنتظر؟ ومعكِ أنتِ؟

ألقيت عليها نظرة لا مبالية وهممت بالمغادرة غير أنها اعترضت طريقي…

“ماذا تريدين؟”

سألتها بحنق فأجابت:

“ألا يمكننا التحدث ولو للمرة الأخيرة… كشخصين ناضجين؟”

لم أستسغ مقدمتها هذه وفي الواقع أنا لا أستسيغ منها أي شيء…

قلت بحدة:

“أي حديث بعد؟! بعد الذي فعلته!”

أروى قالت مدافعة:

“أنا لم أفعل شيئا يا رغد… وكلانا يدرك أنه كان حادثا عفويا… ولو كنت أعلم مسبقا بأنك ستتضررين هكذا ما كنت اعترضت طريقك”.

عقبت باستهجان:

“وها أنتِ تعترضين طريقي ثانية…وقد ينزلق العكاز مني وأقع وأصاب من جديد… فهل ستقولين عنه إنه حادث عفوي؟”

ابتعدت أروى عن طريقي فحثثت الخطى قدر الإمكان… مولية عنها…

سمعتها تقول من خلفي:

“لكننا سنضع حدا لكل هذا يا رغد… والحال لن تستمر على هذا النحو”.

لم ألتفت إليها.. فتابعت:

“من الأفضل أن نناقش الأمر بيننا نحن قبل أن نضعه على عاتق وليد”.

توقفت… فاسم وليد هز وجداني.. لكنني لم أستدر إليها.. وسمعتها تتابع:

“وليد لن يتحمل وجودنا معا… ولا يستحق هذا العناء… المكان لا يتسع لكلينا…

وعلى واحدة منا الانسحاب طوعا”.

أثارتني عبارتها الأخيرة أيمّا إثارة… وأرغمتني على الالتفات إليها وأنا أحبس أنفاسي من الذهول…

تابعت هي:

“أجل يا رغد… على إحدانا الانسحاب من دائرة وليد… وتركه يعيش بسلام مع الأخرى”.

ازداد اتساع حدقتي عيني وتجمع الهواء الفاسد في رئتي فاضطررت إلى زفره بقوة…

أروى سارت مقتربة مني… حتى صارت أمامي وهي محملقة في وجهي…

قالت:

“إحدانا يجب أن تضحي من أجل راحة وليد…”

لازلت متسمرة على وضعي… لا أكاد أصدق ما أسمع…

تغيرت نبرة أروى إلى الحزن.. وتابعت:

“رغد.. هل تفهمين ما أعنيه؟”

أطرقت برأسي كلا… كلا لا أريد ان أفهم.. كلا لا أريد أن أسمع المزيد.. لكن أروى قالت:

“بل تفهمين… البارحة وليد لم ينم مطلقا… راقبته قبل نومي ورأيته يحوم في المزرعة بتشتت… وعندما نهضت فجرا وجدته لا يزال في الخارج شاردا لحد الغيبوبة…

إنه لا ينام منذ أيام… أوضاعنا تشغل باله لأبعد الحدود… إنه مهموم جدا ويعاني الأمرين بسببنا…

وأنا أريد أن نضع نهاية لهذا… هل فهمت؟”

كان صوت أروى يخترق أذني بعنف… وقلبي يتقطع وأنا أسمع منها كلاما كهذا لأول مرة…

قالت:

“أعتقد… أن أمر وليد يهمك كما يهمني.. أليس كذلك؟”

لم أجب فكررت السؤال:

“أليس كذلك يا رغد؟”

قلت أخيرا:

“بلى.. قطعا”.

أروى قالت بنبرة أشد حزنا:

“يجب أن تضحي إحدانا من أجل راحته… إنه يستحق التضحية”.

نظرت إليها بعمق لم يسبق لي أن نظرت إليها بمثله… بجدية لم يسبق أن علت نظراتي إليها… وباهتمام لم يسبق أن أوليتها لها من قبل…

وكانت تبادلني النظرات…

ولم أشعر إلا بدمعة تتجمع في مقلتي ثم تسيل حارقة على خدي…

خرجت الجملة من حنجرتي واهية مذعورة:

“تقصدينني أنا؟؟”

لم تتكلم أروى.. فقلت وأنا أحرك رأسي رفضا:

“مستحيل…”

فإذا بها تقول:

“صدقيني… لقد وصلنا إلى مرحلة لا يمكن أن نستمر نحن الثلاثة معا.. مطلقا”

أخذت شهيقا باكية وقلت:

“لكن… لكنه الوصي علي… لا يمكنني الاستغناء عنه.. إنه كافلي”.

قالت:

“وهو زوجي أيضا”.

وخزتني جملتها وقرصت قلبي… فقلت رافضة:

“أنت تعبثين بي… تتلاعبين بمشاعري”.

أروى قالت:

“إنها الحقيقة يا رغد وأنت تدركينها.. لكنك تخدعين نفسك… انظري إلى حال وليد بيننا … هل يعجبك؟ هل يرضيك أن يعاني كل هذا التشتت؟ هل ترضين له.. هذه المرارة”.

وتخيلت صورة وليد وهو يتشاجر معي ليلة حفلة العشاء… ويقول لي إنه تعب من تقلبات مزاجي.. ويطلب مني تركه يستريح قليلا… وشعرت بسكين قوية تمزق قلبي…

طأطأت رأسي إلى الأرض فهوت دموعي مبللة العشب…

آه يا وليد… هل أنت تعاني بسببي أنا؟ هل أنا سبب تعكير مزاجك؟؟ هل وجودي معك هو خطأ كبير علي تصحيحه؟

لكن.. ماذا عني أنا؟؟

أنا لا أستطيع العيش بدونك.. إنك الهواء الذي أتنفسه وإن انقطعت عني.. فسأموت فورا..

“رغد”.

خاطبتني الشقراء فرفعت بصري إليها ولم أرها من غزارة الدموع…

“رغد.. يجب أن نناقش الأمر.. يجب ألا نستمر في هذه الدوامة التي ستقضي على وليد أولا.. إن كنا نكترث لأمره بالفعل..فيجب أن نتصرف بإثار.. لا بأنانية.. على إحدانا أن تخلي الساحة..”

عصرت عيني لأزيح الدموع عنها ثم قلت بصوت حزين:

“لماذا لا تكون …أنت؟”

أروى تنهدت ثم قالت:

“أنا.. مستعدة لأن أفعل ذلك من أجل وليد.. أحبه كثيرا وسأضحي بمشاعري لإراحته.. صدقيني أنا أعني ما أقول.. لكن..”

قلت:

“لكن ماذا؟”

أروى نظرت إلى الأشجار من حولها.. ثم إلى السماء.. ثم عادت إلي..

“وليد.. متعلق جدا بعمله.. لقد.. كان حلم حياته أن يدير شركة أو مصنعا, كما كان والده رحمه الله..

تعرفين أن وليد متخرج من السجن.. ولا يحمل شهادة دراسية غير الثانوية…

لم يرحب أحد به للعمل عنده.. وبالكاد وجد عملا كفلاح بسيط في مزرعتنا لقاء المأوى والطعام.. وليد عانى كثيرا وعاش فترة بائسة جدا العام الماضي..

ربما لم تشعروا بها كما شعرت بها أنا… وأنا, وأنت كذلك.. كلانا لانريد له أن يعود لذلك البؤس من جديد.. أليس كذلك؟؟”

هززت رأسي ثم هتفت:

“كفى”

واستدرت أريد الهروب بعيدا عن صورة أوروى وكلامها… لكنها تابعت وهي تعلي صوتها:

“إذا كنت تحبين وليد فعلا فابتعدي عنه… لا تعيديه إلى البؤس يا رغد”.

تابعت طريقي بأسرع ما أمكنني… ولحقتني عبارتها:

“فكري في الأمر مليا… من أجل وليد”.

كفى… كفى… كفى…

كنت أسير وأحرك رأسي محاولة نفضه عن كل ما علق به من كلام أروى…

عندما وصلت إلى غرفتي اندفعت بسرعة أكبر نحو سريري فتعثرت ووقعت قبل أن أصله…

وعلى الأرض رميت برأسي ونثرت دموعي وأنا أكرر:

“كلا… كلا… كلا…”

وعبثا حاولت طرد كلامها من رأسي… غدا كالسم… يسري في عروقي كلها ويشل تفكيري وحركتي ويعميني عن رؤية غير السواد…

**********************

لم أكن نشيطا هذا اليوم… فقد استيقضت عند الظهيرة بعد نوم سطحي ساعات النهار…

تفقدت الآخرين فوجدت العم إلياس في الساحة الأمامية للمنزل مشغولا بتنظيف الصناديق الخشبية المستخدمة في جمع الثمار مما علق بها من بقايا ثمار وأتربة.

هذا الرجل لا يكف عن العمل! ورغم أننا وظفنا مجموعة من العمال للعناية بالمزرعة لساعات معينة من النهار, غير أنه ما فتىء يستخدم ساعديه وبهمة كما في السابق.

بعد حوار بسيط ساعدته على تنظيف الصناديق ثم ترتيبها فوق بعضها البعض, لعل النشاط يدب في بدني النهك..

وحالما فرغنا من الأمر فاجأني العم بهذه الجملة…

“بني… أريد أن نتحدث بشأنك أنت وأروى”.

أدركت من خلال النظر إلى عينيه أنه صار على علم بما حصل مؤخرا… التزمت جانب الصمت

فقال مستدرجا:

“أريد أن أسمع منك ما حكاية عمار عاطف؟”

شعرت باستياء.. فقد وصل الموضوع الآن إلى العم.. وصار موقفي محرجا جدا..

تبا لك يا عمار.. قتلتك منذ 9 سنين وحتى الآن لم أتخلص منكَ؟؟

أجبت أخيرا:

“هل أخبرتك أروى؟”

قال:

“إنهما لا تخفيان عني شيئا يا وليد”.

وظهر شيء من القلق على ملامح العجوز.. مم أنت قلق يا عمّي؟؟ وهل اهتزت ثقتك بي أنت أيضا؟؟ أنا لا أتحمل خسارة الإنسان الأول الذي قدم لي الاحترام والثقة والمعوتة وفتح لي باب قلبه وبيته بينما كل الأبواب موصدة في وجهي.. بعد خروجي من السجن..

قلت مدافعا:

“عمّاه.. أرجوك صدقني.. أنا لم أقصد أن أخفي عليكم حقيقة أنني قاتل ابن أخ نديم رحمه الله”.

وبدا الاهتمام الشديد على وجه العم, وأصغى بكل جوارحه…

فتابعت:

“حتى نديم ذاته لم يعرف هذه الحقيقة. لقد كان صديقا وأبا لي في السجن وأحببته كثيرا…

وحضوري إليكم وارتباطي بكم كان بدافع الوفاء له.. لم أجد منلسبة لكشف هذا ولم أعتقد أن الأمر سيسبب كل هذا التعقيد”؟

العم أظهر تعبيرات التفهم التي أراحتني بعض الشيء ثم قال:

“حسنا.. ربما لم تكن هناك مناسبة لذكره مسبقا, أما الآن وقد ذكر.. فاعذر فضولنا لنعرف لماذا قتلته أو على الأقل.. لماذا لا تريد أن تفصح عن السبب”.

رمقت العم بنظرة رجاء… اعفني يا عم من من هذا… أتوسل إليك… لكن نظراته كانت تنم عن الإصرار.. أشحت بوجهي بعيدا عن عينيه.. وقلت:

“لا أسطيع”.

العم رفع يديه إلى كتفي وقال:

“وليد.. انظر إلي”.

بتردد أعددت عيني إلى عينيه.. وحملقنا في بعضنا البعض لفترة..

بعدها أبعد العم يديه وقال:

“كما تشاء”.

ثم ابتعد عني… ناديته برجاء:

“عمّاه..”

وحين نظر إلي قلت:

“أرجوك.. لاتتخذ مني موقفا بسبب هذا..”

العم ابتسم وقال:

“لا عليك يا بني”.

جملته طمأنتني فقلت:

“أسبابى قهرية”.

قال:

“عرفت ذلك. إنك أنبل من أن تقتل شخصا لأسباب أصغر”.

تنهدت باطمئنان وقلت:

“آه.. أشكرك ياعمي… أرحتني”.

العم إلياس ابتسم وقال:

“الأهم أن نريح الفتاة التي تراقبك من النافذة خلسة!”

وعندما التفت إلى ناحية المنزل لمحت أروى تقف عند النافذة وتنظر إلي…

ذهبنا بعد ذلك أنا والعم لتأدية الصلاة وعندما عدنا كانت مائدة الطعام معدة لي وللعم في غرفة الطعام, وللسيدات في المطبخ كما جرت العادة. أطللت على المطبخ برهة وكما هو متوقع لم أجد رغد. سألت عنها فأخبرتني الخالة أنها دعتها للمائدة غير أنها اعتذرت عن المشاركة.

أردت أن أتفقد الصغيرة بنفسي.. ولم أكن قد رأيتها منذ البارحة.. وأنا أعرف أنها منزعجة من النزول في المزرعة…

طرقت باب غرفتها فأذنت لي بالدخول.. سألتها عن أحوالها فطمأنتني إلى أنها بخير.. ولكنني أنا وليد أعرف متى تكون صغيرتي بخير!

“ما بك يا رغد؟”

سألتها بقلق فردت مباشرة:

“لا شيء”

قلت مشككا:

“متأكدة؟”

أجابت:

“طبعا!”

نظرت إلى عينيها غير مقتنع وقلت:

“لا تخفي عني شيئا يا رغد”.

وما كدت أنهي جملتي حتى فاضت دموع حارة كانت مختبئة في عينيها…

“رغد!”

بسرعة مسحت رغد دموعها وتظاهرت بالتماسك وادعت:

“أنا بخير”.

قلت محتجا:

” وهذه الدموع؟”

قالت زاعمة:

“فقط.. مشتاقة إلى خالتي”.

لا يمكنك خداعي يا رغد… هناك ما تخفينه ولا ترغبين بالبوح به…

اقتربت منها وقلت:

“تعرفين أنني سآخذك إليها اليوم.. فلماذا الدموع؟”

رغد غيرت تعبيرات وجهها محاولة إظهار المرح وابتسمت وقالت:

” متى نذهب؟”

أجبت مجاريا:

“الخامسة ننطلق بعون الله”.

فقالت:

“بعون الله”.

ثم ابعدت عينيها عني لئلا أقرأ المزيد… لم أشأ إزعاجها فتجاهلت دموعها وقلت:

“حسنا.. سأطلب من الخالة جلب وجبتك”.

وهممت بالانصراف غير أنها قالت:

“كلا شكرا. لا أشعر بالجوع الآن”.

قلت:

“هل تناولت شيئا في الصباح”.

ولم ترد.

قلت مستاءً:

“لم تأكلي شيئا مذ غادرنا المنزل؟”

قالت:

“بلى.. عنقود العنب”.

قلت مستاءً:

“كلا… رجاء لاتتهاوني في ذلك.. أم أنك لم تتعظي مما حصل تلك الجمعة؟ لا يتحمل جسمك النحيل الجوع”.

فرددت رغد مبررة:

“لكني لا أحس بالجوع الآن”.

قلت مقاطعا:

“حتى وإن.. لن أثق بإحساسك بعد الذي حصل. سأجلب غذاءك بنفسي”.

قالت معترضة:

قلت لك لا أشتهي شيئا وليد أرجوك! أنا لست طفلة”.

أحقا!

أتظنين نفسك لست طفلة؟؟

أو تعتقدين أن الأعوام التسعة التي أضيفت إلى عمر طفولتك التي فارقتك عليها… زادتك في نظري كبرا ونضوجا؟؟

بل أنتِ طفلتي التي مهما دارت بها رحى السنين ستظل في عيني صغيرة لا بد لي من العناية بها..

لم أشأ وقتها أن أضغط عليها أو أحرجها.. خصوصا وأنا أشعر بأن هناك ما يضايقها..

فقلت:

“حسنا.. لكن يجب أن تأكلي شيئا قبل موعد المغادرة..اتفقنا؟”

فأجابت بملل:

“حاضر”.

أخفضت صوتي وجعلته أقرب إلى الهمس العطوف وأضفت:

“وإذا كان هناك أي شي يضايقك.. وأحسست بالحاجة لإخباري.. فلا تترددي..”

نظرت إلي رغد نظرة مطولة ثم قالت:

“بالتأكيد”.

وبالتأكيد هذه خرجت من صدرها متشحة بحزن عميق ضاعف مخاوفي..

استأذنتها بالانصراف.. وحالما بلغت الباب سمعتها تقول فجأة:

“وليد.. سامحني!”

أي تأثير تتوقعون أن جملتها هذه أوقعت على نفسي؟؟

ماذا جد عليك اليوم يا رغد؟؟

صحيح أنني اعتدت على تقلباتها… وانفعالاتها المتفاوتة… كونها تغضب وترضى وتفرح وتحزن بسرعة… ولا يتوقع المرء موقفها التالي, غير أن حالتها هذه الساعة جعلت قلبي ينقبض ويتوقع أزمة مقبلة..

لطفك يا رب..

****************

كل الساعات الماضية وأنا أفكر فيما قالته الشقراء… وأشعر بقلبي ينعصر.

لا شك أنها محقة فيما قالت وأن وليد بسبب وجودي في حياته وتوليه مسؤوليتي العظمى.. مع وجود الخلافات المستمرة بيني وبين الشقراء… لا شك أنه يضغط على نفسه كثيرا ويعاني..

طوال الوقت وأنا أتصرف بأنانية ولم أفكر به.. بما يشعر وبما يثقل صدره ويرهق كاهله.. جعلته يغير ظروف حياته لتناسبني أنا.. وحملته الكثير.. الكثير..

هذه الساعة أنا أشعر بالذنب وبالخجل من نفسي.. والغضب عليها.. آه يا وليد قلبي… هل ستسامحني؟؟

فكرت في أنني يجب أن أختفي من حياته وأخلي طرفه من المسؤولية علي.. حتى يرتاح.. ويهنأ بحياته.. لكن الفكرة ما أن ولدت في رأسي حتى وأدها قلبي بقسوة.. وأرسل رفاتها إلى الجحيم..

أنا أبتعد عن وليد؟؟

مستحيل! مستحيل… لا أستطيع.. إنه الروح التي تحركني والأرض التي تحملني والدنيا التي تحويني..

أحبه وأريد أن أبقى ولو اسما منقوشا على جدار يمر به كل يوم..

أحبه أكثر من أن أستطيع التخلي عنه.. أو حتى تخيل العيش بدونه..

عند الخامسة أتى وليد لحمل حقيبة سفري.. وتبعته إلى الخارج.. كان يسير وأسير على ظله الطويل.. شاعرة برغبة مجنونة بأن أرتمي عليه..

وصلنا إلى السيارة وأدخل وليد الحقيبة فيها.. وفتحت أنا الباب الخلفي لكي أجلس وأسلمه العكاز ليضعه مع الحقيبة..

وليد قال وهو يفتح باب المقعد الأمامي المجاور لمقعد السائق:

“اركبي هنا يا رغد”.

نظرت إليه مستغربة.. فقد اعتدت أن أجلس خلفه… وهذا الموضع صار من نصيب الشقراء الدخيلة…

قال وليد معللا:

” فالمكان أوسع وأكثر إراحة لرجلك”.

وكانت هذه السيارة أهداها سامر لوليد قبل أشهر والتي اصطدمنا فيها بعمود الإنارة في ذلك اليوم الممطر.. وهي أصغر حجما من سيارة وليد الجديدة التي يستخدمها في المدينة الساحلية..

أذعنت للأمر ولما جلست تناول هو عكازي ووضعه على القاعد الخلفية, ثم أقبل وجلس خلف المقود وأدخل يده في جيبه وأخرج هاتفه ووضعه على المسند, وتفقد جيبه الآخر ثم التفت إلي وقال:

“انتظريني رغد… نسيت شيئا.. سأعود حالا”.

وغادر السيارة عائدا أدراجه إلى المنزل…

*****************

انتبهت إلى أنني لم أحمل محفظتي معي.. وكنت قد تركتها على المنضدة في غرفتي منذ البارحة.. وقد حملت فيه مبلغا ماليا لأعطيه لرغد لتنفق منه أثناء إقامتها في بيت خالتها…

تركت رغد في السيارة وذهبت لإحضار المحفظة.. وفيما أنا في الغرفة أتتني أروى..

كانت تتحاشاني نهائيا منذ قدومنا.. عدا عن خصامها لي منذ أيام..

وكانت أخر مرة تحدثنا فيها ولو قليلا هي ليلة حفلة عشاء رغد.. والتي لم تدع لي المجال لأي حديث معها بعدها… وبدوري لم أتعمد ملاحقتها أو الضغط عليها.. أردت أن نأخذ هدنة ليومين أو ثلاثة.. نتنفس الصعداء ونسترخي في المزرعة.. ثم نعود لمناقشة أمورنا من جديد…

عندما رأيتها وقفت برهة ولم أتكلم..

“إذن.. ذاهبان الآن؟”

بادرت هي بالسؤال فأجبت:

“نعم”.

ظهر عليها التوتر ثم قالت:

“وهل ستمكث هناك؟”

أجبت:

“سأبقى لبعض الوقت, ثم أذهب إلى شقيقي..”

سألت:

“ومتى ستعود؟”

أجبت:

“غدا مساء على الأرجح.. أريد قضاء بعض الوقت مع شقيقي فنحن لم نلتق منذ فترة”.

ظهر مزيد من التوتر على وجه أروى..

سألتها:

“أهناك شيء؟”

سارت أروى نحوي حتى صارت أمامي..

قالت:

“وليد أنا… أنا…”

ولم تتم إنها مترددة.

“ما الأمر؟”

تشجعت قليلا وقالت:

“أنا.. أعتقد أنك لا يمكن أن تقتل شخصا دون سبب قوي جدا..”

وصمتت..

أدهشني كلامها بادئ ذي بدء… فأنا لم أتوقع أن يبدأ الحديث بيننا بهذا الموضوع بالذات بين كل المواضيع العالقة, والأكثر أهمية.. لكن الواضح أنه أول ما يشغل تفكير أروى..

تابعت:

“أخبرني خالي.. بأن أبي رحمه الله.. كان يقول عن عمار إنه شخصا سيئا..

وأن عمي عاطف رحمه الله قد أخفق في تربيته.. وأنه أي أبي.. كان يشعر بالعر منه”.

حبست نفسي لئلا أتفوه بسيل منجرف من الشتائم..سئ فقط؟ أنت لا تعرفين من كان ابن عمك الذي تتحرقين شوقا لمعرفة سبب قتلي إياه.. وكأنه ضحية بريئة..

تابعت:

“حسنا.. أنا لن أسألك عن السبب ثانية.. واخف عني ما تريد إخفاءه بالنسبة لموضوع عمار… لكننا يجب أن نتناقش بموضوع رغد”.

أثارني ذكر رغد.. فقلت بلهفة:

“رغد؟”

أروى أكدت:

“نعم رغد… الوقت غير مناسب الآن..”

أقلقتني جملتها في وقت كنت أنا فيه قلق ما يكفي ويزيد… خصوصا مع حالة رغد الجديدة اليوم.. وخطر ببالي أنهما – أي رغد وأروى- ربما تشاجرتا معا من جديد..

فعدت أسأل:

“ماذا عن رغد؟”

ألقت علي أروى نظرة قوية التعبير ثم أجابت:

“الحديث يطول.. وأنت على وشك المغادرة”.

فنظرت إلى ساعة يدي ثم قلت مستسلما:

“حسنا.. عندما أعود غدا.. نتحدث”.

وفي رأسي فكرة تقليص فترة الهدنة, بما أن أروى قد بادرت بالحديث معي..

أروى أخذت تحرك رأسها اعتراضا ثم إذا بها تقول:

“أرجوك أن.. تبقى مع شقيقك بضعة أيام”.

فوجئت بطلبها.. الذي جاء عكس استنتاجاتي.. ولما رأت تعبيرات الدهشة على وجهي قالت مبررة:

“أريد ألا نتقابل لبعض الوقت.. لا تسئ فهمي.. من الأفضل أن نرخي أعصابنا حتى نفكر بهدوء..”

أصابني طلبها بجرح.. ولكني تظاهرت بعدم التأثر وقلت:

“فهمت..”

وتذكرت آنذاك أنني كنت قد وعدت عمي بمرافقته في مشوار مهم يوم الغد بشأن المزرعة..

“إذن سأعتذر لخالك عن العودة.. وأحمل بعض الحاجيات”.

وذهبت للبحث عنه ووجدته في المطبخ يساعد الخالة ليندا في تنظيف السمك..

أخبرته بأنني سأقضي بضعة أيام مع شقيقي واعتذرت عن مرافقته.. وودعته هو والخالة بوجه مبتسم..

عدت بعدها إلى غرفتي وحملت حقيبتي الصغيرة التي أتيت بها إلى الجنوب وفيها بعض ملابسي وحاجياتي… وأعدت الأشياء التي كنت قد استخرجتها منها.. وبينما أنا مشغول بها سمعت صوت أروى تناديني..

“وليد”.

عندما التفت إليها رأيتها واقفة عند الباب ووجهها يبدو حزينا وممتقعا.. ولمحت دمعة تنساب من عينها..

سألت بقلق:

“ما بك الآن؟؟”

وكان جوابها بأن أقبلت نحوي.. ووضعت رأسها في حضني وطوقتني بذراعيها بحرارة..

**********************

تأخر وليد!

قال إنه نسي شيئا وسيعود في الحال.. وتركني جالسة في السيارة والتي لم يشغل محركها ولا مكيفها!

شعرت بالحر والاختناق ففتحت باب السيارة أتنفس الهواء الطلق.. وبعد دقائق داهمني الشعور بالقلق.. لماذا تأخر وليد؟؟

خرجت من السيارة واستخرجت عكازي منها وذهبت كي أتفقده..

ذهبت مباشرة نحو غرفته ورأيت الباب مفتوحا.. ولم يكن علي إلا أن ألقي نظرة عن بعد عبر فتحه حتى أرى حبيب قلبي يعانق أكثر فتاة كرهتها في حياتي.. على الإطلاق..

الصورة أعشت عيني.. وخدرت أصابعي.. ومزقت بقية أربطة مفاصلي فتفككت وانفصمت مفصلا مفصلا..

انسحبت أجر أطرافي جرا وأتخبط في سيري حتى بلغت الباب الرئيسي وخرجت إلى الشمس دون أن أرى شيئا..

شعرت بالعتمة تلون كل ما حولي.. وبمفاصلي المنفصمة تخر هاوية..

أمسكت بالباب أنشد دعمه لكنه أرجحني معه.. وحتى عكازي.. خانني في آخر لحظة وسلمني أسيرة الوقوع أرضا..

ربما رق الحجر لحالي؟ لم أشعر بأي ألم.. أو ربما البنج الذي سببته الصدمة لي أتلفت أعصابي الحسية.. فما عدت أشعر بأي شيء.. أي شيء..

ثوان وإذا بالباب يتحرك ومن خلفه يطل الرجل الطويل.. العملاق الذي أحبه..

والذي رغم كل السواد.. والظلام والعتمة.. استطعت رؤيته.. والذي فور رؤيتي له تدفق النزيف من قلبي مجتاحا كل المشاعر..

كان يتكلم.. لكنني لم أسمعه.. ثم رأيته يجلس على العتبة قربي ويمد يده إلى عكازي.. ويقربه مني..

ماذا يقول هذا الرجل؟؟ ماذا يطلب مني؟؟ هل يريد أن أقف؟ ألا يرى مفاصلي مفككة؟؟ ألا يرى عضلاتي مشلولة؟؟ ألا يرى الدماء تغرق جسدي؟؟ ألا ترى كل ذلك يا وليد؟؟ ألا ترى كل ذلك؟؟

أسنتدت رأسي إلى الجدار.. وأغمضت عيني.. وتمنيت ألا أفتحهما بعد الآن أبدا..

*****************************

“رغد ماذا جرى لك؟”

قلت ذلك ومددت يدي تلقائيا إلى وجه رغد وضربته بخفة… فقد كانت نغمضة العينين وكأنها ستفقد وعيها.. ولي معها سابق مواقف..

فتحت رغد عينيها ونظرت إلي مباشرة.

قلت مفزوعا:

“أأنت بخير؟؟”

نظرت رغد من حولها أولا وكأنها تستفيق من نوم أو إغماءة.. بدا على وجهها التيه والضيعان..ثم نظرت إلي وكأنها ليست واثقة ممن أكون.. ثم وضعت يدها على جبينها كأنها تسترجع الذاكرة..

وأخيرا قالت:

“تعثرت بالعتبة”.

قلت بلهفة:

“سلامتك.. هل أصبت؟”

فحركت رأسها نفيا..

مددت يدي لأساعدها على النهوض:

“قومي بنا إلى السيارة”.

لكن رغد لم تقم بل أسنتدت مرفقها إلى رجلها ورست برأسها على كفها اليسرى وقالت:

“انتظر قليلا..”

وظهر عليها الإعياء.. ما فجر سيول قلقي المتكدسة منذ الظهيرة.. قلت:

“رغد.. يبدو عليك الإعياء.. أخبريني بصدق.. هل أنت بخير؟ هل تشعرين بدوار؟”

أومأت رغد بنعم, لكنني لم أطمئن.. قلت:

“لا تبيدين كذلك.. أراهن أنك لم تسمعي كلامي, ولم تأكلي شيئا.. أليس كذلك؟”

ولم ترد.. فتأكدت من شكوكي وقلت بغضب ممززوج بالقلق:

“متى تتوقفين عن هذا العناد…؟ هل يجب أن تكرري ما حصل وتجففي دمائي من القلق عليك؟ جسمك أضعف من أن يتحمل عنادك.. رأفة بنفسك وبي.. لقد أهلكتني”.

ولم أنتبه لقسوة كلماتي إلا حين رأيت وجه رغد يلتفت إلي ويكفهر ويصفر.. بعدها قلت بنبرة ألطف:

“سوف لن نغادر وأنت بهذه الحالة”.

هنا اعترضت رغد وقالت”

“كلا أرجوك.. أنا بخير الآن”.

قلت مناقضا ادعائها:

“لا لست بخير.. أرى هذا بوضوح”.

قالت مصرة:

“أنا بخير.. صدقني.. تعثرت بهذه العتبة لا أكثر.. دعنا نذهب الآن”.

ثم أمسكت بالعكازونهضت واقفة لتثبت لي أنها على ما يرام.. لكني أعرف أنها ليست كذلك.. إنها تلتهم أنفاسها النهاما وتتحرك ببطء.. ويطغى الشحوب على وجهها..

قلت:

“دعينا ندخل إلى الداخل.. ستتناولين وجبة كبيرة وتنالين قسطا من الراحة قبل أن نغادر”.

رغد استماتت معترضة:

“رجاء وليد… دعنا ننصرف الآن”.

لم أصدقها وبقيت مصرا على موقفي, وهي مصرة على عنادها…

“لن نتحرك خطوة واحدة وأنت بهذا الشكل.. ماذا إن انهرت علي في الطريق؟؟ واضح من لونك أنك مرهقة. ستدخلين الآن إلى المنزل وتأكلين بعض الطعام ماذا وإلا فأنني سأؤجل الرحلة إلى الغد”.

وأمسكت بيدها بلطف أحثها على السير نحو الداخل غير أنها سحبتها وقالت ببعض العصبية:

“قلت لك لا أريد شيئا من هذا المكان.. ألا تفهم؟؟”

حينها أدركت موقفها.. فقلت:

“في هذه الحالة… إذن.. سنمر بأحد المطاعم قبل المغادرة”.

ولم تملك رغد إلا أن تنصاع للأمر.. سرنا عائدين إلى السيارة ببطء وحذر.. وهي بعكازها.. وأنا بحقيبة سفري.. جنبا إلى جنب.. وخطوة بخطوة.. كنت خاش عليها أن يداهمها الدوار كما في المرة السابقة, لا قدر الله…

فتحت الباب الأمامي وطلبت منها الجلوس.. على المقعد المجاور لمقعدي… لتبقى على مقربة مني.. وتحت ناظري مباشرة..

وانطلقنا بعون الله…

توقفت عند أحد المطاعم واشتريت لها وجبة كبيرة أجبرتها على تناولها عن آخرها..

وأعترف بأنني كنت صارما معها.. فأعرف أن جسدها النحيل لا يحتمل الجوع الطويل..

وبعد تجربتي الأخيرة معها في منزلنا الكبير… لن أسمح لها التهاون بشأن الطعام…

طوال المشوار.. رغد كانت صامتة صمتا مغلقا.. أنا غير مرتاح من حالها اليوم ولكنها لم تشأ إخباري بشيء… والله الأعلم.. بم تفكر الآن…

أما أنا, فإلى جانب تفكيري بها كنت أفكر بقلق في عائلة خالتها وما سيقولونه عن إصابتها… وسرعان ما ثبت لي أن مخاوفي في محلها…

أم حسام, وبمجرد أن رأت الصغيرة تدخل المنزل بالعكاز.. لطمت على وجهها وصرخت:

“ابنتي.. ويلاه”.

وأقبلت مسرعة مولولة.. وضمت الفتاة إلى حضنها وبدأت بالنواح..

ورغد سرعان ما انفجرت بكاء عميقا على صدر خالتها مما زاد الأمر دراما واشتعالا…

أردت أن أتكلم.. أن أسلم.. وأوضح الأمرفقلت:

“خالتي”.

ولم أكد أتم الكلمة حتى رأيت أم حسام ترفع رأسها وتنظر إلي وقد توهج وجهها احمرارا وفاضت الدموع من عينيها وتطاير الغضب من بؤبؤيها وإذا بها تصرخ:

“ماذا فعلت بالفتاة أيها المتوحش؟ لا بارك الله فيك ولا في اللحظة التي تركت ابنتي فيها تحت رحمتك أيها المجرم القاتل”.

ذهلت… صعقت.. ووقف شعر رأسي من كلامها الجنوني… ألجم لساني من الهول… حاولت النطق بأي شيء.. فإذا بها تمطرني بدعوات شريرة مزلزلة…

“لا بارك الله فيك… لا وفقك الله في شي… حطم الله قلبك كما حطمت قلبي على ابنة أختي”.

صرخت:

“رغد”.

مستنجدا.. قولي شيئا! تظن خالتك أنني كسرت عظامك وعن عمد… قولي شيئا يا رغد.. أوضحي لهم… لكن رغد لم تتكلم.. حتى أنها لم تنظر إلي..

التفت من حولي فرأيت أعين بقية أفراد العائلة تحملق بي والشرر يتطاير منها.. ما هذا؟؟ أكلكم تظنون أنني كسرت عظامها؟؟ هل تعنون هذا؟؟

فجأة سمعت صوت حسام يقول بحدة:

“ماذا فعلت بها؟”.

أجابت أم حسام منفعلة:

“ألا ترى؟ كسر عظامها كسر الله عظامه ودكها دكا”.

أبو حسام تدخل ها هنا وقال:

“رويدك يا أم حسام هداك الله… دعينا نسمع منه ما حصل”.

والتفت إلي وقال:

“هيا بنا إلى الداخل”.

ووقفت مكاني مذهولا من موقف أم حسام المهاجم بعنف دون استيضاح الأمور… ومن موقف رغد الصامتة وكأنها تؤيد خالتها في هجومها اللاذع ضدي…

نظرت إلى رغد شاعرا بالخذلان.. كيف تدعيهم يظنون بي هكذا ثم لا تدافعين عني ولا بكلمة ولا إيماءة واحدة؟؟

أم حسام سارت مسندة لرغد التي خطت بعكازها مبتعدة عني… دون أن تلقي علي أي نظرة…

قال أبو حسام:

“تفضلوا جميعا”.

بقيت واقفا متسمرا في مكاني يحول ذهولي من كلام أم حسام دون حراكي, فالتفت أبو حسام إلي ومد يده نحوي وقال:

“تفضل وليد”.

وسرنا جميعا نحو المدخل… يسبقنا نواح أم حسام…

الطريق بين بوابة السور الخارجي للمنزل والباب الداخلي له طويل لحد ما.. يتخلل حديقة المنزل الأمامية…

قطعنا المسافة صامتين إلا عن ولولة أم حسام التي أحدثت في قلبي صدعا بالغا…

عندما وصلنا إلى باب المنزل قلت قاصدا تنبيهها:

“انتبهوا… إنها لا تستطيع صعود الدرجات”.

وتقدمت بقصد مد يد العون إلا أن أم حسام زجرتني بقسوة:

“دع الفتاة لي”.

فابتعدت والعرق يتصبب مني حرجا..

واقتربت ابنتة خالة رغد الكبرى ومع والدتها ساعدت رغد على الصعود…

قادني أبو حسام إلى غرفة الضيوف وأحسن ضيافتي.. أما حسام فقد كنت أشعر بألسنة النار تندلع من عينيه وهو يراقبني بتربص…

أخيرا شرحت لهما ما حصل وبينت أنه كان حادثا عرصيا.. غير أن ذلك لم يخفف وطء المصيبة على حسام الذي قال معقبا:

“ولماذا لم تبلغنا عن الحادث منذ البداية؟ إلا إذا كان هناك ما تريد إخفاءه أو تحريفه”.

أبو حسام زجر ابنه..والأخير رمقني بنظرة ملؤها الشك والنقمة..

قلت:

” أحرف ماذا؟؟”

رد وهو يقوم واقفا:

“سأعرف هذا من رغد”.

وغادر الغرفة…

************************

الانهيار الذي ألم بي لدى رؤية خالتي لم يكن بسبب رجلي ويدي.. بل بسبب الصورة الأخيرة التي لا تزال مبثوثة أما عيني.. للخطيبين المتعانقين بكل حمية وانسجام.. والتي لم تفلح رؤية خالتي وعائلتها في محوها عن بصري ذلك اليوم..

أجرى معي أقاربي تحقيقا مطولا عن إصابتي وشرحت لهم تفاصيلها وأوضحت لهم أنه لا علاقة لوليد بالحادث وأن اللوم كله يقع على الشقراء..

لم أكن أرى غيرها في عيني.. وأردت أن أحرق صورتها بأي شكل.. وبالغت في التعبير عن غضبي منها ومما حل بي بسببها..

أما خالتي فقد كانت تضع باللوم على نفسها لأنها سمحت لي بالذهاب إلى المدينة الساحلية بعيدا عن عنايتها…

وبعد أن استوعب أهلي الأمر وهدأت مشاعر غضبهم الأولية أخذت أسرد لهم بعض أخباري وأخبار الجامعة وحياتي اليومية في المنزل الكبير..

وأخبرتهم كيف كان وليد يعتني بي… ويعاملني بكل لطف ومودة.. وكيف بقي مرابطا إلى جانبي فترة مكوثي في المستشفى.. وأشياء كثيرة كان وليد يقدمها لي بكل سخاء.. لم أشعر بافتقادها إلا الآن..

والحديث عن وليد لم يعجب حسام الذي قال منفعلا:

“أنت طيبة يا رغد… ولن تحكمي على ذلك المتوحش إلا بالطيب!”

قلت مدافعة:

“لماذا تنعته بالمتوحش يا حسام؟؟”

قال:

“هل نسيت كيف هاجمني ذلك اليوم؟ وكيف لطم شقيقه بقسوة أمام عيني يوم كنا في بيتكم يا رغد؟ وكيف جرك من يدك رغما عنك وأجبرك على السفر معه إلى الجنوب. إنه متوحش وهمجي كسائر المجرمين الــ..”

غضبت كثيرا وقلت مندفعة مقاطعة:

“لا تنعته بهذا.. لا أقبل منك… كيف تجرؤ؟؟”

والجملة ضايقت حسام فانسحب من الغرفة التي كنا نجلس فيها..

حل الصمت على الأجواء.. ثم تكلمت نهلة قائلة:

“لا تكوني قاسية عليه يا رغد! إنه غاضب لأجلك”.

وأضافت سارة:

“”يحبك كثيرا”.

التفت إلى هذه الأخيرة فرأيتها تبتسم ابتسامة شديدة الغباء.. كعادتها.. تجاهلتها وجملتها كما تجاهلتها خالتي ونهلة..

خالتي قالت بعد ذلك:

“على كل يا رغد.. ها قد عدت ولن أدعك تغادرين ثانية”.

ألتفت إلى خالتي نظرة متوجسة فقابلتني بنظرة شديدة الإصرار وقالت:

“إلى هنا ويكفي..سنحل هذه المسألة جذريا اليوم قبل الغد”.

ورأيتها تضبط حجابها وتتجه نحو الباب فقلت بقلق:

“إلى أين خالتي؟”

قالت بحزم:

“سأذهب لأتحدث مع وليد..”

وخرجت مباشرة وتبعتها سارة دون ترك فرصة لي لأي ردة فعل…

نظرت إلى نهلة في توتر وقلت:

“ماذا ستفعل؟؟”

أجابت نهلة:

“لا أعرف!ربما ستتشاجر مع ابن عمك!”

قلت مستهجنة:

“لماذا كلكم متحاملون على وليد؟ قلت لكم إنه ليس مذنبا في شي”.

قالت نهلة:

“تدافعين عنه لأنك تحبينه يا رغد..لكنه في الواقع رجل متسلط وقاسٍ ومكابر.. إننا جميعا في هذا المنزل لا نرتاح له…”

قلت بعصبية:

“إنكم جميعا لا تعرفون شيئا..تصدرون حكما ظالما على شخص لم تعاشروه… أرجوك يا نهلة الحفي بخالتي واطلبي منها الحضور إلى هنا فورا”.

لم تتحرك نهلة فقلت:

“هيا يجب أن أعرف أولا ما الذي تخطط له”ز

ولم تتحرك نهلة بالسرعة المطلوبة.. غادرت الغرفة, وعادت بعد دقيقتين.. وما إن رأيتها بادرتها بالسؤال:

“هل لحقت بها؟”

قالت:

“نعم, وهي الآن في غرفة الضيوف”.

صحت بعصبية:

“تبا! ولماذا لم توقفيها؟ لا بد أنها الآن تتشاجر مع وليد”.

نظرت إلي نهلة نظرة استنكار ثم قالت:

“لا تخافي على مشاعر ابن عمك!… إنه ليس هنا”.

قلت مستغربة:

“ليس هنا؟؟”

قالت:

“غادر منذ زمن.. يبدو أنه قد رحل فور إنهاء فنجان قهوته!”

*************************

إنني تجرعته جرعة كدت أغص بها.. بسبب النظرات التي تقدح شررا من حولي… مصوبا نحوي..

صحيح أن أبا حسام قدم الاعتذار عما قالته زوجته لي.. لكن ذلك لم يخفف عني شيئا.. وبحياتي لم أقف أمام شخص يدعو علي علنا وبهذا الشكل.. وأكثر ما خيبني هو موقف رغد البارد..

نعم كنت أتوقع أن يثور أقاربها علي ولكن ليس بهذا الشكل..

سامحهم الله…

وصلت إلى شقة شقيقي سامر أخيرا.. ولم أكن قد اتصلت به.. وأردت أن أفاجئه بحضوري…

قرعت الجرس وغطيت بإصبعي عدسة الباب لئلا يراني..

قرعت ثانية وثالثة وما من مجيب! لكنني كنت قد رأيت سيارته في المواقف.. ولا شك أنه في الشقة..

أخيرا سمعت صوتا منخفضا يسأل:

“من هناك؟”

لم أتبين ماهية الصوت.. فطرقت الباب لعله يعاود الحديث.. فكرر الصوت بنبرة حذرة:

“من الطارق؟”

نعم إنه صوت شقيقي.

قلت:

“شخص يريد معانقتك فورا.. افتح الباب”.

وبدا كأن أخي لم يميز صوتي.. ثم رأيت الباب ينفتح بحذر.. ورأيت رأس أخي يطل منه أخيرا..

اندهشت ملامحه كثيرا وانفغر فاهه.. لكن دهشتي أنا كانت أكبر!

“وليد!”

قال والعجب يعلوه..

قلت:

“بشحمه ولحمه!”

لم يفتح سامر الباب وظل محملقا بي لثوان…

قلت:

“هل أبدو شبحا؟”

هنا بدأ سامر يبتسم وفتح الباب ومد ذراعيه لمعانقتي..

“إنني أكاد لا أصدق عيني! فاجأتني يا رجل”.

ابتسمت وقلت:

“بل أنا المندهش يا أخي..”

وأشرت بإصبعي إلى عينه اليمنى وقلت:

“اختفت الندبة تماما! تبدو وسيما للغاية”.

سامر ضحك وهو يمسك بيدي ويقودني إلى الداخل..

تذكرون أن جفني عين سامر اليمنى قد أصيبا بحرق بالجمر عندما كان طفلا صغيرا.. وأن عينه تشوهت وأصبحت نصف مغلقه وقبيحة المنظر.. وكان أبي رحمه الله يود إخضاعه لجراحة تجميلية غير أن أوضاعنا المادية في تلك الفترة كانت سيئة..

في لقائنا الأخير كان سامر قد بدأ علاج الندبة والآن عالج حركة الجفن وما لم يقق الناظر إليها جيدا فإنه لن يكتشف وجود أي أثر أو فرق بين عينيه..

الحمد لله..

في داخل الشقة وجدت ضيوفا لأخي.. عرفنا سامر إلى بعضنا البعض, وبعد حديث قصير استأذن الضيوف وغادروا…

قلت:

“أرجو ألا تكون زيارتي قد أتت في وقت غير ملائم”.

قال سامر:

“ماذا تقول يا أخي! إنهم رفقائي في العمل.. نلتقي في كل وقت.. لا تأبه لهم”.

ابتسمت فقال سامر:

“لكنك فاجأتني! ما سر هذه الزيارة غير المتوقعة؟”

قلت مداعبا:

“اشتقت لعينك اليمنى فجئت أتفقدها”.

ضحك سامر ثم قال:

“بجد وليد.. لِمَ لم تبلغني لأستقبلك في المطار؟”

أجبت:

“أردت أن أقتحم عليك الشقة!”

وضحكت ثم أضفت:

“في الحقيقة كنا قادمين إلى المزرعة.. فأتيت لأزورك”.

سامر ابتسم ابتسامة خفيفة ثم سأل:

“و… ورغد؟”

قلت بعفوية:

“تركتها في بيت خالتها”.

شيء من التردد ظهر عليه ثم قال:

“لِمَ لم تحضرها معك؟ أعني أننا لم نسمع من بعضنا منذ شهور”.

آه يا سامر… أتريد القول إنك اشتقت إليها؟؟

إنني أسوأ شخص لتبدي لهفتك عليها أمامه!

وربما أحس سامر ببعض الأفكار تدور في رأسي فقال مغيرا الدفة:

“كيف سارت أموركم المدينة الساحلية؟ وما أحبار نسبائك؟”

أجبت:

“الحمد لله.. وهم يبلغونك السلام”.

“سلمهم الله.. ماذا عن أقارب رغد؟”

قلت:

“أتيت من منزلهم.. الجميع بخير”.

رواية انت لي

الحلقة الرابعة و الاربعون الجزء 2

قال:

“لم أتصل بهم منذ فترة! ما أخبار حسام؟ هل التحق بالمعهد كما كان يخطط؟”

أجبت:

“لا أعرف فأنا لم أطل البقاء لديهم ولم أسمع آخر أخبارهم”.

ثم أضفت:

“مررت لدقائق مصطحبا رغد”.

عاد ذلك التوتر الخفي إلى وجه أخي وتجرأ وسأل:

“وكيف هي؟ وكيف تعايشت مع خطيبتك في المنزل؟؟”

استغربت السؤال كثيرا.. ولماذا تسأل عن تعايشها مع خطيبتي؟؟ وهل تعلم بأن بينهما شيئا؟؟

قلت:

“مع خطيبتي؟”

رفع سامر كتفيه وحاجبيه وقال:

“آه نعم.. فهي كانت.. أعني أنها لم تكن.. منسجمة معها في السابق… آمل أن يكون الوضع قد تغير!!”

رباه!

هل تعرف أنت يا سامر عن توتر العلاقة بين الفتاتين؟ لا بد أن رغد كانت توافيك بالأخبار..!

قلت راغبا في التأكد:

“هل.. تتصل بك رغد؟؟”

بهت سامر واندهش من سؤال ورد مباشرة:

لا لا!… لم أتحدث معها منذ كنتما معي في الشقة”.

كان ذلك قبل شهور.. عندما مرضت ولازمت فراش شقيقي ليوم وليلة.. هنا في الشقة.. بعد حادث السيارة.. ولكنني لم أعرف أن رغد كانت قد أبلغته آنذاك عن علاقتها المتوترة مع أروى.. حتى أنني لم أكن أعير ذلك التوتر اهتماما حقيقيا آنذاك..

قلت:

“حسنا.. يبدو أنك تعرف أن العلاقة بينهما مضطربة”.

ظهر الاهتمام على وجه أخي.. وتابعت:

“لا تزال كذلك”.

سأل أخي بقلق:

“إذن كيف كانتا تتعملان مها هناك؟”

قلت:

“بتنافر متبادل… خصوصا في الآونة الأخيرة”.

ثم أضفت:

“والآن هما متخاصمتان تماما”.

قال سامر:

“توقعت هذا”.

أثار حيرتي وفضولي.. فسألت:

“عفوا؟؟”

ارتبك سامر ثم أوضح:

“أعني.. أن رغد لا تتكيف بسهولة مع أحد.. من الصعب جدا أن تكسب صداقتها..”

لم أعلق فتابع سامر:

“إنها حذرة جدا في اختيار من ترغب في منحهم صداقتها.. ولا تتأقلم مع من هم خارج إطار سنها أو اهتماماتها أو مجالها الفكري..”

سامر!

هل تريد أن تفهمني أنك تعرف رغد خير مني؟؟

بالطبع تعرف.. فأنت بقيت قريبا منها طوال السنين التي حرمت أنا فيها منها.. وكبرت وتطورت شخصيتها أمام عينيك…

وأصبحت أقرب الناس إليك ألصقهم بك..!

أما أنا فلم أصل للدائرةالتي بارتباطك الشرعي أنت بها..أمكنك تخطيها…

تأملت شقيقي.. في أعماق عينيه كانت المرارة تتكلم.. إنه يتحدث عن الفتاة التي كانت خطيبته لما يقرب من أربع سنين… والتي كانت قاب قوسين أو أدنى من الزواج به..

تأملت لأجله.. لكن..

يا سامر.. ألم تجد في هذه الدنيا غير حبيبتي أنا.. كي تعلق قلبك بها؟؟

إن رغد.. منذ أن حلت بعائلتنا قبل 15 عاما وأكثر.. أصبحت لي..

قلت:

“على كل.. ستظل في بيت خالتها لعدة أيام.. يمكنك زيارتهم وتفقد أحوالها وقت تشاء”.

استغرب سامر وقال:

“عدة أيام؟؟ غريب! ماذا عن الجامعة. أهي مجازة؟؟”

صمت قليلا ثم قلت:

“إنها… في إجازة مرضية طويلة.. فهي.. مصابة بكسور في قدمها ويدها”.

***************************

مر يوم وأنا أقيم باسترخاء في بيت خالتي.. وفر لي أفراد العائلة سبل الراحة وتفانوا في رعايتي والاهتمام بي..

غير أن ذلك لم يخلصني من التفكير المستمر في وليد… خصوصا وأنه لم يتصل للسؤال عني حتى الآن..

تراقبني نهلة وأنا ممسكة بهاتفي المحمول في تردد… أأتصل أم لا؟

“هل يصعب عليك الاتصال بيدك اليسرى؟ دعيني أساعدك”.

قالت ذلك نهلة بخبث.. فهي تدرك ما الذي يدور برأسي..

قلت مستسلمة:

“الغريب أنه لم يخبرني قبل مغادرته ولم يتصل ليتفقد أحوالي.. في المنزل كان يتفقدني ألف مرة في اليوم والآن نسيني!؟ لا سلام ولا كلام ولا خبر… لا أعرف إن كان قد ذهب إلى سامر أم عاد إلى الشقراء”.

وتذكرت صورتها الأخيرة فامتقع وجهي… ثم تذكرت حديثها الأخير معي صباح الأمس.. فأبعدت الهاتف عني..

لاحظت نهلة حركتي الأخيرة فقالت:

“جيد! لا تتصلي.. واختبري مدى قدرتك على تحمل بعده”.

قلت:

“لا أتحمل.. لا يمكنني تخيل حياتي بدونه! سأموت إذا ابتعد عني”.

رفعت نهلة حاجبيها ونظرت إلى السقف استنكارا..

قلت مدافعة عن كلامي ومؤكدة له:

“إذا تخلى عني فسوف أموت فورا.. صدقيني… لا أستغني عنه يوما ولا ساعة… والدخيلة البغيضة.. اللصة.. تطلب مني الخروج من حياته.. تريد الاستحواذ عليه لوحدها.. تظن أنها أقرب وأحق به مني”.

هبطت نهلة ببصرها من السقف علي وعلقت:

“وهي على صواب يا رغد!”

توترت وكدت أصرخ.. حتى أنت يا نهلة؟؟ حتى أنت؟؟

قلت بعصبية:

“كلا..”

ردت نهلة مباشرة وبشيء من القسوة:

“يا رغد… لمَ لا تستفيقين من أحلامك الخرافية؟؟ ما الجدوى من حب رجل متزوج؟ إنك تهدرين عواطفك سدى”.

أحست نهلة بأنها قست علي.. فأقبلت نحوي وأمسكت بيدي اليسرى وقالت مواسية:

“أنا قلقة عليك.. وأفكر بعقلانية.. لقد مضت فترة طويلة.. وأنت لا تزالين تحلمين بالمستحيل.. تعذبين نفسك.. انظري إلى أين وصلت؟”

وهي تشير إلى عكازي..

ثم تابعت:

“آن الآوان لتستفيقي.. اتركي الرجل وخطيبته يواصلان مشوارهما.. بسلام.. وانتبهي أنت لنفسك.. والتفتي للشخص الذي ينتظر منك الإشارة ليغمرك بكل الحب والحنان اللذين تحتاجينهما”.

نظرنا أنا ونهلة لبعضنا نظرة طويلة… عميقة… وأنا أشعر بأن الدنيا كلها تتخلى عني وتقف في صف أروى..

فجأة رن هاتفي المحمول فسحبت يدي بسرعة من بين يديها وأخذت الهاتف وأجبت حتى قبل أن ألقي نظرة على اسم المتصل..

سمعت نهلة تقول باستنكار:

“أنت حالة ميؤوس منها!”

لم أعرها امتماما وتحدثت عبر الهاتف بلهفة:

“نعم مرحبا”.

متوقعة أن يكون وليد..

لكنه لم يكن!

لقد كان.. سامر!

سألني عن أحوالي.. وعن إصابتي وحمد الله على سلامتي.. ودار بيننا حديث قصير علمت من خلاله أن وليد سيظل معه بضعة أيام..

ثم قال فجأة:

“هل يمكنني أن أزوركم الليلة؟”

اشتعل وجهي احمرار من الحرج.. تعثرت في كلامي ولكنني أوصلت إليه:

“بالطبع.. أهلا بك.. سأخبر خالتي بهذا”.

وبعد أن أنهينا المكالمة نظرة إلى نهلة فرأيتها تحملق بي بخبث!

قلت:

“إنه ليس وليد بل سامر”.

عادت تنظر إلى السقف…

قلت:

“ويريد أن يحضر لزيارتنا الليلة”.

نظرت إلي بخبث وقالت:

“تعنين لزيارتك”.

تنهدت وقلت وبريق الأمل يشع في عيني:

“وبالطبع سيأتي وليد معه.. سأطلب من خالتي أن تعتذر إليه”.

وفيما بعد تحدثت مع خالتي ووعدتني بأن تتحدث مع وليد بهدوء وتعتذر عما قالته يوم أمس…

وعندما حل المساء.. وعند الثامنة والنصف قرع جرس المنزل..

انتظرت إلى أن جاء حسام ليخبرني:

“يرغب ابن عمك في إلقاء التحية عليك”.

قلت بشوق يكاد يفضحني:

“هل حضر وليد؟”

نظر حسام إلى نهلة الجالسة بقربي.. ثم إلي وقال:

“لم أعن هذا الـــ..”

وانتبه لنفسه ولم يتم.. ثم قال:

“أعني سامر”.

قلت بخيبة أمل:

“وحده؟”

أجاب:

“والاي معه الآن.. تعالي لتحييه”.

نظرت إلى نهلة ففهمتني..

قمت ورافقت حسام إلى غرفة الضيوف.. حيث كان سامر يجالس خالتي وزوجها..

ما أن رآني حتى وقف ونظر إلى العكاز وعلت تعبيرات وجهه علامات المفاجأة والألم..

أما أنا فقد دهشت للتغير الجديد في مظهر عينه…

“مرحبا سامر.. كيف حالك”.

بادرت في تحيته فرد والقلق يغلف نظراته وصوته:

“مرحبا رغد.. كيف حالك أنت؟ سلامتك ألف سلامة”.

قلت:

“سلمك الله. الحمد لله إصابتي في تحسن.. تفضل بالجلوس”.

وجلسنا نتجاذب أطراف الحديث نحن الخمسة ساعة من الزمن ثم استأذن سامر للمغادرة..

قبل انصرافه أعطاني ظرفا قال لي أنه من وليد… وسألني عما إذا كنت بحاجة لشيء فشكرته وودعته على أن نبقى على اتصال…

أما الظرف فقد كان كما توقعت يحوي مبلغا من النقود…

********************************

إنها النقود التي كانت في محفظتي ونسيت تسليمها لرغد بعد أن أصابني الإرباك وأنا أراها جالسة على عتبة المنزل في المزرعة…

لم أرغب في الذهاب.. لذا تركت شقيقي يخرج لزيارتها وتسليمها النقود بنفسه.. وبقيت وحيدا في شقته..

كما أنني أيضا لم أرغب في الاتصال لا بها ولا بأروى.. وآثرت البقاء بعيدا عن كليهما لبعض الوقت..

باشرت بتنظيم الحاجيات القليلة التي حملتها معي.. وعندما فتحت خزانة الملابس الخاصة بشقيقي فوجئت برؤية فساتين نسائية معلقة آخر الصف…

أصابتني الدهشة والحيرة.. وتملكني الفضول لإلقاء نظرة على بقية الخزانة والأدراج.

لن تصدقوا أنني وجدت خاتم خطوبة سامر الفضي موضوعا في أحد الأدراج مع مجموعة من علب الهدايا والمجوهرات…

وكان أحد الأدرلج مقفلا والله الأعلم.. ما الذي يخبئه شقيقي فيه…

أخذت أعبث بالخاتم في يدي وأنا شارد التفكير.. وشاعر بقلق شديد على سامر..

وفكرت في الألم الذي يعانيه وفي الصدمة التي ستصيبه إن أنا تزوجت رغد..

إنها نفس المشاعر التي عانيت مرارتها حين اكتشفت ارتباطه هو بها..تجربة قاسية جدا لا أريد لشقيقي الوحيد أن يخوضها..

وأضافة إلى عشرات المشاغل والهموم التي تثقل صدري وتزدحم في رأسي, أضفت اليوم هما جديدا… اسمه سامر..

ولم أدر يومها.. أنه الهم الذي سيحتل المركز الأول في قائمة المصاعب التي لا يزال القدر يخبئها لي في المستقبل القريب..

*****************************

مرت أيام وأنا في بيت خالتي لا هم لي سوى التفكير الملي بما قالته الشقراء لي آخر مرة… حالتي النفسية لم تكن جيدة وقد لاحظ ذلك أفراد العائلة.

“والآن يا رغد.. ما الذي يشغل بالك لهذا الحد؟ إننا جميعا قلقون عليك”.

كان هذا سؤال خالتي والتي كانت تلحظ شرودي… أجبت:

“لا شيء خالتي..”

قالت غير مصدقة:

“لا شيء؟”

أجبت مدعية:

“إنني.. قلقة بشأن.. أعني بشأن الجامعة وغيابي عنها”.

ولا أدري إن بدا كلامي مقنعا أم لا, غير أنه لم يقنع نهلة الجالسة معنا… بطبيعة الحال.

قالت خالتي:

“الجامعة والجامعة! دعك منها يا رغد.. وانسي أمرها”.

حدقت في خالتي بتعجب! فقالت:

“لست بحاجة إليها ولا أرى داع لها أصلا”.

قلت مندهشة:

“خالتي! كيف تقولين هذا؟”

قالت:

“لو لا إلحاحك ما كنت وافقت على الذهاب مع ابن عمك للجنوب من أجل الدراسة.. اصرفي نظرا عنها أو التحقي بالمعهد مثل حسام”.

قلت محتجة:

“ولماذا أفعل ذلك؟ أنا مسرورة بدراستي وناجحة بل ومتفوقة فيها”.

وأضفت:

“ثم أن وليد قد دفع تكاليف الدراسة لهذا العام كاملة… وهو مبلغ طائل لن نضيعه هباء”.

قالت:

“وماذا عن السنوات التالية؟”

قلت:

“سيدفعها أيضا”.

قالت معترضة:

“ولماذا يكبل نفسه كل هذا العناء؟ الجامعات الأهلية مكلفة جدا”.

قلت:

“لكن وليد ثري جدا.. ومصاريف دراستي لا تساوي شيئا أمام كل ما يحصل عليه”.

قالت خالتي:

“لا نريد أن نكلف الرجل فوق هذا..”

قلت متعجبة:

“ماذا تعنين؟ إنه الوصي علي!”

قالت خالتي:

“هنا مربط الفرس…”

ولم أفهم ما تعنيه.. ثم قلت:

“على كل نحن ننتظر حضوره حتى نضع النقاط على الحروف”.

وحالما انصرفت خالتي سألت نهلة:

“ما الذي تعنيه خالتي وماذا تقصد؟؟”

نهلة ردت:

“هذه المرة.. أمي جادة جدا بشأن إقامتك معنا بشكل دائم يا رغد!”

قلت مندهشة:

“والجامعة؟؟ ووليد؟؟”

قالت:

“آن الآوان… للتحرر منهما!”

في ذلك اليوم لم أطق صبرا… واتصلت بوليد… أخيرا…

وكأنني أكلمه للمرة الأولى في حياتي… لا أعرف لماذا ارتبكت وتسارعت نبضات قلبي..

وفور سماعي لصوته.. انصهرت كما تنصهر الشمعة… دمعة دمعة!

“كيف أنت؟ ولماذا لا تتصل بي؟”

تجرأت وسألته بعتاب.. إذ إنه لم يهاتفني ولا مرة مذ أحضرني إلى هنا.. وكأنني عبء ما كاد أنه تخلص منه!

وليد قال:

“لم أشأ إزعاجك.. وأعلم أن أقاربك يعتنون بك جيدا”.

حتى وإن! أنت أبي بالوصاية.. أليس من واجبك السؤال عني كل يوم؟

قلت:

“ومتى ستحضر؟”

قال:

“هل هناك شيء؟؟”

قلت:

“لا لا… لا تقلق.. إنما قصدت.. متى سيتعين علينا العودة؟”

لم يجبني مباشرة ثم قال:

“لا يزال أمامنا بعض الوقت.. موعدك في المستشفى لم يحن”.

هكذا إذن! لن تأتي لرؤيتي إلا يوم السفر أم ماذا؟؟

قلت:

“إن خالتي ترغب في الحديث معك”.

قال:

“حسنا…”

قلت:

“لا أعني على الهاتف.. تود أن تأتي للعشاء عندنا.. والتحدث”.

قال:

“لا بأس.. لنقل بعد يومين؟ فأنا في الطريق إلى المزرعة الآن”.

فوجئت.. وخذلتني جملته الأخيرة.. ذاهب إلى المزرعة ولم تفكر بالمرور بي؟؟

قلت:

“هكذا إذن؟ حسنا لن أشغلك وأنت تقود السيارة.. رافقتك السلامة”.

****************************

كنت أنتظر إشارة من أروى لأعود للمزرعة ونعود لمناقشة الخلافات الأخيرة الحاصلة بيننا..

والأيام التي قضيتها مع شقيقي بعيدا عن أي مشاكل كانت كافية لإرخاء الشد الحاصل في أعصابي. فكرتك كانت نافعة يا أروى.. أعترف بهذا.

اتصلت بي البارحة وأخبرتني أنها ترغب في مقابلتي..

منذ ارتباطنا وأروى أمامي يوميا لم يفصلها عني غير الشهر الأسود الذي تلا مقتل واليّ رحمهما الله والذي قضيته مع سامر ورغد بعيدا عنها..

أما رغد فمنذ أن التحقت برعايتي لم أفترق عنا غير الأيام التي سبقت رحيلنا الأخير إلى الجنوب.

والحديث القصير معها عبر الهاتف جعلني أشتعل شوقا لرؤيتها والاطمئنان على وضعها وصحتها.. ولو لم ابتعدت كثيرا.. لربما سلك بي شوقي الطريق إليها..

الاستقبال الذي استقبلتني به أروى كان باردا.. على عكس الطريقة التي ودعتني بها.. واخترنا الغرفة الخارجية الملاصقة للمنزل, والتي كنت أقيم فيها فيما مضى.. مكانا لحديثنا المطول..

أروى ظهرت أكثر هدوءا وتماسكا مما كانت عليه خلال الآونة الأخيرة.. ولم تتعمد الإطالة في المقدمات بل قالت مباشرة:

“كما قلنا.. يجب أن نضع نهاية لكل المشاكل والخلافات الحاصلة بيننا نحن الثلاثة”.

تعنيني أنا وهي ورغد..

قلت:

“وهل وجدت حلا مناسبا؟”

بدا الجد يعلو قسمات وجهها وأخذت نفسا عميقا ثم قالت:

“نعم.. وهو.. بيدك أنت يا وليد”.

شعرت بالفضول والحيرة.. لم أفهم ما الذي عنته فسألتها:

“بيدي أنا؟ ما هو؟”

قالت:

“يجب أن تكون مستعدا له”.

ازدادت حيرتي وقلت:

“بالطبع فأنا أريد بالفعل أن نتجنب التصادم مستقبلا وإلى الأبد… إذا كان الحل بيدي فأنا لن أتردد.. لكن ماذا تقصدين؟”

هنا توقفت أروى عن الكلام وكأنها تستجنع قواها لتنطق بالجملة التالية.. تلك الجملة التي من قوتها.. كاد سقف الغرفة أن ينهار على رأسي..

“وليد.. عليك أن تختار.. مع أينا تريد العيش… إما أنا.. أو رغد”.

وقوع سقف بهذا الحجم على رأس موقوت مسبقا.. لا يسبب التكسر والتهشم فقط.. بل ويفجره إلى شظايا تنطلق مخترقة الفضاء إلى ما لانهاية..

تسمرت على وضعي مذهولا.. أشد ذهولا من الذهول ذاته.. أحاول أن أترجم اللغة العجيبة التي التقطتها أذناي منطلقة من لسان أروى..

لم أتحدث فأنا لم أعد أملك رأسا يدير حركة لساني..

أرووى بعد الجمود الذي رأته علي قالت:

“وليد.. صدقني.. الحياة بوجودنا معا نحن الثلاثة مستحيلة.. لقد فكرت مليا طوال الأيام الماضية.. مرارا وتكرارا.. ولم أجد لمشكلتنا مخرجا غير هذا.. لن نستمر واقفين على فوهة البركان.. أنا ورغد لا يمكن أن نجتمع تحت سقف واحد بعد الآن.. أبدا يا وليد”.

أي سقف؟ وهل أبقيت في المنزل أية أسقف؟ لقد أوقعتها كلها على رأسي يا أروى…

فعن أي سقف تتحدثين؟؟

أخيرا استطعت النطق:

“ما الذي تهذين به؟”

توترت أروى.. وقالت:

“هذا هو الواقع… أنا وابنة عمك يستحيل عيشنا سوية في سلام.. لا تتحمل إحدانا وجود الثانية أبدا.. إما أن تعيش معي.. أو تعيش معها.. يجب أن تختار”.

صرخت:

“أروى… هل جننت؟”

صاحت أروى:

“بل هذا هو عين الصواب.. إنني سأجن فعلا إن بقيت مع ابنة عمك في بيت واحد”.

انفعلت وثرت فجأة.. وهببت واقفا أضرب كفي الأيسر بقبضتي اليمنى…

وقفت أروى وقالت:

“أرجوك أن تحافظ على هدوئك لنتابع النقاش”.

صرخت بعصبية:

“أحافظ على هدوئي؟ كيف تريدين مني البقاء هادئا بعد هذا الجنون الذي تفوهت به؟ إنني لم أتوقع أن تكوني أنت كارهة لرغد لهذا الحد أبدا”.

قالت منفعلة:

“وأما لم أقل إنني أكرهها”.

قاطعتها:

“وبم تترجمين موقفك هذا؟”

أجابت:

“إنه حل وليس موقف.. واحدة منا فقط ستعود وتبقى معك.. وعلى الأخرى أن تظل هنا… هذا من أجل راحتنا جميعا”.

قلت غاضبا:

“من أجل راحة من؟؟ تريدين مني أن أتخلى عن رعاية ابنة عمي وتقولين راحتنا جميعا؟؟”

هتفت أروى:

“أنا لم أقل تخل عنها”.

قلت ثائرا:

“وما تفسيرك إذن لتركي لها هنا؟”

قالت:

“ولم أقل اتركها هي… قلت إنك من يجب عليه أن يختار.. إما أنا أو هي”.

وقفت مأخوذا بأعماق أكبر وأغزر.. لكلام أروى..

قلت:

“أروى… بربك… ماذا تعنين؟؟”

رمقتني بنظرات ملؤها المعاني…

سألت:

“تعنين.. أن أعود معها هي.. وأتركك هنا؟”

رفعت أروى رأسها بشموخ وقالت:

“إن قررت اختيارها هي”.

اندهشت وقلت:

“لا بد أن شيئا ما قد ألم بعقلك يا أروى”.

لم تعلق فتابعت:

“إلا إذا كنت… تعنين لفترة محددة.. ريثما تهدأ الأوضاع”.

قالت بثقة:

“لا… بل أعني للأبد..”

صعقت وسألت غير مصدق:

“وأنت؟”

قالت وعضلات وجهها قد خذلتها وبدأت بالنهيار:

“لن أعيش معك ما دامت رغد تحت ولايتك..”

من ذهولي لم أعرف كيف أرد.. رفعت يدي وأمسكت بعضديها ونظرت إلى عينيها بجدية ثم قلت:

” هل تعنين ما تتفوهين به يا أروى؟؟”

أجابت وأول دمعة تنزلق بين رموشها:

“أعيه وأعنيه تماما يا وليد.. لن لأستمر معك.. ما بقيت ابنة عمك تحت رعايتك.. إن أردت لحياتنا أن تستمر معا.. تنازل عن وصايتها.. وأبعدها عنا”.

أطرقت برأسي رفضا لتصديق ما أسمع.. وضغطت على عضدي أروى وقلت:

“كلا.. أنت لا تعنين ما تقولين يا أروى.. لا شك أنني أحلم”.

أروى عصرت عينيها وتدفقت الدموع بغزارة منهمرة منهما.

هززتها وقلت:

“كلميني يا أروى.. أخبريني بأنك تهذين..”

أروى فجأة رمت برأسها على صدري وانفجرت باكية وهي تزفر:

“لا أتحمل هذا… ارحمني وليد.. لا يمكن لقلبي أن يتحمل العيش مع فتاة أعرف أنك تحبها.. ما الذي تخطط له بشأنها؟؟ كم أنت قاس علي…”

وانهارت أروى في بكاء طويل حارق..

لم أحرك ساكنا.. وانتظرت حتى أفرغت دموعها في ملابسي.. وبكاءها بين ضلوعي..

بعدها أبعدت رأسها عن صدري ونظرت إلي..

“ماذا قررت؟”

سألتني ونظرتها متعلقة بعيني…

فلم أرد.. فنادتني:

“وليد… أنا.. أم هي؟”

عضضت على أسناني توترا ثم قلت:

“سأعتبر نفسي لم أسمع شيئا اليوم”.

قالت بحنق:

“وليد.. لا تهرب من سؤالي”.

رددت بحدة:

“إنه ليس سؤالا يا أروى… إنه الجنون.. يبدو أنك لم تسترخي بما فيه الكفاية بعد..

سأتركك لتراجعي حساباتك الحمقاء هذه ثانية”.

وتركتها وغادرت الغرفة..

في المزرعة وجدت العم إلياس والخالة ليندا يعملان مع بقية العمال في حرث بقعة من الأرض..

قلت مخاطبا الخالة:

“خالتي.. دعي عنك هذا أرجوك”.

فقالت بسرور:

“إنني أستمتع بحرث الأرض يا بني.. ثم إنه تمرين جيد لتنشيط القلب”.

قلت:

“بل هو شاق على مرضى القلب.. أرجوك توقفي”.

واقتربت منها وانتزعت الأداة من بين يديها وطلبت منها الذهاب للراحة..

كانت أشعة الشمس لا تزال ساطعة بقوة والجو اليوم أكثر حرارة مما كان عليه الأسبوع الماضي..

شمرت عن ساعدي وأمسكت بالمعول وجعلت أضرب الأرض بقوة.. وكلما تذكرت كلام أروى ضربتها بقوة أكبر وأكبر.. وكأنها السؤولة عن دوامة المشاكل التي أعيشها.. كأن بيني وبينها ثأر كبير…

عملت بهمة لا تتناسب والحالة المزاجية المتعكرة التي تسيطر علي.. ومرت الساعات واختفى قرص الشمس خلف ستار الأفق.. الذي خبأ بحرص شديد.. ما ستشرق به شمس الصباح التالة..

كان الإعياء قد نال من عضلاتي والعرق قد أغرق جسدي حينما ألقيت بالمعول جانبا واستلقيت على الرمال ألتقط أنفاسي..

تنفست بعمق شديد وأنا شارد التفكير.. أنظر إلى السماء وقد بدأ الظلام يلونها بلون الحداد الكئيب…

أمام عيني كنت أرى كلمات أروى تتراقص مع أوراق الشجر.. ذات اليمين وذات الشمال.. وتسبب لي دوارا..

أغمضت عيني لأحول دون رؤية أي شبء.. فأنا هذه اللحظة لا أريد لأي مؤثر خارجي أن يغزو تفكيري..

شعرت بشيء يسري على ذراعي.. حركت يدي فأحسست بحبات الرمل تعلق بي..جذبت نفسا فخيل إلي أنني أشم رائحة دخان السجائر.. وسمعت أصوات أشخاص كثر ينمنمون..

فتحت عيني بسرعة.. وهببت جالسا..لمحت حشرة تسير على ذراعي فأبعدتها ونفضت التراب عن يدي.. وتلفت يمنة ويسرة أبحث عن مصدر الرائحة والصوت..

لقد كنت واهما.. إنني في المزرعة الآن.. ولست في السجن..

لا اعرف لماذا عادت بي الذكريات إلى الزنزانة.. وتوهمت أنني أنام على الفراش الخشبي القذر.. تعلق بي حبات الرمل والغبار.. وتسير الحشرات على جسدي.. وتحشو رائحة السجائر والعرق تجويف أنفي..

كلا كلا!…

وقفت منتفضا وأنا أطرد الذكرى البشعة من مخيلتي… مددت أطرافي الأربعة إلى أقصاها.. وتنفست نفسا عميقا وزفرت باسترخاء… ثم أجريت تمارين إرخاء سريعة.. دخلت بعدها إلى المنزل..

تحاشيت الالتقاء بأروى وتعمدت عدم الظهور في أماكن تواجدها.. وأبقيت موضوعنا معلقا لحين إشعار آخر..

رواية انت لي

الحلقة الخامسة و الاربعون الجزء 1

الجفـــاء القــاتـــل

طرت من الفرح.. عندما أخبلاني وليد بأنه قادم لزيارتنا هذه الليلة… فأنا لم أره منذ أسبوع.. وأشعر بحنين شديد إليه.

وشعرت بالحسرة لأنني لم أستطع المشاركة في إعداد طعام العشاء مع خالتي وابنتيها…

قلت مخاطبة نهلة:

“يحب عصير البرتقال الطازج.. أرجوك حضري كمية كبيرة منه”.

فتحت نهلة درج الثلاجة المليء بثمار البرتقال وأشارت إليها وقالت ساخرة:

“كل هذا؟”

سارة انفجرت ضاحكة فوبختها خالتي.. أما أنا فرمقت نهلة بنظرة غضب فابتسمت وقالت:

“حاضر سيدتي.. وماذا أحضر بعد؟”

وكنت قد أخبرت خالتي عن الأطباق التي يفضلها وليد وطلبت منها أن تحضرها بسخاء!

سمعت خالتي تسأل:

“ماذا عن سامر؟ هل تأكدت من أنه لن يحضر؟”

أجبت:

“نعم. هكذا أجاب وليد عندما سألته.. لكن اعملي حسابه.. ربما يتغير رأيه ويأتي”.

قالت سارة مفاجأة:

“أصبح وجه سامر وسيما الآن. هل ستتزوجين منه ثانية يا رغد؟”

هذه المرة خالتي زجرت ابنتها بعنف بل وطردتها من المطبخ… سارة غبية لدرجة ملحوظة.. وتفكيرها سخيف جدا…

الصمت حل على المطبخ بعد مغادرتها وأرادت نهلة أن تلطف الأجواء فسألتني:

“وخطيبته وأمها؟؟ أمتأكدة من أنهما لن تحضرا؟”

كانت تعرف هي الأجابة ولكنني جاريتها:

“لن تحضر.. سيأتي وليد فقط”.

قالت ماهو الخطأ الذي قلته؟”

أوه.. إنها حتى لا تدرك خطأها! إنها طفلة بريئة ولا تستحق العقاب..

قلت:

“عندما قلت عن سامر إنه أصبح وسيما وسألتني إن كنت سأتزوج منه”.

قالت ببلادة:

“نا الخطأ في ذلك؟ لقد أصبح وسيما بالفعل عندما عالج عينه البشعة”.

قلت مجارية:

“نعم أعرف”.

وانتظرت هي مني أيضاح الخطأ.. فقلت:

“لكن لا يليق أن تسأليني إن كنت سأتزوجه أم لا.. أولا لأنك صغيرة السن ولا يستساغ منك كلام كبير كهذا.. وثانيا لأنني وسامر قد انفصلنا عن بعضنا البعض نهائيا ولن نتزوج ثانية..”

ونظرت إلى عينها أستشف منهما الفهم, لكن.. لا يبدو أنها استوعبت تماما ما عنيت!

قالت:

“إذن ستتزوجين بحسام؟”

أوه… ألهمني الصبر يا رب!

أجبت:

“كلا”.

قالت:

“إذن بمن؟”

قلت مظهرة الغضب لأفهمها أن عليها التوقف عن هذا:

“لا أعرف يا سارة ولا تكرري الحديث عن أمور كهذه ثانية.. مفهوم..؟؟”

واستدرت راغبة في الانصراف عنها.. فسمعتها تقول:

“أنا أعرف بمن”.

استدرت إلى سارة مجددا فوجدتها تبتسم ولكن هذه المرة بمكر!

قلت مجارية لها:

“بمن في اعتقادك؟”

قالت:

“بابن عمك الطويل.. فأنا سمعتك تخبرين أختي بهذا”.

*****************

بعد العشاء.. جلست مع أبي حسام والخالة وحسام ورغد نتجاذب أطراف الحديث..

أحاديثنا منذ البداية كانت عادية وغير هادفة.. باستثناء اعتذار أم حسام الذي أزاح عني حملا… لم أهنأ بزواله… أما الصغيرة كانت صامتة إلا عن نظرات تلقيها علي من حين لآخر!

ولكن هل يبدو في مظهري شيء غريب؟؟

سألت أم حسام:

“كم ستمكث في البلدة؟”

أجبت:

“أسبوع كحد أقصى.. بعض شئون العمل متوقفة على حضوري..”

قالت:

“وماذا عن رغد؟”

بسرعة التفت إلى الصغيرة واشتبكت نظراتنا.. ثم عدت إلى أم حسام:

“ستأتي معي قطعا”.

وهل هناك شك في الأمر؟؟

أم حسام قالت:

“أليست إجازتها المرضية ممتدة لعدة أسابيع.. لن تكون هناك دراسة ولا جامعة وبالتالي لا داعي لسفرها”.

عدت ونظرت إلى رغد.. متوقعا أن تكون هذه فكرتها.. ثم قالت:

“نعم ولكن..لديها موعد الطبيب في الأسبوع المقبل.. كما وأنها يجب أن تبقى قريبة من المستشفى لمتابعة العلاج.. هذا إلى أنه… بإمكانها الدراسة في المنزل والاستعانة بصديقاتها خلال فترة الاجازة”.

أليس كلامي منطقيا؟؟

أم حسام قالت وقد طغت الجدية على نبرة صوتها:

“في الحقيقة يا وليد.. وباختصار وبلا مقدمات.. أريد أن تبقى ابنة أختي تحت رعايتي من الآن فصاعدا”.

أصبت بالدهشة.. وقلت مستغربا:

“ما الذي تقصدينه؟؟”

أجابت بكل ثقة:

“أقصد أن تبقى هنا في بيتي وتحت ناظري وبين أبنائي.. وهو المكان الطبيعي لها أساسا”.

درت بعيني بعشوائية ثم ألقيت نظرة على رغد أستشف منها موقفها.. لكني لم أفهم المعاني المرتسمة على وجهها..

قلت:

“خالتي.. ألم يسبق وأن أغلقنا هذا الموضوع بعد أن أشبعناه حوارا وختمنا القرارات؟

بقاء رغد تحت وصايتي أمر مفروغ منه البتة ولا مجال للحديث فيه أصلا”.

تدخل حسام وقال:

“هذا ما تفرضه أنت”.

لم أعره اهتماما وركزت أسماعي على الخالة التي تابعت:

“لم ننهه لكنك أصررت على موقفك واستغللت شغف الفتاة بالراسة كيف تكسبها إلى جانبك”.

استغلال؟؟ عندما أفكر في مسقبل رغد.. وأخطط له.. تسمونه استغلال؟؟

حسام قال:

“إنهم يعيدون ترميم المبنى المدمر من الجامعة هنا وستفتح العام المقبل وتستطيع رغد العودة إليها مجددا”.

قلت:

“ولماذا عليها أن تفل ذلك؟ الجامعة الأهلية في الجنوب أفضل مستوى وقد قطعت شوطا مهما وبنجاح فلم تفكر أصلا في تغيير الجامعة؟”

كنت سأوجه سؤالا إلى رغد غير أن أم حسام سبقتني بالحديث:

“لتبقى معي.. وإن كانت حجتك الدراسة فها هو الحل أمامك”.

استفزتني الجملة وقلت:

“ليست مسألة الجامعة فقط… رغد تحت وصايتي أنا وأريد أن آخذها معي”.

قالت أم حسام وبصوت حاد:

“في هذه المرة أعدتها إلينا بالجبائر… في المرة القادمة كيف ستعيدها إلينا؟؟”

أبو حسام تدخل ليخفف الشد الحاصل فقال:

“نحن نعرف أنك تعتني بها جيدا ولكن إنه قلب الأم.. لا تتصور كم كانت خالتها مشغولة البال والقلب عليها”.

قال حسام:

“جميعنا كنا قلقون عليها وهي بعيدة كل ذلك البعد. يجب أن تقدر مشاعرنا”.

كأنك تماديت يا حسام؟ مشاعر ماذا تقصد؟ يجب أن تتوقف عند هذا قبل أن تشعل غضبي..

قلت معارضا وبكل إصرار:

“الأمر مفروغ منه ولسنا هنا لنناقشه من جديد.. وأرجوكم لا داعي لهدر المزيد من الوقت في جدال عقيم لقضية محسومة مسبقا”.

قال حسام فجأة:

“أنت متسلط جدا”.

صمت الجميع من المفاجأة.. وأنا نظرت إليه بتعجب.. حسبت أنها زلة لسان سيعتذر عليها لكنه أضاف وللعجب:

“نحن أفرب إلى رغد منك وأحق بكفالتها..”

أبو حسام ردع حسام بنظرة غاضبة.. والأخير سكت ثوان ثم وجه خطابه إلى رغد:

“ما رأيك أنت يا رغد؟ ألست تفضلين البقاء مع والدتي؟؟”

نظرنا جميعا نحو رغد التي أجابت بإخضاع نظرها نحو الأرض.. كأنها تؤيد هذا..

ماذا يا رغد؟ أتريدين إحراجي أكثر مع أقاربك؟ ألم ننته كليا من موضوع إقامتك معي؟

هل غيت رأيك الآن؟

خاطبتها سائلا وشاعرا بالخذلان منها:

“ماذا يا رغد؟”

فنظرت إلي وأجابت مضطربة:

“كما ترى أنت.. وليد”.

الجميع نقلو بصرها عنها وصبوا أنظارا حارة علي..

ويحكم! هل تعتقدون أنني أهدد الفتاة أو أجبرها على شيء؟

قلت طالبا منها التأكيد:

“ألست ترغبين في متابعة الدراسة في الجامعة الأهلية؟”

قالت مؤكدة:

“بلى”.

اطمأن قلبي لردها لكن أم حسام قالت معترضة:

“كلا… ستبقين معي.. أريد أن أرعاك بنفسي من الآن فصاعدا.. ولن يطمءن قلبي لسفرك على الإطلاق”.

وإذا بحسام يخاطبني قائلا فجأة:

“لماذا لا تتنازل عن الوصاية؟”

نظرت إليه نظرة مندهشا ثم رمقته بحدة وقلت:

“أتنازل عنها لمن مثلا؟ لك أنت!؟”

حسام غضب من تعقيبي الساخر ورد منفعلا:

“تعرف أنني دون السن القانوني ولا يمكنني أن أكفل أحدا.. أنا أعني لوالدي فهو بمقام والدها وهو ابن عم والدتها وأمي خالتها ونحن أقرب إليها منك”.

عند هذا لم أتحمل.. اشتعلت نفسي غضبا وتصبب العرق من جبيني ورفعت يدي أمسحه فلمست جبينا ساخنا يكاد يتقد نارا..

نظرت نحو رغد وأظن نظرتي كانت قوية للدرجة التي اهتز فيها جسدها وتراجع للوراء..

زفرت زفرة قوية أخيرا كانت ساخنة ما يكفي لحرق أثاث الغرفة..

قلت أخيرا:

“يمكنكم مناقشة أمر الوصاية هذا بعد موتي, ولكن طالما أنا حي فابنة عمي ستبقى تحت مسئوليتي أنا ما امتدت بي الحياة”.

ووقفت وتابعت:

“علي الذهاب الآن.. شكرا على حسن الضيافة”.

والتفت إلى رغد وقلت:

“رغد.. هلا رافقتني إلى البوابة؟”

سرنا جنبا إلى جنب بخطى بطيئة إلى أن ابتعدنا عن مدخل المنزل وانتصف بنا الطريق إلى البوابة الخارجية لسور المنزل…

حينها أذنت للساني بالنطق:

“رغد”.

وتوقف صوت خطوات العكاز.. التفت إلى رغد فرأيتها وقد توقفت عن المشي وكأنها في انتظار شيء مهم…

قلت:

“هل كانت هذه فكرتك؟”

رغد قالت بسرعة:

“لا.. لا.. إنها خالتي, هي التي تريد مني البقاء… على الأقل فترة نقاهتي”.

قلت:

“والوصاية؟”

أجابت:

“حسام يتحدث بسخافة أحيانا”.

كنت أنظر إليها بتشكك.. فهي لطالما طلبت مني تركها مع أقاربها, وخشيت أن تكون هي وراء كل هذا…

لما قرأت الشك في عيني قالت مدافعة:

“صدقني لست أنا”.

قلت:

“اسمعي يا رغد.. عليك أن تفهمي أقاربك أن موضوع الوصاية هذا مفروغ منه تماما ولا أقبل منهم أن يفتحوه أمامي مجددا أبدا.. يجب أن تخبريهم أن يتوقفوا عن محاولاتهم المزعجة وإلا فأنني سوف لن آتي بك لزيارتهم مجددا”.

بدا التوتر على وجه رغد فقلت:

“أنا أعني ما أقول..”

ثم استدرت لأتابع طريقي إلى البوابة..

بعد ثوان لحقت رغد بي وسمعتها تناديني وتقول:

“وليد… لا تغضب…!”

التفت إليها فوجدت عينيها متعلقتين بي…

كررت:

“أرجوك.. لا تغضب منهم”.

وأضافت:

“أنا اعتذر لك عن أي كلمة مزعجة وجهت إليك هذه الليلة… سامحهم أرجوك”.

أراحني الشعور بأن رغد… تكن لي التقدير وتكترث لمشاعري… وتود تطييب خاطري بعد الكلام الذي تلقيته من أهلها…

قلت:

“هذه المرة سأبتلع كل شيء.. لكن عليك أن تفهميهم جيدا بأنني فيما لو تكرر هذا مرة أخرى, سأتخذ موقفا مختلفا”.

أطرقت رغد برأسها إذعانا.

أخيرا قلت:

“والآن.. هل تأمرين بشء قبل ذهابي؟”

رأيت وجه رغد يبتسم فيما قسمات القلق مرسومة على جبينها وهي تقول:

“انتبه لنفسك”.

أنتبه لنفسي؟!

إنها أول مرة تقولها لي وبهذه الطريقة ومعالم القلق والاهتمام ناطقة على وجهها!

شعرت بدغدغة لطيفة تسري في جسدي لم تكن لتتناسب مع الغضب الذي أضمره!..

ابتسمت لها وفارقتها بارتياح..

ذهبت إلى شقة سامر والذي كان قد أعطاني مفتاحا احتياطيا لشقته بطلب مني.. حتى يتسنى لي الدخول والخروج بحرية, خصوصا وأنه كان يقضي ساعات طويلة في العمل..

دخلت الشقة واتجهت إلى غرفة النوم.. وهناك… رأيت شقيقي يجلس على السرير وفي يده علبة ما..ووجهه متجهم.. ويظهر عليه الشرود… حتى أنه لم ينتبه لدخولي..

“سامر”

بمجرد أن ناديته ارتبك وأغلق العلبة بسرعة وهب واقفا وهو يقول:

“وليد.. أأأأهلا”.

وسار نحو الخزانة وأدخل العلبة في أحد الأدراج, الدرج الذي وجدته مقفلا ذلك اليوم, وأقفل الدرج بالمفتاح وهو يقول:

“لم أنتبه لقدومك”.

دققت النظر في وجهه فوجدت آثار الدموع تبلل رموشه.. شعرت بانقباض في قلبي وسألت بقلق:

“أهناك شيء؟؟”

سامر تظاهر بالعفوية وابتسم وقال:

“لا. لا شيء”.

لكنني لم أشتت نظري عنه فقال:

“تذكرت والدينا”.

وظهر الخشوع والحزن على وجهه.. لم أصدق ما ادّعاه ولكنني لم أشأ إحراج الموقف فقلت:

“رحمهما الله”.

وتصرفت بشكل طبيعي رغم القلق الذي يعتصر أحشائي..

لا أعرف ما الشيء الذي كان سامر يخفيه في الدرج ويحذر أن أراه.. لكني أتوقع وتقريبا شبه متأكد من أنه ذو علاقة برغد…

والفضول تملكني بشدة… وانتهزت الفترة التي ذهب أخي فيها للاستحمام بعد ذلك وتسللت يدي نحو الدرج..

كان المفتاح في ثقب الدرج… فتحته بحذر واستخرجت العلبة الكبيرة الثقيلة التي كانت تحتل معظم الدرج…

وضعت العلبة على السرير وهممت بفتحها, غير أن ضميري تغلب على فضولي في آخر لحظة… وإذا بي أعيد العلبة إلى الدرج وأقفله بالمفتاح وأغلق باب الخزانة كما كان…

لحظتها أثنيت على نفسي أمانتي.. وشكرت ضميري على تأنيبه… وبت راضيا عن نفسي ومسرورا بها…

لكنني فيما بعد.. ندمت أشد الندم.. على أنني لم أكتشف وقتها السر الذي كان شقيقي يخبئه.. رغم أنه كان طائعا بين يدي…

************************

بالأمس أبلغني وليد عن موعد سفرنا وهو مساء اليوم, واتصل بي قبل ساعة ليتأكد من استعدادي. وقد أبلغني أنه في طريقه للمزرعة وسوف يكون هنا عصرا.

وفيما أنا مع ابنتي خالتي نجمع حاجياتي في حقيبتي رن هاتفي مرة أخرى… نهلة ونظرت بمكر وقالت:

“الوصي الطويل!”

وسارة ضحكت -كعادتها- بصوت مرتفع…

كان هاتفي موضوعا على المنضدة بجوار المرآة. وكنت أجلس على السرير أطوي ملابسي..

قلت مخاطبة نهلة:

“ناوليني الهاتف”.

فأسرعت سارة والتقطته من على المنضدة وأقبلت نحوي.. نهلة قالت لإغاضتي:

“دعيها تسير إليه بنفسها يا سارة!”

سارة غيرت اتجاه سيرها وعادت أدراجها إلى المنضدة..

قلت بحنق:

“هذا ليس وقته… هاتي الهاتف سارة”.

فقالت نهلة وهي تضحك بخبث:

“تعالي وخذيه بنفسك”.

هتفت:

“تبا لكما”.

ورميتهما ببعض ملابسي وأمسكت بعكازي وهببت لأقف, حينها أخذت نهلة الهاتف ورمته نحوي على السرير وأطلقت أختها القهقهات وهما تغادران الغرفة… مددت يدي بسرعة والتقطت الهاتف..

كان رقم هاتف المزرعة, ذلك الذي ظهر على شاشة هاتفي…

“مرحبا”.

“مرحبا يا رغد.. كيف حالك؟”

أتدرون من المتصل؟

إنها الشقراء!

ماذا تريدين مني؟؟ وكيف تملكين الجرأة على الاتصال بي وكأننا من الأصحاب؟؟

قلت بجفاء:

“نعم؟ ماذا تريدين؟”

قالت:

“حسنا.. خشيت ألا تجيبي على اتصالي..”

قلت:

“ظننته وليد… لكن ماذا هناك؟”

قالت:

“إنه لم يصل بعد… هل أخبرك بأنه.. حجز للسفر مساءً؟”

قلت:

“نعم”.

الشقراء صمتت قليلا ثم سألت:

“رغد..هل فكرت في الموضوع الذي حدثتك عنه؟”

تعني الكلام الذي سممت قلبي بسماعه ذلك الصباح في المزرعة.. والذي بذلت قصاري جهدي للتهرب منه..

أجبت:

“لا أريد أن أفكر به”.

قالت:

“لماذا؟”

قلت بغضب:

“لا يعجبني.. ولو سمحت لا تعيدي فتح الموضوع ثانية”.

قالت:

“يارغد لا بد من فتحه وأخذه بعين الاعتبار.. إنه ليس مجرد موضوع عابر بل فيه مستقبلنا وحياتنا ومصيرنا نحن الثلاثة”.

قلت وقد اشتد غيظي:

” لا شأن لك بمستقبلي ومصيري أنا”.

قالت:

“وماذا عن مستقبل وليد؟ وحياته؟ ومصير الدوامة من الشجار التي نحيطها به؟ ألا تفكرين فيه؟”

قلت باندفاع:

“وليد لن يتخلى عني تحت أية ظروف.. إنه بمقام أبي.. لن أبتعد عنه وإذا شءت أنت فابتعدي وأريحينا”.

صمتتالشقراء لبرهة ثم قالت:

“إذن هذا هو قرارك؟؟”

قلت بتحد:

“نعم. هذا هو قراري”.

قالت وقد تجلى الألم والحزن في نبرة صوتها:

“لم أتوقع أن تكوني أنانية لهذا الحد”.

ثم أضافت وقد اشتدت نبرتها:

“لكن… وليد سيأتي الآن.. وسأخبره بما دار بيننا.. وعن قرارك.. وسأضعه أمام الأمر الواقع وأطلب منه أن يعين من منا سيختار ليصطحبها في السفر”.

وتوقفت برهة ثم أضافة:

“وفي بقية العمر”.

وأقفلت السماعة فورا..

تسمرت على وضعي حقبة من الزمن… تدحرج فيها رأسي على محيط الغرفة.. ثم تهالك على السرير دائخا تصارعه كلمات أروى وتستل عقله اتلالا..

رفعت هاتفي أمام عيني.. أوشكت على الاتصال بوليد.. لكن أصابعي ارتجفت وحالت دون مقدرتي على الضغط على الأزرار..

حاولت أن أركز على شيء لكنني فشلت… أغمضت عيني ووضعت يدي اليسرى عليهما لأخفف من مقدار النور الذي بدا قويا يخترق جفوني مقبلا من مصباح السقف…

“رغد!”

سمعت صوتا يناديني.. أبعدت عيني ونظرت باتجاه مصدر الصوت الذي ولشدة تيهي لم أميزه.. ولولا أنها اقتربت مني كثيرا ربما لم أكن لأميزها.. كانت نهلة..

“ما بك!؟”

سألتني بقلق وهي تراني ملقية بثقل رأسي على السرير في ذلك الوضع..

جلست ومددت يدي نحوها فأقبلت إلي وشملتني في حضنها وهي تقول:

“ماذا جرى لك بحق السماء؟؟ ماذا قال لك ذلك المتعجرف اللئيم؟”

هززت رأسي في حضنها وأنا أطلق شهقاتي:

“ليس هو يا نهلة.. إنها هي.. هي”.

سألت بتوتر وقد فهمت قصدي:

“ماذا أرادت منك؟”

انهرت وأنا أقول:

“تريد أن تحرمني من وليد.. ستأخذه مني يا نهلة… ستأخذه مني”.

أبعدت رأسي عن حضنها وقلت بانهيار:

“سأموت إن تخلى عني.. لا أستطيع العيش بدونه.. إنه وليد قلبي أنا.. يخصني أنا.. إنه لي أنا… أنا.. أنا…”

****************************

كنت قد حدثت سامر عن أمر عودتي إلى الجنوب مع رغد.. وألححت عليه كي يرافقنا.. وأعدت عرض فرصة العمل الكبيرة في مصنع أروى..

سامر كان في السابق يرفض الفكرة أما الآن فقد قبل العرض.. وطلب مهلة كي يرتب أموره..

اتفقنا على أن أمهله بضعة أيام أخرى لينجز مهامه ويستعد للسفر…

وضع سامر ووحدته في هذه المدينة وبعده عني لم يكن يروق لي منذ البداية.. ولكن الظروف لم تساعد على لم شملنا في بيت واحد كما هم الأخوة الأشقاء..

ودعته وذهبت إلى المزرعة لأقابل أروى وأهلها, وأقضي معهم بعض الوقت قبل السفر..

في المزرعة طبعا كانت تنتظرني مشكلتي الكبرى.. مع أروى…

كنا أنا وهي نجلس بين الأشجار.. بعيدا عن مرأى أو مسمع أي إنسان.. نتحدث بشأن كلامها الجنوني في لقائنا الفائت..

اعتقدت إنه كان انفعالا مؤقتا, غير أنني وجدتها على نفس الموقف هذا اليوم وقد تجلى الإصرار الشديد عليها..

أروى كانت على غير سجيتها… غاية في التوتر والعصبية…

“اسمعني يا وليد.. لا أريد أن نضيع الوقت والجهد في محاولة تغيير المواقف.. كل ما عليك اتخاذه الآن وبشكل حاسم هو القرار المصيري.. إما أن تأخذني أنا معك, وللأبد… أو تأخذها هي معك.. وللأبد”.

كنت قد استنفذت طاقتي في محاولة إقناعها بالتخلي عن حلها الجنوني هذا.. لكن دون جدوى..

قلت منفعلا:

“الهراء الذي تتفوهين به لن أحمله محمل الجد.. أجد نفسي مضطرا لأن أتركك هنا مؤقتا وأعود معها هي إلى أن تنتهي موجة الجنون الذي أودت بعقلك… بعدها نناقش بعقل كل أمورنا”.

أروى هتفت:

“لا تتهرب يا وليد.. أنا أحدثك بكل جدية… إما أنا أو هي, ولا خيار ثالث مطلقا”.

الاصرار كان يندلع كالنار من عينيها.. والنار لم تحرق عيني ورأسي فقط.. بل وأشعلت الآلام التي لم بالكاد هدأت قليلا في معدتي..

شهقت شهيقا طويلا لأملأ صدري بالهواء وأضغط على معدتي… ثم استدرت للوراء وخطوت مبتعدا عنها..

“وليد إلى أين؟”

لم أرد.. وخطوت خطوة أخرى فقالت:

“هل أفهم من هذا.. أنك قررت اختيارها هي؟”

توقفت لحظة ولم أستجب.. ثم خطوت خطوتين أخريين فسمعتها تقول بانفعال:

“إذا قررت الذهاب إليها فلا تفكر بالعودة إلي ثانية”.

عند هذا الحد واستدرت إليها مذهولا وهتفت بغضب:

“ماذا تعنين؟ أروى… أخرجي من رأسي في هذه الساعة.. أكاد أنفجر.. بالله عليك ماذا تعنين بهذا الجنون؟؟”

أروى حمبقت برهة بي ثم قالت:

“ننفصل”.

فجأة… أصيب رأسي بارتجاج حاد إثر هذه الكلمة الفظيعة وانفغر فوهي وانفتحت حدقتاي أوسعهما…

ذهلت… صعقت… تصلبت في موضعي… غير مصدق!!

نطقت وأنا لا أجرؤ على التفوه بالكلمة من شدة فظاعتها:

” ماذا؟؟ تقولين ننـــ…ننـــــ… ماذا؟”

أجابت أروى بكل ثقة:

“ننفصل يا وليد”.

ولم يزدني برودها إلا ذهولا فوق ذهول…

بقيت أحملق فيها لوقت ما كان أطوله.. ثم أخرجت عبارات عشوائية من لساني:

“كيف تجرأت يا أروى؟ لا بد أنك بالفعل قد جننت…!… ماذا…؟؟ كيف أطاعك لسانك على التفوه بها؟؟ تقولين.. ننفصل؟؟”

صمتت أروى فسرت حتى صرت أمامها وقلت غير مصدق:

“ننفصل يا أروى؟؟ هل قلت ننفصل؟”

أروى قالت وقد تغير صوتها وجاء مبحوحا:

“نعم.. فنحن.. لن نستطيع العيش.. أنا.. وأنت.. وابنة عمك.. سوية… لقد خيرتك.. وأنت من اختار التخلي عني من أجلها”.

مددت يدي إلى ذراعها وهززتها بقوة وصرخت:

“أنا؟؟”

وتابعت:

“بل أنت يا أروى من قرر كل شيء بجنونك.. أنت من يرفض العودة معي.. تعرفين كم هي ظروفي حرجة هذه الفترة وعوضا عن حمل الهم معي تزيدين عاتقي أثقالا.. تريدين مني ترك رغد في بيت خالتها للأبد؟؟ هذا المستحيل بعينه.. أنا لن أتخلى عن مسؤوليتي عن ابنة عمي هذه تحت أي ظروف ومهما كان”.

قالت أروى بغضب:

“إذن تخل عني واحتفظ بابنة عمك المدللة الغالية… لأناية.. حبيبة قلبك التي لا تخجل من الاحتفاظ بصورتها تحت وسادتك”.

هنا.. فار التنور..

رفعت يدي وأوشكت على تسديد لكمة قوية إلى وجهه أروى, غير أنني توقفت عند آخر جزء من الثانية.. وتركت يدي معلقة في الهواء..

أروى صارت تحملق بي بذهول فائق.. وتحول لونها إلى الأصفر من شدة الفزع.. ولو كنت قد سددت ضربتي إلى وجهها لكنت قد فصلت فكها الأسفل عن رأسها كليا..

تراجعت بقبضتي الثائرة والتفت يمينا فرأيت الشجرة التي نقف إلى جوارها تراقبنا بسلام..

وكامجنون ضربت أحد أغصانها بعنف فخر مكسورا على الأرض..

ابتعدت مسرعا عن أروى لئلا تنالها يدي ببطش شديد.. ذهبت أبحث عن العم إلياس فألفيته والخالة يجلسان عند مدخل المنزل يصنعان السلال السعفية ويتبادلان كرة الحديث..

حين رأياني رحبا بي ودعياني للجلوس معهما.. ولكنهما سرعان ما رأيا الشرر يتطاير من عيني والعرق يتصبب من جبيني..

العم إلياس وقف وقال قلقا:

“ما الخطب يا بني؟؟”

هتفت بغضب:

“عمي أريد أن أحدثك عن شيء”.

وقد خرج صوتي مرعبا ما جعل الخالة ترفع يدها إلى صدرها…

قال العم:

“اهدأ يا بني.. رجاء”.

قلت منفعلا:

“يجب أن تتدخل وتفعل شيئا يوقف جنون ابنة أختك هذا”.

الخالة وقفت بدورها هي الأخرى وقالت:

“ماذا يحصل؟؟”

العم إلياس خاطبني:

“اجلس يا بني هداك الله.. تبدو منفعلا جدا”.

والتفت إلى الخالة وطلب منها:

“احضري بعض الماء يا أم أروى باركك الله”.

الخالة دخلت إلى المنزل على مضض لتحضر الماء, أما العم إلياس فحملق بي متسائلا وأمسك بذراعي محاولا تهدئتي, غير أنني سحبت ذراعي وشددت على قبضتي وقلت:

“عمي… أروى.. فقدت عقلها.. تهددني.. إما أن أترك ابنة عمي في بيت خالتها للأبد.. أو..”

ولم أقو على إتمام الجملة.. فسأل العم:

“أو ماذا؟”

قلت أخيرا منفعلا:

“أو ننفصل يا عم”.

العن ذهل ونظر نحوي بدهشة فائقة.. فقلت:

“يجب أن تكلمها… إنها مجنونة منذ عرفت أنني قتلت من كان ابن عمها..والآن تريد مني إخلاء مسؤوليتي عن مكفولتي اليتيمة.. التي هي أمانة في عنقي إلى يوم الدين.. وإلا سوف لن تستمر معي بعد الأن”.

العم كان ينظر إلي بمنتهى الدهشة التي طغت على أي قدرة اه على التعبير…

قلت بحدة بالغة:

“تتعامل مع رباطي بها أو برغد وكأنهما لعبة يمكن تغييرها إن لزم الأمر… أفهمها يا عم.. أنه لا يحق لها وضعي بين خيارين عابثين كهذين.. ولا الاستهانة برباطنا بهذا الشكل المخزي..وإنني لست من الاستهتار لدرجة أن.. أرمي بوصاية ابنة عمي على غيري.. أو أنفصل عن زوجتي.. فقط لأنهما لا تطيقان التعايش مع بعضهما البعض”.

واستدرت منصرفا قبل أن أعطي العم فرصة للاستيعاب…

********************************

مازلت واقفة عند الشجرة… أنظر إلى الغصن المرمي على الأرض… الذي كسره وليد عن جذعها قبل قليل…

كنت غارقة في الدموع… لا أعرف ما أفعل أو كيف أفكر… وقد انصرف وليد غاضبا جدا مني… وسيسافر وموضوعي معه معلق وشديد الالتهاب…

أحسست بحركة من حولي فنظرت في الاتجاه الذي سلكه وليد مغادرا وكلي لهفة أن يكون عاد… رأيت أمي وخالي يقبلان نحوي يكسو وجهيهما القلق الشديد…

كانت أمي تمسك بكأس مليء بالماء في يدها وقطرات منه تنسكب مع خطواتها المضطربة.

قبل أن تصبح في مواجهتي سبقها سؤالها:

“ماذا حصل؟؟ أروى ماذا حصل مع وليد؟؟”

نظرت من بين دموعي إلى عينيها وعيني خالي… وقلت:

“لق… طلبت منه… أن… ينفصل عني”.

وأجهشت بالبكاء واستدرت إلى الشجرة التي ضربها وليد. لم أكن أسمع غير صوت بكائي إلى أن سمعت صوت خالي يهتف:

“ليندا… تماسكي”.

استدرت إلى أمي فرأيت الكأس يقع من يدها ورأيتها تضغط على صدرها وتتنفس بصعوبة… ثم تترنح وتخر على الأرض.

*******************************

استقبلتني ابنة خالة رغد الصغرى وقادتني إلى مدخل المجلس الجانبي.. لم يكن حسام ولا أبوه موجودين ساعة وصولي.. وعند المدخل وجدت أم حسام تقف في انتظارنا…

كنت أعرف أنها غير راضية عن سفر رغد وخشيت أن تعود لفتح موضوع اعتراضها في هذه الساعة… والصداع مشتد على رأسي بعد شجاري مع أروى, ولا ينقصني الآن أي جدال… وبعد تبادل التحية دخلنا إلى الداخل واتخذنا مجالسنا وأخبرتني أن أبا حسام في الطريق إلينا.. ثم سألتها:

“هل رغد مستعدة؟”

أجابت وفي نبرتها شيء من عدم الرضا:

“نعم.جمعت أشياءها بمساعدة ابنتيّ.. إنها بالكاد تتحرك.. يشق السفر عليها مع هذه الإصابة”.

أرجوك! لا تفتحي الموضوع ثانية الآن!

قلت لئلا أدع لها الفرصة للبدء من جديد:

“إذن هلا أخطرتها بوصولي من فضلك؟ لا يزال أمامنا مشوار طويل”.

الفتاة الصغيرة خرجت من الغرفة فورا… ذاهبة لاستدعاء رغد.. أما أم حسام فسألت:

“وأين زوجتك ووالدتها؟”

استغربت السؤال وأجبت:

“في المزرعة”.

قالت مستغربة:

“حسبت أنك قادم من هناك”.

قلت:

“نعم, كنت هناك”.

سألت باستغراب أشد:

“ولمَ لم تحضرا معك مباشرة؟”

قلت مستغربا:

“ولمَ؟؟”

بدا القلق على وجه أم حسام مع بعض الحيرة ثم قالت:

“ألن تصطحبوهما معكما؟؟”

قلت:

“كلا.. إنهما لن تسافرا معنا الآن”.

اتسعت حدقتا أم حسام واكفهرت ملامحها وقالت:

“لن تسافرا معكما؟؟ ماذا تقصد يا وليد؟؟”

قلت موضحا:

“لن تسافرا حاليا.. لكن.. ستلحقان بنا بعد فترة.. تودان البقاء في المزرعة أياما أخرى”.

تعبيرات وجه أم حسام ازدادت توترا واضطرابا وقالت:

“و… رغد؟؟”

فهمت منها إنها قلقة بشأن من سيعتني بالصغيرة وهي مصابة هكذا.. فقلت:

“لدينا خادمة لتساعدها”.

أم حسام قالت فجأة وبانفعال مهول:

“أتريد القول.. إنك.. ستسافر مع الفتاة.. بمفردكما؟”

ألجم السؤال لساني.. وفي ذات اللحظة رأيت أم حسام تهب واقفة وقد تناثر الشرر من حولها وتقول بصوت حاد:

“هل جننت يا وليد؟؟ تريد أن تأخذ الفتاة بمفردها إلى الجنوب؟”

وقفت تباعا وقد أصابني الذهول من أمر الخالة وأردت أن أتحدث غير أن كلامها اخترق المسافة الفاصلة بيننا بسرعة البرق وزلزلة الرعد…

“كنت أظن أن خطيبتك ووالدتها سترافقانكما كما في السابق…”

تدخلت بسرعة:

“ستلحقان بنا عما قريب.. وكذلك سامر.. لا يمكنني ترك العمل أكثر من هذا”.

ردت أم حسام:

“وتريد مني أن أترك ابنتي تسافر وتعيش هناك لوحدها معك؟؟ هل فقدت صوابك يا وليد؟؟”

ارتبكت واضطربت كل ذرات كياني.. تحول لوني إلى الأحمر وتفجرت قطرات العرق على جسمي كله.. حاولت النطق:

“خالتي”.

غير أنها قاطعتني بحدة وقالت صارخة في وجهي:

“كفى.. هذا ما كان ينقصني… لم يبقى إلا أن نترك ابنتنا تقيم بمفردها مع رجل غريب.. من تظن نفسك يا وليد؟؟ كيف تجرؤ؟”

تسمرت على وضعي مذهولا.. مكتوم النفس طائر الفؤاد محملق العينين… لا أكاد أفهم ما أسمع..

“خــــالـــ… ما.. ماذا… رجل غريب؟؟ أنا؟”

صاحت أم حسام بوجهي:

“نعم رجل غريب.. أتظن أن الوصاية على الفتاة تجعلك أباها حقا؟؟ أفق يا هذا… أم لأنها فتاة يتيمة وحيدة تظن أنه بإمكانك التصرف بشأنها كما يحلو لك وأن أحدا لن يوقفك عند حدودك؟؟ اصح يا وليد… يا محترم”.

تلقيت الكلام كصفعة قوية نارية على وجهي… النار كانت تشتعل في عيني أم حسام وفي صدرها النافث بالصراخ.. حملقت بها مذهولا.. غير مصدق لما أسمع.. ما الذي تقوله هذه المرأة؟؟

كان صدري لا يزال يحبس النفس الأخير الذي التقطته وسط النار.. أطلقت نفسي باندفاع وقوة وهتفت:

“ما الذي تقولينه يا خالة؟”

الغضب كان يتطاير من عينيها ومن عيني أنا تفجر بركان ثائر مدمر…

“ما الذي تظنينه بي؟؟ إنني أنا وليد.. ابن شاكر وندى… ولست إنتاج وتربية شوارع.. أنا تقولين لي هذا الكلام؟؟ لقد تربيت بين أبناءك وتحت ناظريك.. وكأنك لا تعرفين من أكون؟؟ أم لأنني دخلت السجن بضع سنين تظنين أنني خرجت منه فاسقا قذرا لا يعرف حدوده ويتجرأ على حرمات الغير…؟؟ إنها ابنة عمي.. دمي وحرمتي أنا.. والأمانة العظمى التي في عنقي.. كيف تجرئين على الظن بي هكذا؟؟ لن أغفر لك هذه الإهانة.. أبدا”.

وسرت مبتعدا عنها متجها إلى الباب… وفي طريقي اصطدمت بطارلة فما كان مني إلا أن رفعتها وقلبتها رأسا على عقب ورميت بها بقوة بعيدا…

فتحت الباب بقوة وصفعته بالجدار حتى كدت أكسرهما سوية.. ثم خرجت بسرعة مغادر المنزل… صادفت حسام عند البوابة… فدفعته بعيدا عن طريقي.. ثم ركبت سيارتي وانطلقت بأقصى سرعة.. نحو المطار..

************************

الرد باقتباس

{[ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ – إلهي لكـ الحمد والشكر نستغفركـ ياعفو ياغفور ]} 92

قديم(ـة) 11-07-2008, 02:36 AM

صورة مصيره لاذكر يشتاق الرمزية

مصيره لاذكر يشتاق مصيره لاذكر يشتاق غير متصل

©؛°¨غرامي فعال ¨°؛©

الافتراضي رد : رواية انت لي كامله من البدايه إلى النهايه

تتمـــــــــــــه

******************

ونحن نسير نحو غرفة المجلس سمعنا صوت انغلاق باب قوي.. اقشعرت له الجدران والثريات!

ابنتا عمي كانتا تتعاونان في حمل حقيبة سفري وأنا أسير بعكازي حاملة حقيبة يدي على كتفي إلى أن وصلنا إلى الباب.. الاثنتان عانقتاني وودعتاني وابتعدتا..

طرقت الباب الداخلي لغرفة المجلس بهدوء ثم فتحته وأطللت بعيني في شوق لرؤية وليد قلبي..

مسحت الغرفة بعيني وطولا وعرضا وارتفاعا.. ولم أعثر على وليد!

لكني رأيت إحدى الطاولات مقلوبة والتحف الزجاجية مكسورة على الأرض!

ورأيت خالتي تقف عند الباب الخارجي للمجلس, ثم رأيت حسام يدخل وهو يسأل:

“ماذا حدث؟؟”

وسمعت خالتي تسأله:

“هل خرج؟”

قال حسام:

“ضربني بيده وخرج! ماذا حل بهذا الرجل بحق السماء؟”

قالت خالتي وهي تغلق الباب وتقفله بعد دخول حسام:

“لا أعرف ممن ورث هذا المتعجرف غلظته! لا ياسر ولا شاكر رحمهما الله ولا سامر يحفظه الله فيهم شيء من الفظاظة.. بل هم في منتهى التهذيب واللطف والهدوء.. أما هذا.. أعوذ بالله! متوحش وأخرق… انظر ماذا فعل؟”

وهي تشير إلى الأرض…

فتحت أنا الباب وتقدمت إلى الداخل في قلق وتساؤل… وأخذت أحدق في خالتي وأسأل:

“ماذا حدث؟”

وكان وجه خالتي يتقد احمرارا فرمقتني بنظرة صامتة ثم انحنت إلى الأرض ترفع قطع الزهرية المكسورة.

عدت وسألت:

“أين وليد؟”

أجابت وهي لا تنظر إلي:

“غادر”.

ماذا؟؟ غادر؟؟ ماذا تعنين بغادر؟؟

سألتها:

“غادر؟؟”

قالت بغضب:

“نعم غادر.. عسى ألا يعود”.

هتفت بقوة:

“أعوذ بالله… لماذا ياخالتي؟؟.. ماذا حصل؟؟”

قالت وهي ترفع نظرها إلي وتتكلم بعصبية:

“إنه مجنون… لا يعرف حدود نفسه.. يظننا سنتركه يتصرف كيفما يريد.. متسلط فظ وعنيف.. من أين أتى بكل هذه العجرفة والوحشية؟”

حسام عقب مباشرة:

“من السجن قطعا”.

اشتططت غضبا وانفجرت بشدة:

“لا تتحدثا عن وليد هكذا… لا أسمح لكما..”

ثم تقدمت نحوهما وقلت:

“أخبراني ماذا حصل؟؟”

قال حسام:

“ألا ترين؟”

مشيرا للطاولة المقلوبة على الأرض.. والزجاج المتناثر حولها…

قلت:

“وليد فعل هذا؟”

ووجهت خطابي لخالتي التي لا تزال جاثية على الأرض تلملم ما تبعثر..

“لكن لماذا؟؟ ماذا حدث؟؟ هل تشاجرت معه؟”

خالتي وضعت ما بيدها جانبا ووقفت وقالت:

“نعم تشاجرت معه.. وغضب وصرخ في وجهي وقلب الدنيا رأسا على عقب وخرج ثائرا كالبركان”.

قلت بسرعة:

“ماذا قلت له؟ هل أهنته ثانية؟؟ خالتي..!! إلى أين ذهب الآن؟”

ردت بحدة:

“إلى حيثما ذهب… بلا رجعة”.

هتفت منفعلة:

“بعد ألف شر… خالتي لا تقولي هذا ثانية يكفي أرجوك”.

وعمدت إلى حقيبة يدي واستخرجت هاتفي واتصلت بهاتف وليد..

كان الهلع ينخر رأسي بشراسة وما إن رن الهاتف حتى كان قد أتى على قواي الذهنية كاملة…

الهاتف رن مرة ثم مرة أخرى ثم انقطع الاتصال.. عاودت الاتصال فوجدت الهاتف مغلقا.. كررت الاتصال عدة مرات.. الهاتف ظل مغلقا..

قلت أخاطب خالتي:

“أغلق هاتفه”.

ثم سرت نحو هاتف المنزل الموضوع على منضدة في الجوار واتصلت برقم وليد مرات أخرى.. دون جدوى..

قلت بعصبية:

“الهاتف مغلق يا خالتي ماذا قلت له؟”

خالتي تنهدت ثم قالت:

“اعترضت على سفرك معه”.

صدمت.. حملقت فيها مندهشة وسألت:

“ماذا؟؟ لكن لماذا؟؟ تعرفين أنه آتٍ لأخذي فماذا تغير؟”

قالت خالتي وقد عاد الانفعال على وجهها:

“لن أسمح له بأخذك معه يا رغد… ستبقين معي وتحت عيني.. سأضع حدا لجنون هذا المتسلط”.

تركتني خالتي في إعصار الحيرة والهلع واشتغلت بتنظيف وترتيب الطاولة وما حولها متجاهلة تساؤلاتي… مما زادني يقينا فوق يقين بأن ما حصل كان أمرا خطيرا…

“خالتي أرجوك أفهميني ماحدث؟؟ ماذا فعل؟ ماذا قلت له؟؟ بالله عليك أخبريني”.

وهذه المرة حسام ساندني وقال:

“أخبرينا بما حدث يا أمي؟”

خالتي قالت أخيرا:

“تصورا.. كان يريد أخذ رغد بمفردها إلى بيته! دون خطيبته ولا والدتها..! يظن أن الوصاية كافية لتجعله مثل أبيها.. يقيم معها بمفرده أينما يريد”.

هتف حسام مستنكرا:

“ماذا ماذا؟؟ يقيم معها بمفرده هكذا بكل بساطة؟؟ يا سلام! من يظن ذلك المعتوه نفسه ؟؟”

خالتي قالت:

“وبكل جرأة يخبرني بأن خطيبته لن تسافر معه.. بلا حياء ولا لياقة.. ولما اعترضت ثارت ثائرته وزلزل المنزل.. وقلب الطاولة بالتحف… المجنون!”

تسمرت في مكاني مصعوقة بما أسمع.. ثم قلت:

“لكن.. لكن.. إنه.. إنه الوصي علي”.

قالت خالتي بغضب:

“الوصي عليك شيء وأن يقيم معك بمفردكما في بيته شيء آخر…”

قلت مذهولة:

“خالتي!! إنه ابن عمي”.

ردت مقاطعة:

“وحتى لو كان ابني… مجنونة أنا كي أدعك تقيمين بمفردك مع رجل غريب؟ حتى لو كان حسام أو أبا حسام.. هذا ما كان ينقصنا.

قلت وأنا في ذهولي:

“ألا… تثقين به؟”

ردت:

“أثق بمن؟؟ بهذا؟؟”

وهي تشير إلى موضع الطاولة… ثم أضافت:

“المتوحش المتعجرف خريج السجون؟؟”

عندها صرخت من أعماق قلبي:

“يكفي… يكفي… لا تتحدثي عنه هكذا… لا أسمح لكم بإهانته… لا أقبل أن تصفوه بهذا… أنتم لا تعرفون شيئا…”

والتقطت السماعة واتصلت من حديد وللأسف كان هاتف وليد مغلقا… أعدت الاتصال مرة ومرتين ومئة.. والهاتف لا يزال مغلقا…

ياإلهي.. وليد قلبي غاضب ولا يريد التحدث معي؟؟

نظرت إلى الساعة.. الوقت يمر ومن المفترض أن نكون في الطريق إلى المطار…

اتصلت بهاتف سامر ولما رد علي قلت باضطراب:

“هل وليد معك أو اتصل بك؟؟”

استغرب سامر السؤال فسألني:

“لا! غادر منذ الظهيرة… أليس في المزرعة؟؟”

قلت بتوتر:

“كان هنا في بيت خالتي ليصطحبني إلى المطار, لكنه غادر من دوني.. أتصل به ولكنه مغلق هاتفه.. أرجوك حاول التصال به وبالمزرعة واطلب منه مهاتفتي فورا…”

سألني وقد تجلى القلق في نبرته:

“هل حدث شيء يا رغد؟؟”

نظرت نحو خالتي وأجبت:

“تشاجر مع خالتي.. لكن أرجوك قل له أن يتصل للضرورة”.

صمت سامر لحظة ثم قال:

“حسنا”.

وأنهيت المكالمة وبقيت جالسة على الجمر المتقد أنتظر اتصال سامر, وهاتف المنزل وهاتفي المحمول كلاهما في حظني… فيما عيناي محملقتان في ساعة يدي…

مرت الدقائق تلحق بعضها بعضا… والهاتفان لا يرنان…

لم أطق صبرا حاولت الاتصال بوليد دون جدوى واتصلت بسامر فقال إنه لم يجده في المزرعة وأن هاتفه المحمول مغلق طوال الوقت…

في هذه اللحظة حضر زوج خالتي وعلم بما حصل وبدوره صار يحاول الاتصال بوليد عبر هاتفه بلا فائدة…

مضى الوقت.. ولا من خبر من أو عن وليد..

نبضات قلبي آخذة في التباطؤ.. أطرافي ترتجف خوفا وقلقا..

أنظاري متمركزة على الهاتفين وعلى الساعة.. والآن لم تعدعيناي بقادرتين على الرؤية… الضباب كثيف.. لا بل هي قطرات الندى.. لا بل الدموع… تريد الانطلاق من محجري…

وبعد ما يفوق الساعة… رن هاتفي المحمول… نظرت إلى الشاشة فرأيت اسم سامر…

أجبت بسرعة:

“نعم سامر هل كلمته؟؟”

قال:

“كلا.. إنني الآن عند باب المنزل”.

“المنزل؟”

“أعني منزل خالتك… هل حسام هناك؟”

وطلبت من حسام الذهاب لاستقبال سامر… غادرت خالتي المجلس وعاد حسام مع سامر… والأخير بدأ التحية والسؤال عن الأحوال ثم سألني مباشرة:

“ماذا حدث؟؟”

قلت بشكل غير مرتب:

“خرج غاضبا… إنها خالتي… إنه موعد إقلاع الطائرة… هل سافر بدوني؟؟”

رآى سامر اضطرابي فحاول تهدئتي ثم قال:

“لن يفعل ذلك… لكن أخبريني ما الذي حدث بالضبط؟”

قلت منفعلة:

“خالتي تشاجرت معه… إنها يقسون عليه ولا يحترمونه ولا يثقون به”.

أبو حسام قال مدافعا:

“ليس الأمر كذلك لا سمح الله.. أنه ابننا مثل حسام ومثلك يا سامر ولكن أم حسام جن جنونها مذ رأت الفتاة بالعكاز والجبيرة… تعرف كم تحب ابنة أختها وتقلق عليها ولا تريدها أن تبتعد عنها”.

قلت بغضب:

“لكن لا ذنب لوليد فيما حصل لي… لماذا تنظرون إليه هكذا؟؟ إنه يعتني بي جيدا ويعاملني بكل احترام وحنان وأدب… وأنا لا أسمح…لا أسمح..”

وأخذت شهيقا باكيا ثم زفرت نفسي مع دموعي:

“لا أسمح لأحد بأن يهينه… ولا أقبل بأن ينعته أحد بالمجرم… أنتم كلكم قساة… كلكم بلا مشاعر… كلكم ظالمون”.

انخرطت في بكاء لم أبك مثله أمام أحد مسبقا… غير نهلة…

الثلاثة… سامر وحسام وأبوه التزموا الصمت للدقائق الأولى… ثم تحدث سامر مخاطبا الآخرين:

“بعد إذنكما… هل لي بحديث خاص مع ابنة عمي؟”

وشعرت بهما يغادران… ثم شعرت بسامر يقترب مني وسمعته يناديني…

مسحت دموعي ونظرت إيه فقال:

“أفهميني يا رغد… ما الذي يدور ها هنا؟؟”

قلت مقاطعة:

هل تعتقد أنه سافر؟”

سامر قال:

“لا. كيف سيسافر ويتركك؟”

قلت:

“إذن لماذا أقفل هاتفه؟؟ انظر إلى الساعة.. لا شك أن الطائرة قد أقلعت منذ فترة…”

ولمعت في رأسي فكرة فقلت:

“اتصل بالمطار وأسأل عنه”.

وأنا أراقب سامر وهو مشغول بطلب الرقم تلو الآخر… سمعته أخيرا يتحدث إلى الطرف الآخر باهتمام, ثم شكره وأغلق الهاتف…

نظر إلي وعيناي متعلقتان به بلهفة… ثم قال:

“يبدو… أنه سافر بالفعل يا رغد”.

“سافر؟!”

قال سامر:

“الموظف أكد لي أن اسم وليد شاكر جليل… أدرج مع قائمة أسماء المسافرين الذين ركبوا الطائرة المتجهة إلى الجنوب”.

نظرت إليه بتشتت… بضياع بعدم تركيز.. بعدم تصديق.. بانهيار..

“لا!”

سامر كان ينظر إلي بقلق وخوف…

قلت:

“وأنا؟؟”

لا زال سامر ينظر إلي.. والتعاطف ينبثق من نظراته…

كررت:

“وأنا؟؟ ماذا عني أنا؟”

سامر قال:

“وليد لن يفعل شيئا كهذا لسبب تافه… أخبريني ماذا حصل بالتفصيل يا رغد”.

قلت وأنا أنهار:

“لا أعرف.. أخبروني بأنه وصل.. فأتيت إلى هنا ولم أجده.. رحل فجأة.. تشاجر مع خالتي في دقائق معدودة.. وغادر غاضبا.. خالتي أهانته.. لا أعرف ما قالت بالضبط لكنها عارضت سفري معه بدون الشقراء.. لا بد أنها رمته بألفظ قاسية.. إنها تكرهه ولا تثق به.. تعيّره بالمجرم.. وتنعته بالمتوحش وخريج سجون.. وكلمات جارحة ومهينة… آه يا إلهي.. وليد لا يستحق هذا..”

وأخفيت وجهي خلف يدي اليسرى من مرارة الموقف.. وعصرت عيني دموعا شجية…

أحسست بشيء يلامس يدي ففتحت عيني ورأيت منديلا تمده يد سامر نحوي..

“هوني عليك يا رغد”.

قال سامر مواسيا..

أخذت المنديل ومسحت دموعي ثم قلت:

“ماذا أفعل الآن؟”

قال سامر مطمئنا:

“عندما يصل إلى المنزل سنهاتفه… لا بد أنه كان غاضبا… لكنه سيهدأ”.

قلت بلهفة:

“هل تظن أنه سيعود؟”

قال:

“بل أنا على يقين من ذلك.. اطمئني..”

ثم أطرق برأسه إلى الأرض وشرد قليلا… ثم قال:

“لم أكن أعلم بأنهم يسيئون إلى أخي…”

نظرت إليه فإذا بالاستياء البالغ يعشش على قسمات وجهه وإذا بكفيه ينقبضان بشدة غضبا…

نظر إلي وألقى علي سؤالا:

“أأنت من أخبرهم عن سجنه؟؟”

أطرقت برأسي… وأومأت نفيا… وكانت نظرات الاتهام تشع في عينيه… وقبل أن أتكلم سمعنا صوت خالتي تلقي بالتحية وهي تطل علينا عند الباب… التفتنا إليها فإذا بها تقبل يتبعها حسام يحمل صينية أكواب الشاي…

وبعد حوار سريع وسطحي سألت:

“هل رد عليكم؟”

قال سامر:

“ليس بعد فهو في الطائرة الآن”.

قالت:

“إذن فقد سافر”.

ثم أضافت:

“رافقته السلامة”.

لم أحتمل ذلك.. هببت واقفة هامة بالانصراف… فإذا بسامر يهب واقفا هو الآخر ويستأذن للمغادرة…

ناداه حسام:

“والشاي؟؟”

فرد مقتضبا:

“في مناسبة أفضل”.

وغادر المكان…

في الردهة… رأيت حقيبة سفري لا تزال واقفة قرب الباب.. تنتظرني.. أشحت بوجهي بعيدا عنها فاستقبلتني أعين ابنتي خالتي اللتين تقفان على بعد تراقبانني…

وبعد عناق الأعين جاء دور عناق الأذرع والأحضان…

وليد قلبي… سافر ليس فقط من دوني.. بل ودون وداعي.. ودون أن يكلمني.. ودون أن تقع عيناي عليه ولو لنظرة أخيرة..

تسع ساعات وأنا أحاول الاتصال بشقيقي من حين لحين وبجميع الأرقام التي لدي دون نتيجة..أخذ القلق يتفاقم في صدري, خصوصا وأن رغد تتصل بي مرارا وتهول الأمر.. حتى أنها أقترحت علي مهاتفة صديقه سيف غير أنني عارضت الفكرة وطلبت منها الانتظار حتى صباح اليوم التالي

رواية انت لي

الحلقة الخامسة و الاربعون الجزء 2

وفي الصباح اتصلت بهاتفه فوجدته لا يزال مغلقا, وبالمنزل فلم يجبني أحد, ثم بهواتفه المباشرة في مكتبه في مقر عمله, فأخبرت وبأنه قد اتصل بهم قبل فترة وأبلغهم عن عودته من السفر…

على الأقل أعرف الآن أنه وصل إلى المدينة الساحلية بسلام..

اتصلت برغد وأخبرتها بالجديد وكنت أظن أنها سترتاح للخبر غير أنها انزعجت وحزنت كثيرا…

كان أخي قد قضى في شقتي عدة أيام وقد كانت أياما جميلة أنعشت في صدري الذكريات الماضية التي لن تعود.. الجميلة والمؤلمة معا.. وكان أشدها إيلاما هي ذكريات والدينا رحمهما الله…

لم تمض سنة بعد على مصرعهما.. والنار لا تزال تتأجج في صدري.. ولن تخمد أبدا..

وهو السبب الأول الذي كان يمنعني من العودة إلى المدينة الساحلية والعيش في بيتنا القديم المليء بالذكريات.. مع شقيقي الذي ما فتىء يطلب مني هذا..

أما الثاني فهو بلا شك رغد…

وفي هذه المرة ألح علي شقيقي للسفر معه وأبلغني بأن خطيبته لن ترافقه وبأنه لا يستطيع ترك رغد في بيت خالتها فهي بحاجة لمتابعة العلاج وكذلك الدراسة..

وقد خططت جديا للحاق به عما قريب.. خصوصا وأنا أرى أنه من الأفضل لي الابتعاد عن هذه المدينة لبعض الوقت..

أثناء وجودي في مقر عملي في المدينة التجارية عاودت الاتصال بهاتف شقيقي وللمفاجأة كان مفتوحا.

رن عدة مرات قبل أن يجيب وليد أخيرا:

“السلام عليكم”.

“مرحبا سامر… وعليكم السلام ورحمة الله”.

وكان صوته منهكا:

“كيف حالك؟ وحمدا لله على سلامة الوصول”.

“سلمك الله”.

يرد بجمل قصيرة وعلى عجل.

سألته:

“ما هذا يا وليد! ألف مرة أتصل بك وهاتفك مغلق؟”

“نعم. لقد تركته مغلقا منذ الأمس”.

سألت:

“أقلقتنا.. ماذا حصل؟ هل أنت بخير؟”

“نعم.. نعم”.

قلت:

“تبدو مشغولا”.

أجاب:

“أجل..”

قلت:

“حسنا.. سأتصل لاحقا.. أرجوك لا تغلق الهاتف..”

“حسنا”.

وانهينا المكالمة ومباشرة هاتفت رغد وأخبرتها فأبلغتني بأنها ستتصل فورا.

بعد قليل اتصلت بي وأخبرتني بأن وليد لا يجيب. أبلغتها بأنه مشغول واقترحت عليها الاتصال بعد ساعة أة أكثر.. واتصلت بي بعد ساعة ثم بعد ساعة أخرى تخبرني بأنها كلما اتصلت بهاتف وليد وجدته مفتوحا ولكنه لا يجيب.

على هذا النحو مر ذلك النهار وفي الليل اتصلت به ودار بيننا حديث قصير امتنع فيه وليد عن ذكر ما حصل يوم أمس. أظهر لامبالاة غريبة عندما حدثته عن رغد.

باختصار.. شقيقي كان غاضبا جدا من عائلة الخالة أم حسام بما فيهم رغد ولا يرغب في الإتيان بذكر أي منهم.. على الاطلاق..

كان هذا غريبا لكن الأغرب.. أنه وبعد يومين بعث إلي بظرف عبر البريد الجوي الموثق… يحوي وثائق هامة… طلب مني الاحتفاظ بها… وأخبرني بأنه مسافر إلى خارج البلاد للاستجمام.

الظرف كان يحوي تقريرا طبيا مفصلا عن إصابة رغد.. وصورا لبطاقته العائلية الشاملة لاسم رغد.. وشيكا مصرفيا بمبلغ كبير.. وتوكيلا مؤقتا باسمي لأتولى الوصاية على رغد..خلال الفترة التي سيقضيها في الخارج…

هكذا سافر وليد قبل أن يترك لنا المجال للاستيعاب…

ويمكنكم تصور وقع نبأ كهذا على الفتاة التي كانت تحترق رمادا من أجل مهاتفته.. والتي تتلوى شوقا لعودته.. وتتصل بي عشرات المرات من السؤال عنه..

عندما رأيت ما حل بها.. تقلبت في مخيلتي ذكريات قديمة أخرى.. كانت مركونة بإهمال في إحدى نتوءات دماغي.

حدث ذلك قبل تسع سنين عندما كنا في المدينة الساحلة في بيتنا القديم.

بعد أن غادر وليد المنزل, أصيبت رغد بحالة افتقاد مرضية إله.. في تلك الفترة رفضت الذهاب إلى المدرسة وصارت تلازم والدتي كالظل حتى في النوم وتراودها الكوابيس المفزعة وتصحو من النوم مفزوعة وتصرخ (أريد وليد.. أريد وليد)

كانت أشبه بالمذعورة وقد أدخلناها للمستشفى بسبب رفضها للطعام وزاد الأمر سوءا الحرب والتدمير الذي تعرضت له مدينتنا وجعل الناس جميعا يعيشون حالة ذعر هستيري.

ومن سيء إلى أسوأ تدهورت حالتها حتى قرر والدي رحمه الله الهجرة إلى الشمال الذي كان ينعم بأمان حتى العام الماضي..

ومن سيء إلى أسوأ تدهورت نفسية رغد بعد سفر وليد المفاجىء هذا ووجدت نفسي أعاصر إحدى أسوأ الفترات العصبية التي عاشتها من جديد…

******************************

منذ ذلك اليوم المشؤوم… الذي رحل فيه وليد بعد شجاره معي… ووالدتي طريحة الفراش في المستشفى والأطباء قرروا إجراء عملية جراحية لقلبها المريض.. أخيرا…

كان خالي يواضب على الاتصال بوليد الذي لم يكن يجيب… حتى رد اليوم وأبلغ خالي بأنه مسافر إلى خارج البلدة لبضعة أسابيع.

تدهورت صحة والدتي لما علمت بالخبر من خالي.. وها نحن نجلس إلى جانبيها في غرفة العناية القلبية المركزة.. والطبيب يبقي كمامة الأوكسجين على وجهها ويمنعها عن بذل أي مجهود يتعب قلبها.

أنا أمسكبيدها أضمها إلى صدري وأقبلها وأدعو الله أن يشفيها عاجلا…

التفت والدتي إلي وسألتني:

“ألم تتصلي بزوجك؟”

فأجبتها:

“كلا”.

فقالت:

“هل يعلم بأنني في المستشفى؟”

فقلت:

“نعم. فقد أخبره خالي بذلك”.

ونظرت إلى خالي الذي حرك رأسه مؤيدا. فقالت أمي:

“إذن لماذا لا يحضر لزيارتي؟ ليس من عادته التخلف في موقف كهذا”.

أجاب خالي:

“لأنه مسافر حاليا”.

فنظرت إلي وشدت على يدي وقالت:

“يا ابنتي.. هل تخفين عني شيئا؟”

فقلت:

“كلا”.

ولكنها بدت متشككة واستدرت إلى خالي وسألت:

“هل تخفون عني شيئا يا أخي؟”

فقال أخي:

“ربما حصل شيء.. بعد ذلك الشجار… ربما وليد نفذ ما طلبته أروى… لا أريد أن أرحل وأنا غير مطمئنة على ابنتي”.

قربت رأسي من رأس أمي وأخذت أحضنها وأقبلها وأقول:

“لا تقولي هذا يا أمي أرجوك”.

وهي تتابع:

“الأعمار بيد الله.. نسأله حسن الخاتمة”.

فلم أتمالك نفسي وفاضت الدموع في عيني.. وقلت:

“أرجوك يا أمي لا تتحدثي هكذا.. شفاك الله ومد في عمرك.. أنا من لي غيرك في هذه الدنيا؟”

وأحسست بيدها تمتد وتلامس يدي ثم سمعتها تقول:

“لا زوجك.. وخالك.. يرعاكم الله”.

ثم التفتت إلى خالي وقالت:

“أخي يا قرة عيني.. أحضر وليد وصالحهما أصلح الله لك آخرتك.. الشاب جيد ومن خيرة الرجال وأنا ما كدت أصدق أنني وجدت من أستأمنه على ابنتي مهجة قلبي”.

خالي مسح على رأس أمي وقال:

“لا تشغلي بالك بهذه الأمور يا أم أروى هداك الله.. إنه شجار عابر يحصل بين أي زوجين وينتهي”.

لكن أمي أبدت عدم التصديق مخاطبة خالي:

“لا تدعه يذهب يا إلياس.. ما كان نديم ليطلب من شخص عادي أن يهتم بعائلته”.

ثم التفتت إلي وقالت:

“لو لم يكن رجلا بمعنى الكلمة.. لما تمسك بالمسؤولية عن ابنة عمه اليتيمة بهذا القدر”.

وشددت على يدي وقالت:

“تمسكي به يا أروى.. لا تفرطي به.. يهديك الله”.

حصلت على أقرب موعد ممكن مع أحد أطباء العظام في إحدى المستشفيات الكبيرة في المدينة الصناعية واليوم سآخذ رغد من أجل المعاينة ومتابعة العلاج.

استخرجت الظرف الذي أرسله لي شقيقي قبل سفره وقلبت الأوراق لاستخراج التقرير الطبي.

وأثناء ذلك اطلعت على مجمل الأوراق وبشكل أخص على ورقة التوكيل.

كانت ورقة رسمية وموثقة من قبل مكتب المحامي يونس المنذر وهو شخص سبق لوليد وأن أخبرني بأنه يعمل معه في المصنع.

ذكر في هذا التوكيل أمورا كثيرة يفوضني لتوليها وفي الأسفل ذكرت جملة الاستثناءات.. وفي الواقع لم يكن هناك غير استثناءين اثنين…

الزواج والسفر!

ويحك يا وليد!

وهل تظن مثلا بأنني سأستخدم هذا التوكيل وأعيد رغد إلى ذمتي وأهرب بها بعيدا؟؟

ليتني أستطيع ذلك..

أخذت أوراق التقرير الطبي وذهبت إلى بيت أبي حسام.

تمنيت أن أقابل رغد بحالة أفضل ولكنها كانت بحالة يرثى لها..

“لا أريد أن أذهب إلى أي مكان… ومن فضلك يا سامر لا تضغط علي…”

هذا ما استقبلتني به فقلت:

“بربك رغد! لا بد من معاينة إصابتك ومتابعة علاجك. بل إنني أخشى أن نكون قد تأخرنا ويصيب قدمك أو يدك شيء لا قدر الله”.

قالت بلا مبالاة:

“لا فرق عندي”.

لن أبذل الجهد في محاولة تشجيعها فنبرتها أشد كآبة من أن تتغلب كلماتي عليها…

لكنني قلت برجاء:

“يا رغد.. يجب أن نزور الطبيب حتى تتخلصي من هذا العكاز وهذه الجبيرة.. هل يعجبك أن تظلي معاقة عن الحركة الطبيعية وحتاجة لمساعدة الآخرين في أبسط الأشياء؟”

وكانت الآنسة نهلة تجلس معنا وسترافقنا إلى المستشفى, فقالت مشجعة رغد:

“على العكس. أنها تريد التخلص من هذين بسرعة. أليس كذلك؟ اشتاقت إلى الرسم ونتوق لفنها الرائع! هيا بنا عزيزتي”.

لكن ردة فعل رغد جاءت عنيفة!

انفجرت صارخة:

“قلت لكما اتركاني وشأني… لا أريد الذهاب إلى أي مكان… إلا إذا شئتما حملي إلى المقبرة ودفني تحت الأرض… لأرتاح وأريحكم جميعا…”

قالت الآنسة نهلة بعد الدهشة:

“بعد ألف شر! لا تتكلمي هكذا يا رغد”.

فردت رغد بانفعال:

“ما لم يعجبكم كلامي فحلوا عني… لماذا تضغطون علي؟؟ أتركوني وشأني… أتركوني وشأني..”

وهمت بمغادرة المجلس حيث كنا هي وأنا والآنسة نهلة جالسين… في ذات الوقت دخلت الخالة أم حسام الغرفة وهي تنظر نحو رغد ويظهر أنها سمعت صوتها الصارخ وكلامها الزاجر…

لما رأت رغد خالتها تصرفت بعصبية أكبر وغيرت اتجاه سيرها واستدارت نحو الباب الخارجي للمجلس وخرجت إلى الفناء…

أم حسام لحقتها بسؤال:

“إلى أين يا رغد؟”

والأخيرة ردت بحدة:

“إلى حيث ألقت”.

وهذه إجابة وبأسلوب لم أعهده على رغد. فهي لطالما كانت تحب خالتها وتعاملها بكل احترام ومودة كما وأن رغد فتاة مهذبة وهادئة الطباع وراقية الأسلوب.

هذا تحول غريب في شخصيتها صبغها به حزنها وغضبها بسبب سفر وليد.

وبعد أن انصرفت رغد خاطبتني الخالة متسائلة:

“هل وافقت؟”

فأجبت إجابة مخيبة:

أبدا. لم تعرني أذنا صاغية. جل ما أخشاه هو أن تتطور إصابتها للأسوأ لا قدر الله”.

فقالت الخالة آسفة:

“إنها لا تستمع إلي وترمقني بنظرات الاتهام وتشعرني بأنني ارتكبت جريمة عظمى في حقها. أيرضيك أن ندعها تسافر مع وليد بمفردهما؟؟ هل هذا يليق؟؟”

ولم أشأ فتح المجال لها لإدارة موضوع هكذا الآن, وفي خاطري نقمة على المعاملة السيئة التي عومل بها شقيقي من قبلها وآثرت أن أصرف الاهتمام إلى إصابة رغد فقلت:

“سألحق بها وأحاول إقناعها… على الأقل ولو بزيارة واحدة للطبيب الآن”.

ونهضت واستأذنت وخرجت إلى الفناء أتعقب رغد.

فوجدتها تسير ببطء بعكازها متغلغلة في الحديقة حتى وقفت عند إحدى الأشجار الباسقة فاستندت إليها وأطلقت بصرها نحو الأعلى.

توقفت على بعد مترين أو أكثر منها ثم سألتها:

“أيمكننا التحدث؟”

ردت بضيق:

“أرجوك لا تتعب نفسك وتتعبني… لن أذهب إلى المستشفى ولا يهمني ما يحل برجلي ولا بيدي… لن أخسر شيئا إن فقدتهما أيضا إزاء كل ما فقدت”.

الحزن بلغ بها لهذا الحد… وحزنها يعصرني… قلت بلطف مشجعا:

“أنت لم تخسري شيئا يا رغد…”

فرمتني بنظرة قوية وقالت:

“ما حجم الخسارة التي تريدون مني فقدها حتى يمكنكم رؤيتها؟؟”

رددت:

“لا أحد يريد لك خسارة شيء… رغد لا تنظري للأمر هكذا”.

وضغطت على أعصابي وأضفت:

“إنه سافر مؤقتا ولم يرحل عن الدنيا لا سمح الله”.

وأخذت تعبيرات وجهها تنهار شيئا فشيئا… وتابعت:

“وسيعود حتما بإذن الله.”

أطرقت برأسها وقالت نافية:

“لن يعود… لقد تخلى عني… أخلف بوعده… إنه دائما يخلف بوعوده…. لطالما كان يتركني ويسافر بعيدا… يظن أنني سأبقى حية لحين عودته ذات يوم… لا يعرف أنني سأموت عاجلا بسببه”.

عضضت على أسناني بمرارة وتحملت الألم وقلت:

“بعد ألف شر وشر… لا تكوني متشائمة هكذا… لقد أخبرني بأنه سيقضي بضعة أسابيع للاستجمام هناك ثم سيعود”.

قالت مصرة:

“لن يعود إلي… ألم ينقل كفالتي إليك؟ تبرأ من مسؤوليتي… انتهينا”.

وكم ألمت لألمها وتجرعت مرارتها. عقبت:

“الوصاية التي أسندها إلي جزئية ومؤقتة. لا تخشي… ستعودين إلى كنفه ورعايته فور مجيئه”.

ولكن رغد أومأت برأسها عدم التصديق وبأسى قفلت:

“بلى… ولكن… هل أنا سيء لهذا الحد؟؟”

هنا حملقت بي وكأنها للتو تدرك أنني سامر خطيبها السابق والذي يحبها كثيرا…

تبدلت سحنة وجهها وقالت بصوت كئيب:

“أنت… أعز إنسان على قلبي… سامحني…”

وكانت تقول بمرارة وندم… وقد تكون اللحظة الأولى التي تكتشف فيها رغد كم قست علي وجرحتني وإلى أي عمق طعنت قلبي…

تابعت رغد:

“ليته لم يظهر في حياتي من جديد… ليتني لم أقترب منه… كم أنا حمقاء… حمقاء وغبية وواهمة… أتعلق بالأوهام… والخيالات المستحيلة… وواقعي… فتاة يتيمة وحيدة بائسة معدمة…”

وضربت بعكازها جذع الشجرة وتابعت:

“ومعاقة وعاجزة وعالة على الآخرين”.

قلت معترضا:

كفى يا رغد… لا تصفي نفسك بهذا وأنت العزيزة الغالية وكلنا رهن إشارتك”.

لكنها واصلت بكآبة:

“ما الذي كنت أتوقعه لنفسي؟؟ البلهاء… ما الذي كان سيجعله يختارني؟؟ ما الذي لدي ويستحق العودة من أجله؟؟ ماذا أملك أنا ليعجبه؟؟ أنا لم أثر لديه إلا الإزعاج والقلق والمشاكل…”

وأضافت:

“وبعد كل هذا… تأتي خالتي وعائلتها ويهينونه في بيتهم وعلى مرأى ومسمع مني… كيف أنتظر منه أن يعود من أجلي؟؟ يا لي من حمقاء… غبية”.

قلت:

“هوني عليك أرجوك… لم كل هذا؟؟ بالله عليك… إن هي إلا فترة مؤقتة ويعود ونصلح الشروخ الحاصلة بين الجميع.. ليس شقيقي من النوع الذي يهرب من المسؤوليات والشدائد بل هو أهل لها”.

فقالت منفعلة:

“إذن لماذا لا يرد على اتصالاتي؟؟ لماذا قاطعني؟؟”

أجبت محاولا تحسين الموقف وتبريره:

“تعرفين… إنه غاضب ولا يحسن المرء التصرف في ثورة الغضب. عندما يهدأ سيتصل بك”.

فقالت:

“ما ذنبي أنا؟؟… لماذا يشملني في غضبه ومقاطعته؟”

قلت:

“أعذريه يا رغد… ربما كانت خالتك بالغة القسوة عليه”.

قالت:

“كلهم قساة… وليد أشرف وأرقى منهم جميعا… سوف لن أغفر لهم إهانتهم له… وإذا لم يعد ويأخذني معه فسوف لن أبقى في هذا المنزل… وسأعود إلى بيتي المحروق وأدفن نفسي تحت أنقابه”.

يتضح لكم مدى الاكتئاب الذي ألم برغد جراء سفر وليد… لم أفلح يومها في إقناعها بالذهاب إلى المستشفى وحالما عدت إلى شقتي هاتفت شقيقي وأبلغته عن هذا فوبخني وألقى بالمسؤولية علي وقال لي بالحرف الواحد:

“أنت المسؤول عنها الآن ويجب أن تتصرف ولا تدع عنادها يتغلب عليك. أرحني من همها بضعة أسابيع لا أكثر فأنا قرحتي تكاد تمزق أحشائي”.

وفهمت من كلامه بأن وضعه الصحي متدهو وقلقت كثيرا… وربما يكون الطبيب هو من نصحه بالسفر والاستجمام بعيدا عن المشاكل والمسؤوليات من أجل صحته…

خصوصا وأنني لاحظت إكثاره من تناول الأدوية خلال فترة مكوثه في شقتي…

واهذا تحاشيت في المكالمات التالية وقدر الإمكان إبلاغه بالتفاصيل المزعجة عن وضع رغد وادعيت بأنها في تحسن بينما هي عكس ذلك…

إلى أن حل يوم احتد الجدال فيه بين رغد وخالتها واتصلت بي هي بنفسها وطلبت مني أخذها إلى المستشفى.

لم يكن هدفها هو المستشفى بل الابتعاد عن خالتها…

زرنا الطبيب وعاينها واطلع على تقاريرها وأجرى لها بعض الفحوصات ثم أخبرنا بأنه لا يزال أمامها أسابيع أخرى قبل أن يمكنها الاستغناء عن الجبيرة والعكاز…

وهذا خبر لم يزد رغد إلا كآبة ما كان أغناها عنها… فانزوت على نفسها في غرفتها بقية اليوم.

اتصلت بشقيقي مساءً وأعلمته بأننا زرنا الطبيب أخيرا وأخبرته بما قال, كما أوصاني مني مسبقا.. ولكنني أخفيت عنه مسألة الإحباط الشديد الذي ألم برغد وطمأنته على صحتها… وأذكر أنه يومها سألني بتشكك:

“لأا تخفي عني شيئا؟؟ هل حقا تقبلت النبأ؟”

فقلت له:

“أسألها بنفسك لتتأكد!”

قال:

“سأفعل, في الوقت المناسب”.

والله الأعلم متى يحين الوقت المناسب حسب معادلة وليد…!

ومرت أيام أخرى… والحال كما هي.

وليد غائب ويتابع أخبار رغد عن بعد ويرفض التحدث معها أو أقاربها أو عن شجاره معهم… وهي في كآبة مستمرة لا تعرف حتى البسمة السطحية إلى وجهها طريقا… إلى أن طلبت مني الخالة أن أزورهم ذات مرة…

“لا أفعل هذا إلا من أجل رغد… الفتاة تذبل يوما بعد يوم وأخشى أن تموت بين يدي… معاملتها ونظراتها لي كلها اتهام ونفور شديدين… وأنا لا أقوى على مواجهتها خشية أن يزداد الموقف حدة ولا أستطيع تحمل وضعها هذا… قلبي منفطر عليها ويكاد الشعور بالذنب يمزقني… أريد أن نتصالح مع وليد لأجلها وأن أفهمه أنني لم أقصد إهانته شخصيا بل توضيح حدود علاقته برغد… قل له أن يعود وإلا أنها ستموت أن بقيت على هذه الحال…”

قلت وأنا أعلم كم يرفض وبشدة الحديث عن أو مع عائلة الخالة:

“سأخبره عن رغبتك في محادثته حينما أتصل به”.

فقالت:

“اتصل به الآن يا سامر رجاء ودعني أكلمه”.

أحرجني الطلب فأذعنت له كارها واتصلت بشقيقي وبعد تبادل التحيات أخبرته بأنني في منزل أبي حسام وأن الخالة أم حسام ترغب وبشدة في التحدث معه, وبدوره أيضا وليد أحرجني جدا حيث قال:

“لا أرغب في التحدث مع أحد يا سامر.. البتة.. أرجوك أنهِ المكالمة”.

قلت ووجهي يحمر حرجا:

“ولكن..”

فقال:

“آسف يا سامر سأغلق الهاتف رجاء لا تكرر هذا ثانية. اعذرني ومع السلامة”.

وقطع الاتصال.

أبعدت الهاتف عن أذني وعيناي تطئان الأرض خجلا وأم حسام تراقبني ثم قالت:

“لم يشأ التحدث معي أليس كذلك؟”

قلت محرجا:

“إنه.. أعني..”

وطبعا أم حسام فهمت الأمر. قالت مستنكرة:

“ولكن ما هذا الطبع في أخيك؟ يجب أن يكون أرحب صدرا وأوسع بالا وأرقى ذوقا من هذا”.

في ذات اللحظة أقبلت رغد تدخل الغرفة سائرة بعكازها وعلى وجهها أمارات القلق والفضول…

لا بد أنها كانت تنتظر المكالمة بصبر نافذ… وبعد تحيتي سألت عما إذا كنا قد أفلحنا في الاتصال بوليد… فأطرقنا برأسينا… وفهمت رغد ما جرى… فطأطأت رأسها حزنا… وتراجعت للوراء…

أم حسام حاولت أن تطيب خاطر رغد فقالت:

“ربما لا يزال ناقما علي… سيبلغه سامر اعتذاري ويطلب الصفح بالنيابة عني… لا أظنه سيرفض اعتذاري هذه المرة”.

ولم تعر رغد الكلام أهمية واستدارت لتغادر يائسة… فقالت أم حسام مخاطبة إياي:

“أعد الاتصال به وأخبره بأن رغد هي من يرغب بالحديث معه”.

والتفت إلى رغد… موقفي صار غاية في الحرج… واتصلت فلم يرد.

وبقيت أنظار رغد وأم حسام تراقبان وتترقبان بأمل يائس… وضعت الهاتف أخيرا في جيبي وقلت:

“ربما انشغل”.

وهو مبرر ندرك زيفه ثلاثتنا… أم حسام قالت:

“بل ربما ينوي قطع الصلة بيننا نهائيا”.

فالتفتت رغد إليها وتكلمت منزعجة:

“يقطع صلته بنا؟ ماذا تعنين؟؟ كيف يقطع صلته بي أنا؟؟ إنني ابنة عمه… ومكفولته… لا يجوز له..”

قالت أم حسام:

“كما ترين, لا يريد أن يعطينا فرصة للتصالح معه بتاتا… فبماذا تفسرين هذا؟”

قالت رغد وقد علا صوتها واشتد احمرار وجهها واشتعل الغضب في عينيها:

“أنت السبب ياخالتي.. أنت السبب”.

ولم تعقب الخالة فاستمرت رغد في الاتهام:

“دفعته لأان يتركني ويرحل.. ماذا سيحل بي الآن؟”

قالت أم حسام بلطف محاولة تهدئة رغد:

“ستسير حياتك طبيعية بيننا والله يغنينا عنه وعن وصايته… سريع الغضب عنيف الرد…”

وفي الواقع لم يكن يجدر بها قول هذا على مسامعنا وفيما رغد على أهبة الانفجار…

اشتطت رغد غضبا وانتفخ وريد جبينها وهتفت بعنف:

“قلت لك لا تتحدثي عن وليد هكذا.. إذا لم يكن يعني لكم أنتم شيئا فأنا لا أستغني عنه.. ولا أريد وصيا غيره.. وسألحق به أينما ذهب.. ولا أحد له الحق في توجيه حياتي غيره هو.. وليس لأنني يتيمة الأبوين ستعبثون بي كما تريدون.. وإذا تخلى عني كليا فسوف لن أبقى معكم.. سوف لن أسامحكم أبدا لأنكم أنتم السبب.. وما لم تعيدوه إلي فسأخرج بنفسي للبحث عنه.. عسى ألا أعود حية بعد خروجي”.

وسارت نحو الباب وغادرت ثائرة…

خين الصمت بيننا أنا والخالة لبعض الوقت ثم إذا بها تقول:

“جن جنونها!!”

وبقيت صامتا.. فواصلت:

“لم أكن أتوقع أنها.. لا تزال مولعة به لهذا الحد.. حتى بعد كل تلك السنين”ز

أثارت الجملة جل اهتمامي وركزت النظر إلى عيني الخالة يعلوني التساؤل..

فقالت هي:

“عندما كانت صغيرة كانت مهوسة به للغاية, حسبناه تعلق طفولي لطفلة يتيمة تبحث عن الحنان.. وكان شقيقك يدللها كثيرا معه أينما ذهب.. والتك رحمها الله كانت قلقة بهذا الشأن.. وكانت تعتقد أنهما حين يكبران قد تتطور علاقتهما…

مع فلرق السن… لكن عندما غاب تلك السنين توقعنا أن تكون قد نسيته وانتهى كل شيء”.

ثم أضافت:

“لكن يبدو أن الحنين إلى الماضي قد اجتاح كل عواطفها ولا أعرف… إن كان الآن يعني لها وليد السابق أم أن الأمر قد تخطى ذلك بكثير…”

هنا وقفت شاعرا بالحرج والجرح معا… لم يكن ليخطر ببالي أن لهذا علاقة بالماضي البعيد… وقد أذهلني كلام الخالة وأرسلني إلى غياهب الأفكار…

لكن… ماذا عني أنا؟؟ لا يبدو أن أحدا يكترث لمشاعري أو يقيم لها اعتبارا…

يتحدثون معي عن رغد وكأنها لم تكن خطيبتي لسنين ولم أكن على وشك الزواج منها حين فقدتها فجأة…

“أستأذنك للانصراف الآن”.

ذهبت إلى شقتي كئيبا مكسور الخاطر… مشوش الأفكار…

لم يكن كلام خالتي يفارقني… ولم أستطع لا تصديقه ولا تكذيبه… كانت رغد طفلة صغيرة فكيف يمكن أن تكون قد أحبت وليد هذا النوع من الحب في ذلك الزمان؟؟

و… ماذا عن وليد؟؟ هل يعقل أن شيئا ما… كان بينهما حقا؟؟ هل يمكن أن يكون وليد… هل يمكن أن يكون هو أيضا…؟؟؟

يا للسخف…

تحاشيت التفكير قدر الإمكان إلى أن اتصلت بأخي لا حقا… في البداية عاتبته على إحراجي مع أم حسام فلم يكترث..

ثم نقلت إليه تحيات رغد وأشواقها الشديدة إليه وأنا أدوس على قلبي وأتصرف كالرجل الآلي تماما… ودققت في كلامه وردوده جيدا باحثا عن أي دليل يؤدي إلى تأكيد أفكاري أو نفيها… غير أن أخي كان يتحدث ببلادة شديدة.. لم تكشف لي أي شيء…

وأخيرا… داهمتني رغبة ملحة في توجيه سؤال مباشر إليه… غير أنه قال فجأة إنه يتلقى اتصالا آخر وأنهى المكالمة عاجلا…

قررت بعد ذلك مواجهته في الاتصال التالي لتتضح حقائق الأمور…

ولكن… وفي اليوم التالي مباشرة وفيما كنت أجلس في شقتي بكسل في عطلتي الأسبوعية رن جرس الباب وإذا بي أفاجأ بأخي يقف خلفه!!!

اهتز قلبي واصفر لوني وسألت وأنا بالكاد أخرج الحروف صحيحة من فمي:

:وليد!!!… مــــ… ماذا حصل؟؟”

فمد وليد يده وربت على كتفي وقال والخشوع والحزن يكسوان وجهه العريض:

“البقاء لله.. توفيت خالتي أم أروى بالأمس.. إنا لله وأنا إليه راجعون”.ْ

عرض التعليقات (6)