روايه انت لي الحلقه 47 جزء 1 و 2

15 14٬638
 

روايه انت لي الحلقه 47 جزء 1 و 2

روايه انت لي الحلقه 47 جزء 1

روايه انت لي الحلقه 47 جزء 1 و 2

روايه انت لي الحلقه 47 جزء 1 و 2 , معكم صديقة زاكي الشيف الموهوبة ,leen

رواية انت لي

الحلقة السابعة و الرابعون الجزء 1

تحت جنــاحك مهــما يكــــــــن

في طريق عودتنا من مكتب الشؤون المدنية القابع في المدينة الصناعية حيث استخرجنا بعض الوثائق اللازمة للعمل, مررنا على منزل خالة رغد وقال وليد إنه سيوصل إليها بعض الحاجيات. وبعدما إلى المزرعة لاحظت شرود وانشغال باله.

ولكي أكون دقيقة أكثر أقول إنني لاحظت ذلك منذ أن غلدر وليد منزل خالة رغد.

كان وليد قد عاد قبل يومين من المدينة الساحلة جالبا معه حقيبة عمله من الأوراق والوثائق المهمة التي يريد مني الاطلاع عليها وقبولها ورفضها.

حسابات… عقود… فواتير… مشاريع… وأشياء مزعجة اعتاد وليد على أن يقحمني فيها حينما كنا في المدينة الساحلية.

شؤون العمل هي كل ما دار نقاشنا حوله خلال الأيام القليلة التي قضاها هنا… ولم نتحدث عن أي شيء آخر… وكأننا لسنا خطيبين… فرقت بينهما عدة أسابيع والتقيا أخيرا…

وها هو الآن يستعد للمغادرة ويأخذ حقيبته من فوق المكتب ويخطو وسط الغرفة… باتجاه الباب.

كان يريد الذهاب إلى أخيه ليقضي الليلة معه وليصطحبه إلى المطار غدا.

كنت أراقبه بصمت وتأمل… ولاحظ هو تحديقي به فتوقف وسأل:

“أهناك شيء؟”

هناك أشياء كثيرة ولكن لا مجال لطرحها الآن.

أجبته بعد تردد:

“لا…لاشيء… فقط… لم لا تقضي الليلة هنا؟؟”

فنظر إلي نظرة ذات مغزى… فقلت:

“سأعد لك عشاء معتبرا…لا يبدو أنك تأكل شيئا منذ أسابيع”.

وخشيت أن يستسخف الفكرة لكنه لم يشأ إحراجي فقال:

“لا بأس… لكن يجب أن يكون عشاء مبكرا… إذ سيتعين علي الخروج باكرا صباحا”.

فابتسمت بسرور وانصرفت من فوري إلى المطبخ وعملت بنشاط…

وفيما أنا منشغلة مع طهوي أقبل خالي إلى المطبخ..

“هل تكلمتما؟”

مشيرا إلى موضوع زواجنا المعلق. فمنذ يوم طلبت منه أن ننفصل وحتى يومنا هذا وليد لم يفتح الموضوع ولم يخبرني عن قراراته ولا ما يجول بخاطره… ولم يجمع بيننا لقاء خاص أو حوار خاص… أو حتى سفرة طعام… وفاة والدتي رحمها الله شغلتنا عن التفكير بأنفسنا.

علاقتنا باردة كالثلج.. وهو وجد في العنل مهربا من التصادم معي… ولكن إلى متى؟؟

أجبت أخيرا على سؤال خالي:

“ليس بعد”.

فحزن ونهد. كان قلقا علي. قلت له:

“إنه لم يقم هنا غير ثلاثة أيام… كان مشغولا مع الوثائق والأوراق… لم تسنح الفرصة”.

فقال خالي:

“الشاب ينتظر منك أنت فتح الموضوع يا بنيتي فهو لن يجرؤ على هذا في ظل ظروفنا الحالية”.

قلت بصراحة:

“لا أعرف من أين أبدأ ولا كيف… أنا مشوشة جدا يا خالي وفقد والدتي أربك حياتي”.

وسكت برهة ثم واصلت:

“استطعت دعوته للبقاء هنا الليلة… وتناول العشاء معي… سأحاول أن ألمح للموضوع أثناء ذلك… وأرى إن… كان على استعداد للتطرق إليه الآن…”

شد خالي على يدي وقال:

“أصلح الله أمركما وبارك فيكما… تشجعي بنيتي…”

ثم غادر…

تركت الطعام ينضج على النار… وذهبت إلى حيث وليد… كان جالسا في غرفة المعيشة يطالع الصحيفة باهتمام… وقد ترك حقيبة سفره على المقعد بجانبه.. هممت بأن أقترب منه وأبعد الحقيبة وأجلس بجواره… ولكن خانتني شجاعتي… لما انتبه وليد لحضوري قال معلقا على خبر قرأ في الصحيفة:

“سيحظرون الرحلات الجوية من جديد… لا نعلم لكم من الزمن… سيزداد الأمر سوءا ومشقة”.

وقطب حاجبيه استياء… وتابع القراءة…

أردت التفوه بأي تعليق غير أن هاتفه سبقني بالرنين فأجابه وليد, وسمعته يتحدث باهتمام إلى الطرف الآخر والذي أدركت من مضمون الكلام أنه شقيقه يسأله عن موعد حضوره ثم يطلب منه أمرا ملحا…

هتف وليد وهو يقف ملحا:

“رغد؟؟”

فأصغيت لحديثه باهتمام… وكانت آخر جملة قالها:

“حسنا أنا قادم”.

وأنهى المكالمة. سألته بفضول:

“خيرا؟؟”

فنظر إلي نظرة سريعة ثم قال:

“يجب أن أغادر الآن… أنا أسف”.

أصبت بخيبة كبيرة… وقلت معترضة:

“والعشاء؟؟”

فقال معتذرا:

“تناولاه بالصحة والعافية… لن أستطيع مشاركتكما”.

غضبت وقلت:

“لقد أعددته من أجلك أنت يا وليد… ألا تقدر هذا؟؟”

أطرق وليد برأسه ثم قال نعتذرا:

“بلى يا أروى طبعا أقدر… لكن…”

فقاطعته منفعلة:

“لكن حبيبة القلب أولى بكل التقدير”.

نظر إلي وليد والدماء أخذة في الصعود إلى وجنتيه. ولم يجرؤ على التفوه بكلمة. أما أنا فقد اختل ميزاني لحظتها وأطلقت لساني قائلة:

“لم سكت؟ قل شيئا… ألست ذاهبا إليها؟”

زفر وليد زفرة ضيق من صدره ثم قال:

“سأذهب إلى شقيقي… يطلب حضور حلا والأمر مقلق”.

فقلت:

“لكنه أمر متعلق برغد… أليس كذلك؟؟”

ولم يجب فقلت:

“لن يمكنك الإنكار”.

هنا قال:

“لا أعرف ماذا هناك يا أروى… سامر لم يوضح لكنه أقلقني… ربما حدث شيء لا قدر الله”.

فقلت:

“أو ربما الصغيرة الغالية تتدلل على وصيها الحنون النبيل!”

نظر وليد إلي بانزعاج فقلت:

“إنها بالمرصاد لأي شيء يسعدني… ألا تلاحظ هذا؟؟”

زفر وليد الكلمات بضيق:

“هذا ليس وقته… أرجوك…”

وأولاني ظهره وتناول حقيبته هاما بالمغادرة…

لم أتمالك نفسي حينها وشعرت بالإهانة والخذلان والغيظ, فهتفت مجنونة:

“وليد… إذا خرجت الآن فلا تعد إلى هنا ثانية”.

توقف وليد واستدار إلي… ورأيت في عينه دهشة ثم مرارة كبيرة… لكنني لم أستطع السيطرة على شعوري… في أحوج الأوقات إليه تركني وسافر… والآن مع أول خطوة للتصالح بيننا وفيما أنا أشغل تفكيري وجهدي فيه ولأجله… يتركني وينصرف إليها…

أشاح وليد وجهه دون تعليق وسار نحو الباب. فهتفت مجددا:

“قلت… إذا خرجت فلا تعد ثانية… أبدا… هل سمعت؟”

ولم يكترث بكلامي, فصرخت في غيظ:

“هل سمعتني يا وليد؟؟”

استدار آنذاك بعصبية ونظر إلي وهتف بغضب:

“نعم سمعت”.

ثم أضاف:

“كم يؤسفني هذا منك… أولا أنا قلت سأذهب إلى شقيقي… يعني إلى المدينة التجارية وليست الصناعية والطريقان مختلفان ومتباعدان… وثانيا ليس بالوقت المناسب لتقليب المواجع… دعينا نفترق بسلام الآن”.

كنت أشعر بأن جزءا من قلبي قد نزع بعنف قلت منهارة:

“لن يكون هناك مرة قادمة… إذا خرجت الآن فلا تعد… أنا لم أعد أحتمل… هذا كثير… أي نوع من الأزواج أنت؟؟”

وهرولت منصرفة عن غرفة المعيشة وعائدة إلى المطبخ وأسندت جبيني إلى الثلاجة وأخذت أبكي…

بعد قليل سمعت صوت وليد يناديني ولم أجبه… أحسست به يقف عند الباب ثم يقترب مني… ثم سمعته يقول لي:

“أروى.. أرجوك… لاتزيديني هما على هم”.

واستمررت في ذرف عبرات الخذلان والأسف… إن الهم الأكبر هو هم امرأة تحب زوجها وتعرف أن قلبه مشغول بحب امرأة غيرها… هذا هو الهم الأدهى والأمر…

قلت:

“إذا كنت متعلقا بها لهذا الحد ولا تستطيع الاستغناء عنها فاذهب إليها… أنا لن أجبرك على البقاء معي ولا على حبي… ما حاجتي إلى رجل مشغول القلب بغيري…؟؟… اذهب… ولا تعد إلي ثانية”.

“أجّل سفرك”.

نظر شقيقي إلي باستغراب ثم سأل:

“عفوا؟؟ ماذا؟”

فكررت مؤكدا والجد يملأ عيني:

“أجل سفرك يا وليد ودعنا نسوي الأمور ونحل المشاكل أولا”.

قال بانزعاج:

“أتجلبني من المزرعة إلى هنا مفزوعا على وجه السرعة… مسببا ما سببت هناك… لتقول لي أجل سفرك؟ يا سامر وضح ماذا لديك؟ وما بها رغد؟”

أجبت بكل جدية:

“أم تقل إنك لا تريد إخطارها عن حضورك؟ ألم أقل لك إن هذا سيحزنها؟؟ إذن لماذا ذهبت إلى بيت خالتها اليوم وقابلتها؟ وبطريقة جافة؟ ألا تعرف كم من الحزن سببت لها معاملتك هذه؟ إذا كنت قد ضقت ذرعا بها ولا تريد تحمل أعباء مسؤوليتها بعد الآن ولا تطيقها بسبب خلافك مع أهلها فانقل الوصاية الكاملة إلي أنا ونهائيا”.

دوهم أخي وحملق في… وأنا أركز في عينيه بحدة وشدة…

ثم سألني:

“ماذا تعني؟؟”

فأجبت منفعلا:

“أعني أن تتنازل عن الوصاية عليها لي أنا… وأخلصك من هذا العناء تماما”.

وإذا بالحمرة تلون وجه وليد وإذا به يقول مهددا:

“كيف تجرؤ؟؟”

فأجبت بحدة:

“على الأقل… أنا سأعاملها معاملة حسنة تليق بها كابنة عم وحيدة ويتيمة الأبوين”.

وقف وليد فجأة وهتف بغضب:

“أتعني أنني لا أحسن معاملتها يا سامر؟”

فوقفت تباعا ورددت بصوت قوي:

“هل تسمي هذه القسوة والصرامة والخشونة… معاملة حسنة؟؟ وليد… لقد كنت أزورها قبل اتصالي بك… اتصلت بي الخالة وطلبت مني أن أذهب إليها… أخبرتني بأنك ذهبت إليهم ظهرا وقابلت رغد والله الأعلم ماذا قلت لها… وجعلتها تحبس نفسها في غرفتها منذ ذلك الحين ولا تفتح الباب لأحد… حاولت أن أكلمها لكنها طلبت مني الانصراف… أنا لا أعرف ما الذي قلته لها وجعلتها تحزن لهذا الحد… ثم تريد السفر بلامبالاة… وتتركني أنا أواجه الأمر وأرمم ما تهدمه أنت… أتسمي هذه معاملة حسنة؟؟”

وليد نظر إلى ساعة يده… وبدا متوترا… ثم قال:

“اتصل بها”.

ولم أتحرك… فقال وليد:

“الآن”.

فقلت:

“أقول لك إنني قدمت من عندها قبل ساعتين وهي منزية على نفسها… وهاتفها مغلق منذ النهار”.

قال:

“إذن اتصل بهاتف المنزل واسأل عنها ودعني أكلمها”.

بقيت واقفا في موضعي… أنظر إلى أخي بتشكك… ثم سألته:

“أخبرني أولا… ما الذي قلته لها؟؟ لماذا ذهبت إليها؟؟”

فأجاب مندفعا:

“أنا لم أذهب لزيارتها بل مررت لسبب آخر… ولم أقل شيئا”.

فقلت:

“إذن لماذا هي محطمة هكذا؟ لا بد أنك قلت أو فعلت شيئا جارحا حتى لو لم تدركه”.

وهذه الجملة استفزت أخي فهتف بغضب:

“وهل تراني وحشا ذا مخالب وأنياب؟؟”

قلت غاضبا:

“لا أراك تقدر شيئا أو تفهم شيئا… ألا تعرف ما تعني لها وما يعني رضاك أو غضبك؟؟ إما أن تكون أعمى أو بلا إحساس… وفي كلتا الحالتين لا تصلح لرعاية رغد… فدعني أتولى أمرها بنفسي من الآن فصاعدا”.

سكت وليد مبهوتا وتبعثرت نظراته ثم استجمعها واسترد رباطة جأشه وقال:

“اتصل الآن”.

ألقيت عليه نظرة مستهجنة ثم توجهت نحو الهاتف واتصلت بمنزل الخالة فأجابتني هي وعلمت منها أن رغد لا تزال حبيسة غرفتها وطلبت منها استدعاءها للتحدث معي فلم تستجب, وقلت لخالتي بأن تخبرها بأن وليد يريد التحدث معها ولكنها أيضا لم تستجب…

حين وضعت السماعة على الهاتف رأيت أخي ينظر إلى ساعة يده ثم يقول:

“إذن دعنا نذهب”.

انطلقنا من فورنا بسيارتي إلى المدينة الصناعية. عندما وصلنا إلى منزل أبي حسام لم يخرج وليد من السيارة بل قال:

“تعال بها”.

التفت إليه وقلت:

“لم لا تأتي معي ونسوي المشكلة مع العائلة الآن؟”

فرد:

“ليس هذا وقته”.

وتركته في انتظاري في السيارة ودخلت إلى المنزل, لم تفتح رغد الباب إلا بعد أن أقسمت لها مرارا وتكرارا أن وليد قد حضر معي ويريد مقابلتها… وعندما فتحته ذهلنا للسواد الذي لون وجهها الكئيب حتى غدا مضاهيا لسواد وشاحها. نقلت بصرها بيننا ثم سألت:

“أين هو؟”

فأجبت:

“ينتظرنا في السيارة”.

وبدا عليها عدم التصديق ونظرت إلى خالتها تبحث عن تأكيد فقالت أم حسام:

“لقد أحضره سامر ولكنه لا يريد دخول منزلنا كما تعرفين”.

فأطرقت رغد برأسها وقالت:

“أنتم تكذبون علي”.

وتراجعت خطوة بعكازها إلى الخلف فقلت بسرعة:

“ولماذا سنكذب عليك يا رغد تعالي وتأكدي بنفسك”.

بعثرت رغد علينا نظرات التشكك ثم قالت:

“إذا اكتشفت أنكم تخدعونني…”

فقاطعتها الخالة:

“يهديك الله يا رغد… انظري إلى حالك وحالنا معك… اذهبي معه وارحمي نفسك وارحمينا”.

ورافقتني رغد يدفعها الأمل خطوة ويوقفها الشك أخرى حتى صرنا أمام السيارة ورأت وليد بأم عينيها… نظرت إلي غير مصدقة فقلت مؤكدا:

“هل صدقتني الآن؟”

ثم فتحت لها الباب الخلفي فجلست خلف مقعدي ورأيت أخي يلتفت إليها وسمعته يلقي التحية.

جلست على مقعدي والتفت إلى أخي وسألت:

“إلى أين؟”

فأجاب:

“جولة قصيرة”.

وسرنا يرافقنا الصمت الشديد…. وربما كانت أفئدتنا تتخاطب وأفكارنا تتصافح دون أن نشعر بها.

بمحاذاة الكورنيش طلب مني أخي أن أوقف السيارة وأشار بيده نحو المقاعد الإسمنتية العامة قائلا:

“دعونا نجلس هنا قليلا”.

وسبقنا بالخروج من السيارة والتوجه نحو المقاعد. التفت إلى رغد فرأيتها قابعة في مكانها والتوتر جلي على وجهها ويدها ممسكة بطرف وشاحها بانفعال.

سألتها:

“ألن تنزلي؟”

فأجابت بصوت وجل:

“ماذا… يريد؟؟”

فقلت مطمئنا:

“مم أنت خائفة؟ ألست تريدين التحدث معه؟؟ هو هنا لن يسمعك..”

وإن كنت غير واثق مما سيقوله… وإذ بدا على رغد التردد, شجعتها قائلا:

“فرصتنا لنقول كل ما نريد ونضع الحروف على النقط… طلبت منه أن يؤجل سفره حتى نحل المشاكل العالقة أولا…”

وأخيرا خرجنا من السيارة وذهبنا نحو وليد… ترددت رغد في الجلوس فأخرجت منديلا ومسحت المقعد لأنظفه وقلت:

“تفضلي”.

وعندما جلسنا جوارها ثم التفت إلى وليد وقلت:

“ندخل في الموضوع مباشرة… يجب أن تؤجل رحلة الغد وتعيد الحسابات”.

قال وليد:

“لا مجال… سفري ضروري للغاية”.

ثم التفت نحو رغد وقال:

“لا يمكنني أن آخذك معي الآن يا رغد”.

وما كاد ينهي الجملة حتى انهارت رغد فجأة… وكأن جملة وليد كانت الدبوس الذي فجر البالون…

قالت وهي شديدة التهيج وتكاد تمزق طرف وشاحها المشدود بين يديها:

“أنا لست متواطئة مع خالتي… ولست راضية عما قالت… ولن أحدث أي مشاكل مع أروى بعد الآن… سأهتم بدراستي فقط… لن أسبب لك أي إزعاج… وأي شيء سأحتاجه سأطلبه من سامر… سأبقى منعزلة في غرفتي أدرس وأرسم… وسأنفذ كل ما تطلبه مني… لكن أرجوك… دعني أعود إلى بيتي وجامعتي… فأنا ليس لي غيرهما ولا أريد أن أتشرد ويضيع مستقبلي أكثر من هذا أرجوك…”

وانخرطت رغد في بكاء قوي مؤثر… كأنها كانت تربطه عنوة على طرف حنجرتها وأفلت منها بغتة دفعة واحدة… كان منظرها مؤلما جدا…

وقفت كما وقف أخي وسرنا مقتربين منها… وصرنا أمامها مباشرة…

قال وليد:

“ما الذي تقولينه؟!”

فقالت رغد بنفس الانفعال:

“سأفعل ما تطلبه مني لكن لا تتركني هنا أرجوك… أعدني إلى بيتي وجامعتي… سأطلب من أقاربي أن يعتذروا منك… الآن إذا شئت… وسأتصالح مع الشقراء وأنسى أنها من تسبب بإصابتي… قل لها أنني لن أزعجها أبدا ولن تشعر بوجودي في المنزل… أرجوك لا تذهب بدوني… أرجوك…”

كدت أبكي مع رغد… أخرجت مناديل وقدمتها لها تمسح دموعها وأنا أقول:

“كلا يا رغد أرجوك… تماسكي”.

ونظرت إلى شقيقي فرأيته يحملق فيها مندهشا من سوء حالتها… ثم يجلس على المقعد بجوارها ويسند مرفقيه إلى ركبتيه وجبينه إلى كفيه ويجذب عدة أنفاس قوية ثم يلتفت إليها ويقول:

“رغد… أروى لن تأتي معي هذه المرة ولذلك لا أستطيع أخذك”.

فالتفتت أيه رغد ومسحت دموعها…

تابع وليد:

“عندما تتحسن الأوضاع سنعود جميعا… لكن الآن… صعب”.

فقالت رغد:

“لماذا؟”

فأجاب أخي:

“قلت لك.. لأن أروى لن ترافقنا وهي ما تزال غارقة في الحزن على فقد والدتها رحمها الله… لا نستطيع الذهاب أنا وأنت وسامر… لن يكون هذا مقبولا لن توافق خالتك”.

فقالت رغد بسرعة:

“لا تأبه بكلام خالتي”.

فرد وليد:

“ليست خالتك فحسب… إن كان هذا تفكيرها هي فكيف بتفكير الآخرين؟”

فردت رغد:

“أنا لا آبه بتفكير أحد… أنت في مقام أبي.. وسامر أخي.. أنتما عائلتي الحقيقية وليس لي ملجأ غيركما”.

وليد نظر إلي ليرى وقع الكلام على نفسي… فأرسلت نظري بعيدا عنه… ثم سمعته يقول:

“حسنا يا رغد عندما آتي في المرة المقبلة…”

ولم يتم كلامه لأن رغد قاطعته منفعلة:

“كلا.. لن يكون هناك مرة مقبلة… سأذهب معك الآن… أرجوك لا تتركني”.

فقال وليد:

“سأسافر باكرا يا رغد… لم نرتب لسفرك وسامر”.

فقلت:

“أجل سفرك يوما أو يومين على الأكثر وسيكون كل شيئا مرتبا”.

فالتفت أخي إلي وقال:

“لا يمكن. لدي اجتماع مهم للغاية صباحا.. أمر معد له بصعوبة منذ أسابيع”.

فقالت رغد مصرة:

“سآتي معك”.

فنظر وليد إليها وقد علاه الانزعاج وقال:

“يستحيل ذلك الآن. سنناقش الأمر في المرة التالية”.

فقالت رغد وهي تنهار مجددا وتفقد تماسكها:

“أنت تكذب علي… لا تريد أخذي معك… تماطل إلى أن أمل وأكف عن ملاحقتك… قلها صراحة يا وليد إنك لم تعد تريد كفالتي… تريد أن تتخلص مني حتى تكسب خطيبتك ويصفو لها الجو معك وحدك”.

أصابتنا الدهشة من كلام رغد… ووقف وليد غاضبا وهتف بخشونة:

“ما هذا الكلام المجنون يا رغد؟”

فهتفت رغد:

“هذه هي الحقيقة.. لقد اخترتها هي وتنازلت عني…”

هنا أطلق وليد زجرة قوية:

“رغد يكفي”.

بصوت عال وفظ جدا لدرجة أن رغد انتفضت فزعا ثم بلعت صوتها وكتمت أنفاسها, ثم سار مبتعدا متجها إلى السيارة… ثم توقف واستدار نحونا وقال:

“هل هذا ظنك بي يا رغد؟ فيم ستختلفين عن أقاربك؟ كلكم تبخسونني قدري وتسيئون إلي”.

وأولانا ظهره واقترب أكثر من السيارة حتى مد يد ليفتح الباب ووجده مقفلا… فركل السيارة برجله وهتف:

“تعال وافتحها”.

وقفت رغد ونادت:

“وليد”.

ثم التفتت إلي وأمسكت بذراعي وقالت متوسلة:

“لا تدعه يذهب أرجوك”.

عضضت أسناني وقلت:

“لا تقلقي”.

ثم خاطبت أخي:

“سأتصل بشركة الطيران وأرى ما إذا كان لديهم مقاعد شاغرة على رحلة الغد”.

والتفت إلى رغد قائلا:

“فهي رحلات يومية ولا بد أن مقعدين على الأقل لا يزالان شاغرين”.

وهذه فكرة طرأت على بالي للتو… أنتجها قلقي على رغد وتخوفي من ما قد يعتريها بعد هذا…

حثثتها على السير إلى أن صرنا عند وليد فخاطبته سائلا:

“ما قولك؟؟”

فلم يرد… فقلت:

“دعنا نمر الآن بمكتب الطيران ونرى ما يمكن فعله”.

فقال:

“الوقت متأخر على فكرة كهذه”.

فقلت:

“إما هذه… أو امنحني تصريحا بالسفر مع رغد وسنلحق بك عاجلا”.

فزفر بضيق وقال:

“افتح الأبواب”.

وركبنا السيارة وسرنا في الطريق وعندما اقتربنا من مفترق طرق أردت الانعطاف بالسيارة لأسلك الشارع المؤدي إلى مكتب الطيران فقال:

“اسلك اليمين”.

وهو الطريق المؤدي إلى بيت أبي حسام,فقلت:

“دعنا نمر بالمكتب أولا”.

فرد:

“إلى المنزل يا سامر وكفى”.

هنا هتفت رغد:

“كلا… لا أريد العودة إلى منزل خالتي… لا أريد”.

فالتفت وليد إليها وقال:

“افهمي يا رغد هذا صعب جدا الآن”.

ولكنها ألحت:

“لا أريد العودة… لا تسافرعني… لا تفعل هذا بي”.

أما أنا فقد انعطفت يسارا وانطلقت بأقصى سرعة ممكنة في الطريق إلى مكتب الطيران.

أثناء هذا وردتني مكالمة من أم حسام تطمئن فيها على رغد فطمأنتها وأخبرتها بأننا سنعود بعد قليل.

توقفت عند مكتب شركة الطيران وفتحت الباب وقلت:

“سأتحقق وأعود”.

وحالفني الحظ واشتريت تذكرتين وعدت أزف البشرى إلى رغد.. غير آبه برأي وليد… فأنا لم أعد أقوى على تحمل كآبتها…

تهلل وجهها حينما أخبرتها ومع ذلك أخذت تنظر نحو وليد والذي كان ينظر عبر النافذة إلى الخارج وعلى وجهها القلق وكأنها تسأله عن رأيه وتطلب موافقته… لم يعلق أخي فاعتبرنا صمته بمثابة الضوء الأخضر… وتابعنا المسير…

أظنه خاف على رغد وأدرك إلى أي حد وصلت بها نفسيتها…

عدنا أدراجنا إلى منزل أبي حسام ولما فتحت الباب لها ترددت في الخروج…

وإذا بها تخاطب وليد قائلة:

“لا تفعلها وتسافر عنا”.

فأجاب:

“وهل سأقود الطيارة وأسافر مثلا؟”

فقالت:

“لكن… إذا تعرقل سفري لأي سبب… فسوف… فسوف…”

فالتفت وليد إليها:

“فسوف ماذا؟”

ولم تكمل رغد وخرجت من السيارة ورافقتها إلى داخل المنزل وأخبرت العائلة بأننا اشترينا التذكرتين وسنسافر مع وليد.

فور أن أنهيت إعلام الخبر رأيت رغد تنظر إلى خالتها وتقول مهددة:

“لا تحاولي منعي يا خالتي وإلا فأنني سأحبس نفسي في الغرفة إلى أن أموت وألحق بأمي”.

فلم تقل أم حسام شيئا… ورن هاتفي فإذا به أخي يستعجل خروجي ويوصيني:

“قل لرغد ألا تنام دون عشاء… وأن تتناول فطورا جيدا قبل المغادرة صباحا. أكد عليها هذه مرارا”.

ونقلت وصيته إليها فردت والسرور يتجلى على وجهها:

“حاضر”.

وعدت إلى السيارة ونظرة إلى أخي فرأيته شاردا… يفكر بعمق. قلت:

“صدقني وليد… هذا أفضل حل… وإلا فأن نفسية رغد ستتدهور”.

التفت إلي أخي وتنهد وقال:

“لقد أحدثت مشكلة كبيرة لي مع أروى يا سامر…”

سألته بقلق:

“أي مشكلة؟”

قال:

“تصرفت وكأن الأمر يعني رغد فقط… وحين تعرف أروى بأن رغد عائدة معي فستقلب الدنيا رأسا على عقب”.

فكرت قليلا… بعدها قلت:

“إذن قل لها أن رغد عائدة معي أنا وليس معك”.

فرمقني أخي بنظرة غامضة وأوشك على قول شيء, لكنه حبس لسانه ولاذ بالصمت….

***************************

من الصباح الباكر… اتصلت بسامر لأتأكد من أن كل شيء يسير بخير… وتناولت فطوري وبقيت جالسة في الحديقة مع أقاربي وحقائبي… في انتظار مجيء ابني عني.

وعندما أتى سامر… عمد إلى الحقائب يحملها… وخرج عمي أبو حسام لملاقاة وليد… الذي لم يدخل المنزل.

عانقتني نهلة بحرارة… أما خالتي قفد ذرفت الدموع وهي تضمني إلى صدرها… وأبقتني في حظنها طويلا… إلى أن سمعت صوت سامر يقول:

“هيا بنا”.

ابتعدت عن خالتي… فمسحت على رأسي وقالت:

“انتبهي لنفسك جيدا يا رغد…”

أومأت بنعم.. فالتفتت نحو سامر وقالت:

“اعتني بها وصنها كعينك يا بني… ولا تدع أخاك يقسو عليها”.

فقال سامر:

“توصينني أنا يا خالتي؟؟”

فقالت:

“أذكّر… عل الذكرى تنفع المؤمنين”.

فأكد لها:

“اطمئني… رغد بعنقي”.

ثم التفت إلي وقال:

“هيا وإلا تأخرنا”.

جلت بنظري لألقي نظرة الوداع على أقاربي… وافتقدت حسام الذي كان نائما ولم ينهض لوداعي…

وأخيرا… غادرت المنزل… ورحلت عائدة إلى منزلي الحقيقي… في الجنوب…

وصلنا إلى المنزل الكبير ضحى…

وليد أسرع بالاستحمام ثم غادر المنزل على عجل وهو يقول:

“اهتم بكل شيء… سأعود عصرا… اتصل بي عند الحاجة”.

واختفى بسرعة… أما سامر ففي البداية أخذ يتجول في أنحاء المنزل مستعيدا الذكريات الماضية… وشاعرا بالألم لتذكر والديّ… ولأنني لا أستطيع صعود الدرج فلم أرافقه عندما واصل جولته في الطابق العلوي… إنما ذهبت إلى غرفتي اسفلية واستلقيت على سريري باسترخاء وأغمضت عيني…

آه… أخيرا أنا هنا من جديد…

كأن ما حصل… حلم طويل… لقد مضت عدة أسابيع منذ غادرت هذه الغرفة… على أمل العودة بعد أيام… وبدون الشقراء…

يا للأيام… يا للأحلام…

ولم أشعر بنفسي وأنا أستسلم لنوم عميق… عميق جدا… عوضت فيه سهر الليالي المؤرقة التي قضيتها بعيدا عن وليد قلبي…

*****************************

عدت من عملي قبيل المغرب فوجدت شقيقي متمددا على الكنبة في غرفة المعيشة الرئيسية, غارقا في النوم, والتلفاز مشغلا والمصابيح مطفأة… وعلى الطاولة جواره علبة فواكه مشكلة فارغة وقارورة ماء… ما إن هتفت باسمه مرتين حتى استيقظ وراح ينظر إلى ما حوله ثم يتثاءب ويمدد ذراعيه ثم يقول:

“عدت أخيرا؟!… تأخرت”.

فقلت:

“أخبرتك أنني سأعود متأخرا. كان أمامي الكثير لأنجزه اليوم”.

ثم أضفت:

“وعلى فكرة يمكنك استلام وظيفتك رسميا ابتداءا من الغد.. وقد خصصت سيارة تابعة للمصنع لتستخدمها إلى أن نجلب سيارتك من الشمال”.

قال:

“عظيم… ممتاز… وأين ستعينني؟”

قلت:

“معي يا سامر… نائب عني ومساعدي الأول”.

وأضفت:

“مثل السيد أسامة.. وأريدك أن تتقن الوظيفة بسرعة لتحمل العبء معي.. خصوصا وأن المنذر يطالب بإجازة منذ زمن وأنا أرفضها”.

سألني أخي:

“هل أسامة المنذر هذا موضع ثقة؟”

فأجبت:

“نعم.. وهو من كان يدير المصنع ويرعى ثروة أروى وأملاكها إلى أن تسلمتها.. إنه رجل أمينن.. وجدّي الثقة”.

سأل:

“وماذا عن بقية الموظفين؟ الإداريين بالذات؟؟”

فقلت:

“لا أولي الثقة المطلقة في حياتي إلا خمسة رجال.. سيف وأبيه.. وعمي إلياس.. والسيد أسامة.. وأنت”.

ثم مددت يدي وربت على كتف شقيقي وقلت:

“وأنت أولهم يا شقيقي… سأعتمد عليك كثيرا…”

ابتسم سامر وقال:

“بكل تأكيد..”

ثم أضاف مازحا:

“المهم أن تسبغ علي الرواتب والعطايا الكريمة! دعني أتذوق طعم الثراء من جديد”.

وضحكنا بابتهاج…

ثم سألته:

“ماذا عن رغد؟”

فحك شعر رأسه وقال:

“ربما نائمة… لم أرها منذ ساعات”.

استنكرت هذا وقلت جادا:

“منذ ساعات!”

قال:

“نعم فهي قد دخلت غرفتها المجاورة بعد انصرافك ولم تجب عندما ناديتها قبل أن أنام…”

أثارت الجملة قلقي فقلت:

“تعني أنك ام ترها منذ الصباح؟؟ وأنا من اعتمدت عليك؟”

وخرجت من غرفة المعيشة وذهبت إلى غرفة رغد وتبعني أخي.

طرقت الباب وناديتها بضع مرات فلم تجب. قال أخي:

“أظنها نائمة… قفد كانت متعبة من عناء السفر كما أنها لم تنم البارحة”.

قلت:

“يجب أن نتأكد”.

وطرقت الباب بقوة أكبر وهتفت مناديا إياها بصوت عال… ولم تجب… فما كان مني إلا أن أمسكت بقبضة الباب وفتحته… وأخي يهتف:

” ماذا تفعل!!؟”

لم أدخل الغرفة بل ناديت رغد بصوت يعلو مرة بعد مرة إلى أن سمعت صوتها أخيرا يرد…

“نعم؟؟”

“هذا أنا… هل أدخل؟؟”

“نعم… ماذا هناك؟؟”

أطللت برأسي داخل الغرفة فوجدتها جالسة على سريرها مادة رجليها وهي لا تزال ترتدي عباءتها… ويبدو عليها النعاس الشديد… تراجعت للوراء وقلت:

“أنا آسف ولكننا طرقنا الباب وناديناك مرارا فلم تردي”.

ولم أسمع لها ردا… فقلت:

“هل كنت نائمة؟”

فلم نرد… فعدت وأطللت برأسي نحو الداخل ورأيتها تتثاءب وهي شبه واعية فسألت:

“هل شربت منوما أم ماذا؟؟”

ولم ترد… قلقت وسألت:

“هل أنت بخير؟”

فأجابت أخيرا وهي تفرك عينيها:

“أجل… أنا نعسى”.

وأمالت رأسها إلى الوسادة وأغمضت عينيها… انسحبت من الغرفة وأغلقت الباب وأنا أكرر اعتذاري…

لاقاني أخي بنظرات استهجان فشرحت له:

“داهمها الإغماء من قبل وشارفت على الموت… لم يبدو نومها طبيعيا مع كل ذلك الطرق والنداء”.

واتجهت إلى المطبخ وجلست على أحد المقعد أرخي أعصابي وعندما لحق بي أخي قلت:

“ستكون الخادمة هنا غدا… وسأعمل على توظيف طاهية أيضا”.

قال سامر متجاوبا:

“على ذكر الطعام أنا أتضور جوعا”.

واتصلنا بأحد المطاعم وطلبنا وجبة غنية تناولنا نصيبنا أنا وأخي منها فور وصولها.

“أين سأنام؟”

سأل خي ونحن على مائدة الطعام, فأجبت:

“في أي غرفة تشاء… لكن الغرف بحاجة إلى تنظيف أولا وغرفتك السابقة ظلت مقفلة… استخدم غرفتي الليلة”.

قال:

“وأنت؟”

قلت:

“أنام في غرفة المعيشة على مقربة من رغد.. فهي تخشى المبيت بمفردها في الطابق الأرضي”.

وفوجئت بأخي يرد:

“إذن لا بأس. سأنام في غرفة المعيشة وابق أنت في غرفتك”.

وكتمت في صدري شيئا لم أشأ إخراجه ساعتها…

ومع مرور الأيام بدأت تصرفات أخي تزعجني… فهو نصب نفسه مسؤولا أولا عن رغد وحل مكاني في رعايتها… كنا نتناوب في الذهاب للعمل والبقاء في المنزل مع رغد… وكنت أسهر كل ليلة لمتابعة العمل أولا بأول… ومع مطلع الأسبوع المقبل ستعود رغد إلى جامعتها وسيتولى هو إقلالها ذهابا وعودة… أما أنا فسأضطر للذهاب إلى المزرعة نهاية ها الأسبوع لأعالج مشاكلي مع أروى… والتي ترفض الحديث معي منذ ليلة العشاء الذي أفسدته قبل سفري…

رواية انت لي

الحلقة السابعة و الاربعون الجزء 2

“إلى المزرعة؟!”

شهقت مندهشة لما أعلمنا وليد عن نيته في الذهاب إلى المزرعة غدا… ورجحت أن يكون الهدف هو جلب الشقراء.

لم أستطع شيئا وكتمت اعتراضي في داخلي… لا يهم إن كانت الشقراء ستأتي.. لا يهم إن كانت قد انتصرت علي.. المهم أن أبقى تحت سقف واحد مع وليد وأحظى برؤيته كل يوم… إنني رأيت الموت من دونه… وسأقبل بأي شيء لقاء أن أظل على مقربة منه ويظل طيفه يجول من حولي…

ومنذ أن أخبرنا بالخبر وأنا واقفة على أعصاب مشدودة في انتظار ما ستسفر عنه سفرته هذه…

لم يكن وليد يجالسني أو يتحدث معي إلا بكلام عابر… وكان يقضي معظم الوقت في مكتبه يعمل.

كنت سأجن لو أنه لم يحضرني معه… لم تكن شمس النهار التالي لتطلع علي وبي عقل… بعد مقابلته البليدة عند بوابة منزل خالتي…

على فكرة… نظارته الشمسية أصبحت ملكي الآن!

اليوم ستزورني مرح وتجلب معها بعض المحاضرات الهامة لأطلع عليها… سأعود للجامعة قريبا وأشغل وقتي في الدراسة من جديد… وأبعد عن رأسي التفكير في الشقراء…

الساعة الآن الواحدة ظهرا ونحن -أنا وسامر- نتناول طعام الغداء في المطبخ… ووليد في عمله…

“ما بك يا رغد؟؟ فيم أنت شاردة؟؟”

سألني سامر وهو يرى يدي تقلب الحساء بالملعقة طويلا… دون أن أرشف منه شيئا…

قلت تلقائيا:

“هل تظن أنه سيحضرها معه؟؟”

فرد سامر:

“أظن ذلك, وهذا شأنهما”.

فازداد توتري… فقال سامر:

“من الطبيعي أن يجلب زوجته معه يا رغد”.

تناولت رشفة من الحساء بلعتها ولم أشعر بطعمها… ثم قلت:

“المهم.. أن تقبل بوجودي.. لأن وليد.. فيما لو رفضت.. سيعيدني إلى خالتي”.

فاستغرب سامر وقال:

“وما علاقة هذا بك؟؟”

قلت:

“إنها لا تريد أن أعيش معهما”.

“أهكذا؟”

نعم. لأن الانسجام بيني وبينها مستحيل..”

تجلى على سامر بعض التردد ثم تجرأ وسأل:

“هل تدرك هي أنك…”

طأطأت رأسي ونظرت إلى وعاء الحساء الموضوع أمامي حرجا… ففهم سامر إجابتي… سامر يفهمني جيدا… وهو دائما معي صريح ومباشر… ليس فيه الغموض ولا ينشر الحيرة والتساؤل والذهول أينما حل… كما هو وليد…

قال بعد صمت قصير:

“إذن وليد يعرف… الآن تأكدت”.

فرفعت بصري إليه وسألت:

“يعرف ماذا؟؟”

فهوى ببصره إلى أطباق طعامه وتظاهر بالانشغال بتقطيع قطعة اللحم… وقال:

“أنك تحبينه”.

شددت على يدي وفارت الدماء في وجهي وأبعدت نظري عن عيني سامر وقلت بصوت ضعيف:

“أأأأ… لا… ليس كذلك”.

وأمسكت بطرف مفرش مائدة الطعام وأخذت أشد وأرخي فيه باضطراب…

سامر وضع قطعة اللحم في فمه وراح يمضغها ثم بلعها وقال:

“بل يعرف”.

فرفعت بصري إليه باهتمام فوجدته يرفع كأس العصير ويشرب جرعة منه… متظاهرا بالبرود…

قلت:

“كيف؟”

قال وهو يتابع تناول طعامه:

“ليس بهذا الغباء”.

وأحسست بقلبي يخفق بقوة… هل يمكن أن يكون وليد… قد اكتشف أنني أحبه.. أكثر من حب ابنة لأبيها؟؟

وفيما أنا شاردة في تفكيري سمعت سامر يقول بجدية:

“لكن ذلك لن يغير شيئا يا رغد… وليد رجل متزوج ويكبرك بعشر سنين.. ولا أظنه يعتبرك إلا ابنة أو أخت صغيرة يتيمة تكفل برعايتها”.

فقدت شهيتي للطعام فجأة وتوجم وجهي حزنا… ولاحظ سامر التغيرات التي اعترتني فوضع شوكته جانبا وخاطبني بنبرة أكثر جدية وواقعية:

“يا رغد… ستستفيقين يوما وتدركين أين كنت تتخبطين… لكنني لا أريد أن تصابي بصدمة قاسية.. فكري مليا في وضعك… وقيمي الأشياء تقييما عقلانيا وليس عاطفيا… ماهي نهاية حب رجل مرتبط بفتاة أخرى لا يملك أي سبب ليتخلى عنها؟ ولا أي دافع ليفكر في غيرها”.

أصبت بعسر هضم وتلوت معدتي… ورفعت عيني بانكسار وأبرزت يدي على المائدة وقلت:

“حتى لو تزوجها… سأبقى معه… تحت وصايته”.

قال:

“ستكبرين يوما… ولن تحتجي وصيا… وهو سيتزوج ويكرس جهده لعائلته الجديدة.. هذا هو المسار الطبيعي للحياة”.

قلت بشء من الاتفعال:

“وأنا؟؟”

فصمت سامر… ثم قال:

“أنت أيضا… ستتزوجين وتعيشين حياتك… مع من يستحقك ويقدرك”.

وتبادلنا نظرات عميقة… ثم قال:

“القرار بيدك”.

فأخذت أنظر إلى يدي… أتأمل راحتيهما… والخطوط التي تملأهما… وكأنني أفتش عن القرار بينهما… وأراهما خاليتين جوفاوين… لا تحملان شيئا…

مددتهما نحو سامر أريه باطنهما الأجوف وأنا أقول:

“يداي لا تملكان شيئا”.

فمد سامر يده نحو يدي وقال:

“ما في يدي هو ملكك”.

وكانت عيناه تحملقان بي تملؤهما المعاني العميقة…

شعرت بمرارة في حلقي… كأنني تجرعت دواء مركزا… وانهارت تعبيرات وجهي أمام نظرات سامر فإذا بي أقول دون تفكير:

“ألا زلت تحبني؟”

وكانت إجابته بأن شد قبضة يده وأغمض عينيه كمن يعتصر ألما…

نعم يحبني… أعرف ذلك… كان مهوسا بي… يغمرني بلطفه ويمطرني بهداياه ويغلفني بعواطفه…

لم يكن خطيبي فقط… كان أخي وصديقي المقرب… وكان يشاركني كل شيء… ولم أشعر يوما وهو معي بأنني بحاجة لأي شيء…

لماذا لا تزل تحبني يا سامر… بعد ما فعلته بك…؟؟

آه…كم يؤلمني قلبي… كم يقرصني ضميري… كم أنا أنانية… كم أنا حزينة من أجلك…

رفعت رأسي أريد أن أرمي به إلى الوراء لعل الأحزان تتساقط منه… فإذا بعيني تقعان فجأة على وليد…

جفلت وسحبت يدي نحو صدري أمسك نفسي الذي انحشر فجأة في شعيباتي الهوائية إثر ظهور وليد المباغت… و

أحس سامر بحركتي السريعة ففتح عينيه والتفت إلى الوراء… إلى الباب… فوجد وليد يقف هناك…

“أهلا وليد… كيف كان يومك؟”

بادر سامر بالسؤال فرد وليد:

“كان حافلا جدا”.

قال سامر:

“قرصنا الجوع فشرعنا بالأكل قبلك”.

رد وليد:

“بالهناء والعافية”.

وتوجه نحو المغسل فغسل يديه وأقبل واتخذ مقعدا… على رأس المائدة…

قال:

“ماذا لدينا اليوم؟”

فأجاب سامر متظاهرا بالمرح:

“مشويات طلبناها من مطعم… وحساء أعدته رغد”.

فطأطأت رأسي خجلا من الحساء المتواضع الذي أعددته…

وبدأ وليد يعد أطباقه وسكب لنفسه شيئا من الحساء… وأخذ يرتشفه… ولم ينطق بأي تعليق…

وسامر عاد يتناول طعامه ويطرح على وليد الأسئلة حول العمل… حيث إنه سيذهب بعد قليل… ويجيب وليد أجوبة مختصرة… إلى أن سمعته يقول:

“لم لا تأكلين؟”

انتبهت على سؤاله فرفعت رأسي ونظرت إليه نظرة سريعة ثم أخفضت رأسي وأجبت بصوت خافت:

“اكتفيت الحمدلله”.

وأمسكت بعكازي الموضوع إلى جواري وقمت عن المائدة…

سامر قال:

“لم تأكلي شيئا رغد”.

فقلت:

“الحمد لله”.

وسرت متجهة إلى الباب… فاستوقفني صوت وليد يقول:

“على فكرة هل لديك استعداد لزيارة الطبيب اليوم”.

فتذكرت صديقتي مرح وقلت وأنا لا أجرؤ على رفع بصري إليه:

“اليوم؟ أأأأ ستأتي مرح لزيارتي”.

فقال:

“ماذا عن بعد الغد أو بعده؟”

فأجبت:

“بعد الغد…”

فقال:

“لا بأس”.

ثم تابعت طريقي إلى غرفتي…

وقبل مجيء مرح ذهبت إلى المطبخ لأحضر بعض أطباق المكسرات والحلويات…

وشيئا من العصير… وفيما أنا أحمل الصينية بيدي اليمنى بينما تمسك يدي اليسرى بالعكاز… اختل توازن الصينية فوقعت أرضا وتحطم الكأسان الزجاجيان محدثين جلبة كبيرة… وتبعثرت الأطباق والمحتويات على مساحة كبيرة…

“أوه… هذا ما كان ينقصني!”

تذمرت بصوت غاضب… ثم جثوت على الأرض بحذر ألتقط شظايا الزجاج والطعام المبعثر…

“ماذا حصل؟”

التفت بسرعة نجو مصدر الصوت… وجدته واقفا عند الباب والقلق يخطو نتوءا على جبينه ويحفر مابين حاجبيه… ثم اقترب مني وسأل:

“هل انزلقت؟؟ هل أنت بخير؟”

سحبت نظراتي عنه وسلطتها بخنوع نحو الشظايا وأجبت هامسة:

“أوقعت هذا من يدي”.

ورأيت ظله ينعكس على الأرضية الملساء… ثم رأيت يده تظهر من الفضاء وتهبط على الشظايا وتلملمها…

جمع قطع الزجاج الكبيرة والطعام في الصينية وانغمست أنا في التقاط الأشلاء الصغيرة وإذا به يرفع الصينية ويقول:

“دعيها عنك”.

فنهضت مستندة على عكازي ورأيته يتجه نحو المكنسة الكهربائية فشعرت بالحرج وتقدمت خطوتين وأنا أقول:

“أنا سأنظفها”.

فالتفت إلي وقال:

“لا عليك… احذري أن تدوسي عليها”.

وقد كنت حافية القدم اليمنى, أما الآخرى فمجبرة كما تعلمون…

عكف وليد على تنظيف الأرضية بحذر من أي شظايا ممكنة… وعكفت عيناي على مراقبته بكل عناية… فهما قد حرمتا من رؤيته أسابيع طويلة ولم ترتويا بمرآه بعد…

لما فرغ من مهمته استدرت بسرعة نحو الدواليب وتظاهرت بأنني أستخرج كأسين آخرين وأطباق جديدة… وسمعته يقول:

“”دعيني أساعدك”

وتولى بنفسه تحضير كل شيء ثم حمل الصينية إلى العربة ثم سأل:

“أين ستستقبلينها؟”

أجبت:

“في غرفة الضيوف الرئيسية”.

فقاد العربة إلى هناك ثم عاد وسأل:

“شيء آخر؟؟”

فأخفضت رأسي وابتسمت وقلت:

“شكرا لك”.

فرد:

“العفو… صغيرتي”.

رفعت إليه بصري بسرعة… هل قال صغيرتي؟؟ هل ناداني بصغيرتي من جديد؟؟ أخيرا حن علي؟؟ هل صفح عني ورضا علي؟؟

حاولت أن أقرأ شيئا في عينيه لكنه استدار منصرفا وهو يقول:

“إذا احتجتني فناديني”.

بعد ذلك ذهبت إلى غرفتي قريرة العين… ونظرت إلى وجهي في المرآة… فوجدته متوهجا…

نزعت وشاحي وأطلقت سراح شعري السجين… إن لدي ضيفة مقربة وأنا لا أريد أن أستقبلها كما في الزيارة السابقة! أتذكرون؟؟ الشقراء في قمة الأناقة وأزهى الألوان…

وأنا خلف السواد وتحت الجبائر!

وأردت التزين ولكنني لم أملك شيئا في هذه الغرفة! لا حلي ولا مساحيق ولا ملابس تليق باستقبال ضيوف مقربين!

“أوه… ما هذا الحظ العاثر! كيف سأصعد الآن إلى غرفتي… وكيف سأهبط!؟”

لا!

لا تذهبو بأفكاركم إلى الجحيم! هل تظنون أنني سأطلب هذا من وليد؟؟

في غرفة الضيوف استقبلت ضيفتي بعباءتي ووشاحي… وكأنني لست من أصحاب المنزل… وكان وليد هو الذي فتح لها الباب وقادها إلى الغرفة.

“واو! ما هذه الأناقة يارغد؟؟ تبدين مذهلة!”

قالت مرح مازحة وهي تتأملني, فأجبت وأنا أرفع رأسي وحاجباي وأغمض عيني مفتعلة المكابرة المازحة:

“لا تحاولي مضاهاتي! احترقي غيرة!”

وضحكنا مرحتين. وحقيقة اعتادت مرح وجميع الزميلات على رؤيتي بمظهر رسمي عادي… في الجامعة لم أكن أرتدي غير الملابس الرسمية ولم أكن أضع أي مساحيق أو حلي كما تفعل هي ومعظم الطالبات… بعضهن يحملن عدة التزين معهن عوضا عن الكتب!

أما أنا فلم أتزين منذ أن…. سافر والدي للحج… العام الماضي… ولم يعودا… وكما تعلمون بقيت في منزلنا في المدينة الصناعية تحت مرأى وليد إلى أن احترق المنزل… ثم عشت في شقة سامر إلى أن بلغنا مقتل الحبيبين رحمهما الله… وانتقلت بعدها إلى مزرعة الشقراء… ثم إلى هنا… ثم إلى منزل خالتي… كالمشردة الضائعة بلا مأوى…مغلفة بسواد عباءتي…

لاحظت مرح شرودي فقالت:

“ابتسمي وأريني جمالك الحقيقي”.

فابتسمت بعفوية فقالت:

“رائعة جدا! ستبهرينه بالتأكيد!”.

تقوس حاجباي استغرابا وسألت:

“أبهر من؟”.

فضحكت مرح ثم قالت:

“الرجل الذي ستتزوجينه ذات يوم…”

آه! يا لأفكارك السخيفة!

أما هي فتابعت:

“فنانة.. جميلة… خلوقة ومن عائلة راقية.. وابنة مليونير كبير!… سينبهر حتما”.

قرصت يدها قرصة خفيفة وقلت:

“دعك من هذا… أخبريني كيف هي الجامعة؟ والزميلات؟؟”

وأخبرتني بعدة أمور كان أكثر ما أثار اهتمامي هو المعرض الفني الذي يقام حاليا في إحدى القاعات, بإشراف شقيقها, والذي شاركت هي فيه ببعض لوحاتها. وأعلمتني بأنها ومجموعة من زميلاتنا قد اتفقن على حضوره يوم الغد, اليوم الأخير للمعرض.

وكانت مرح قد سبق وأن أخبرتني عن المعرض عندما كنت راقدة في المستشفى…

قلت:

“غدا آخر يوم؟”

فأجابت:

“نعم”.

قلت:

“يا للخسارة! كم تمنيت الحضور”.

فقالت وقد لمعت فكرة في عينيها:

“ولم لا رغد؟ تعالي معنا فكلنا سنذهب غدا ونقضي وقتا رائعا”.

قلت وأنا أشير إلى عكازي:

“وهذا”.

فقالت:

“وما المانع؟ ألست تستطيعين السير؟؟ لا تفوتي فرصة كهذه رغد”.

وكبرت الفكرة في رأسي بسرعة.. وشجعتني مرح حتى آمنت بها وقررت الذهاب!

**************************

عاد شقيقي مساء يحمل معه عشاء من أحد المطاعم وكيسا يحوي معتبرة من كرات البوظة المختلفة الأنواع قال عنها:

“وهذه لرغد! ستدهشها”.

وذهب مباشرة ليريها إياها… ولأن المطبخ قريب من غرفة رغد فمن السهل سماع أي حوار يدور عند الباب…

كانت مسرورة.. وسمعت ضحكتها وضحكة سامر تنطلقان بمرح وتطرقان أذني بتحدي..

تجاهلت ذلك وخدرت أعصابي لتمر الليلة بسلام.

وقبل أن آوي إلى فراشي باكرا عاودت الاتصال بالمزرعة وتفقد أحوال أروى والعم إلياس.. وقد رفضت أروى التحدث معي وطلب عمي مني الحضور لحل المشكلة…

فأخبرته بأنني سأعود نههاية الأسبوع كما خططت.

أويت إلى فراشي وبعد منتصف الليل استيقضت بسبب ألم في معدتي.. ذهبت إلى المطبخ لأتناول دوائي وأشرب الماء وسمعت صوت التلفاز في غرفة المعيشة.. وتوقعت أن يكون أخي قد نام تاركا الجهاز مشغلا وذهبت بقصد إيقافه وفوجئت حين أطللت برأسي فرأيت أخي ورغد يشاهدان التلفاز معا… ويلتهمان البوظة…

قال سامر حين رآني:

“ألم تنم بعد؟”

والأجدر أن أطرح أنا هذا السؤال… قلت:

“بلى, نهضت لأشرب ماء.. ولكن لم أنتما ساهرين للآن؟”

فرد:

“نشاهد فيلما ممتعا… ثم إننا لن ننهض باكرا مثلك!”

ولم أجد أي تعليق أعقب به… فانسحبت وعدت إلى فراشي…

لكن معدتي شاءت تعذيبي ساعة من الزمن حتى هدأت… وسلمتني للأفكار والهواجس.. تلعب بي بقية الليل…

كان لدي عمل كثير ومهم جدا في اليوم التالي.. عدت ظهرا من الشركة فيما ذهب شقيقي إليها.

اعتكفت في مكتبي لإنجاز أمور ضرورية.. ودعوت أحد الموظفين المسؤولين لزيارتي في المنزل وإتمام العمل معي..

وفيما أنا في قمة الانشغال طرق الباب وأجبت الطارق.. فكان رغد..

**********************

بعد أن اتصلت بي مرح تؤكد علي الذهاب للمعرض لم أستطع مقاومة رغبتي في ذلك فاستجمعت جرأتي وأتيت إلى وليد وأخبرته بذلك..

كان يجلس خلف المكتب وأمامه الكثير من الأوراق والملفات إضافة إلى حاسوبه الخاص والهاتف.. بدا مشغولا جدا وربما لن يوافق..

نظر إلي وليد باستغراب وقال:

“كيف يا رغد! وإصابتك؟”

قلت:

“سأسير بعكازي”.

قال:

“ألن يكون هذا شاقا؟”

قلت مبررة:

“لن أضطر للمشي كثيرا… ستساعدني مرح إن احتجت…”

ولم يظهر عليه الاقتناع فقلت بنبرة رجاء:

“لا أود تفويت الفرصة… مجموعة من صديقاتي وزميلاتي اتفقن على الذهاب اليوم وسيمضين وقتا ممتعا. أريد مشاركتهن.. والتفرج على اللوحات الرائعة… سأمر ولو لنصف ساعة…”

نظرت إليه مستشفية رأيه… كان الاعتراض جليا على وجهه… وسمعته يقول:

“إذا كان ولا بد, فأجلي الفكرة إلى الغد. إن ضيفا سيزورني هذا اليوم ولا يمكنني الخروج معك”.

قلت:

“لكنه آخر الأيام”.

فقال وهو يعود للتحديق في شاشة حاسوبه:

“إذن انسي الأمر”.

شعرت بالحزن والحنق… ووقفت في مكاني منكسرة.. ثم قلت مستدرة موافقته:

“أنا لم أخرج من البيت منذ زمن… منذ إصابتي… أريد أن أغير الجو قليلا”.

فالتفت وليد نحوي… وقال:

“أنا مشغول جدا اليوم يا رغد”.

قلت مباشرة:

“سأذهب مع مرح”.وسكت وليد فتابعت:

“أخبرتني بأنها تستطيع اصطحابي. سترافقها إحدى شقيقاتها والأستاذ عارف ذاته هو الذي سيقلنا بسيارته”.

وكما يظهر لم يستسغ وليد الفكرة… أطرق برأسه قليلا ثم قال أخيرا:

“لا أرها فكرة حسنة من البداية. لم لا تصرفين النظر عنها وتستغلين وقتك في الدراسة؟؟”

وبهذا أنهى الحوار وعاد لحاسوبه.

أحسست بالحسرة!… وخرجت من كتبه أجر أذيال الخيبة.

إنني سجينة المنزل منذ أن وقعت من أعلى السلم… وآخر مرة رأيت فيها العالم كانت ليلة نزهتنا أنا وهو قبيل الحادث.

ذهبت إلى المطبخ وأنا مكسورة الخاطر واتصلت بصديقتي مرح وأخبرتها بعدم تمكني من الذهاب, وأنا أعتصر حسرة!

مضت فترة ووليد مشغول في مكتبه وعند الرابعة عصرا وفيما أنا جالسة عند المائدة أتصفح بعض المجلات وألتهم البوظة, سمعته يتنحنح.

التفت إلى ناحية الباب ووجدته يقف هناك ويهم بالدخول…

دخل وليد ولمح المجلات بين يدي فقال:

“أليس أجدر بك تصفح كتبك؟! لقد فاتك الكثير يا رغد! شدي همتك”.

انزعجت من نصيحته رغم كونها قيمة, فقط لأنني مستاءة من رفضه لطلبي. وقلت:

“حاضر. سلأفعل ذلك”.

وربما فهم التذمر في ردي لكنه تجاهله, واتجه إلى الموقد وأخذ يعد الشاي…

فرغت من التهام كرة البوظة ورغبت في المزيد.. فاتجهت إلى الثلاجة واستخرجت كرة أخرى فإذا بي أسمع وليد يقول:

“لا تكثري من تناول البوظة… ستمرضين”.

فشعرت بالحرج وأعدت البوظة إلى مكانها… ثم حملت مجلاتي وغادرت المطبخ متجهة إلى غرفة المعيشة.. وشغلت التلفاز وجعلت أقلب القنوات بملل… لحظات وإذا بوليد يقف عند الباب ويقول:

“دعك من التلفاز يا رغد.. ستعودين الأسبوع المقبل إلى الجامعة.. لم لا تراجعين دروسك؟”

أحسست بالضيق.. فأغلقت التلفاز ونهضت أريد العودة إلى غرفتي.. وعندما اقتربت من الباب قال:

“ولا تسهري في الليل وتفسدي نومك وصحتك… لا زلت صغيرة على ذلك”.

ما به وليد؟؟ لماذا يعاملني هكذا اليوم؟؟

التفت إليه منزعجة وقلت:

“حاضر… أي أوامر أخرى؟؟؟”

ولم يتنحى عن طريقي فرفعت بصري إليه ورأيته يحملق بي…

قال:

“أنا لا آمرك يا رغد… أنا أنصحك”.

وهل تراني طفلة ضالة أو غبية؟؟ قلت:

“حاضر.. كما تأمر.. أو كما تنصح.. أنت الوصي وأنت السيد هنا.. هل تأذن لي بالانصراف الآن؟”

وليد صفق راحة يسراه بقبضته اليمنى… تعبيرا من استيائه من ردي… ثم خطا خطوة باتجاهي وقد أظهر اهتمامه بتذمري أخيرا وقال:

“ما الأمر يا رغد؟”

فلم أرد.

“لم كل هذا الحنق؟ ألا ترحبين بنصيحة ممن يفوقك سنا وحكمة؟”

احمر وجهي ونظرت إليه وقلت:

“بلى… أقدر لك اهتمامك وشكرا”.

انتقل الاحمرار إلى وجه وليد الذي قال:

“لماذا تخاطبينني هكذا؟”.

فصمت برهة ثم قلت:

“بأي طرقة تريدني أن أخاطبك؟ وجهني فأنا لم أعد أفهمك”.

رماني بنظرة قوية وسأل:

“ماذا تعنين؟؟”

قلت متخلية عن حذري:

“أنت تغيرت علي.. وضح لي الطريقة التي تريد أن أتعامل بها معك من الآن فصاعدا.. فأنا أخشى أن أقدم على تصرف لا يعجبك فتغضب وتعاقبني بإرسالي إلى خالتي وحرماني من الدراسة”.

وإذا بوجه وليد يتحول من الاحمرار إلى السواد… وكأنه احترق.. وإذا بأوداجه تنتفخ حتى خشيت أن تتمزق…

شعرت بالفزع وتراجعت للوراء… وهممت بأن أستدير وأولج الغرفة مبتعدة عنه…

فإذا به يمد يده ويقبض على ذراعي ويقول:

“إلى أين؟”

فنظرت إليه نظرات خوف ممزوج برجاء… فقال:

“كل هذا لأنني رفضت اصطحابك إلى المعرض؟”

باغتني سؤاله وأربكني… ولم يعطني فرصة للإجابة بل واصل:

“قلت لك إن لدي عمل مهم جدا أقوم به الآن”.

فنطقت بخوف:

“انس الأمر… غيرت رأيي…”

ولا بد أنه رأى الخوف في عيني… سحب يده ومرر أصابعه في شعره ثم إذا به يقول:

“لتجدي الفرصة لإخبارهم بأن وليد… وصي صارم وفظ وجاف… لا يحسن معاملتك… ألست من أراد السفر معي؟؟”

ذهلت من قوله أردت التكلم غير أنه قاطعني:

“اذهبي حيثما تريدين… حتى لا تنعتوني بما هو أبشع… هيا يمكنك الذهاب الآن”.

واستدار خارجا من الغرفة… وأنا لا أزال في حالة الذهول… وعندما اختفى عن مآي… سرت بسرعة وأنا لأتبعه وأنا أقول:

“لم أعد أرغب في ذلك”.

توقف وليد برهة موليا ظهره إلي… ثم استدار ونظر إلي بحدة ثم قال:

“بل اذهبي… الصداع ونشب… والجدال حصل… فلا تزيدي الأمر إضراما على صفر النتيجة”.

واستدار وولى…

*************************

عدت إلى مكتبي وانخرطت في عملي بأقصى تركيز ممكن, محاولا طرد رغد من رأسي تلك الساعة… وبعد قليل سمعتها تقبل إلى الغرفة وهي تقول:

“أنا جاهزة”.

وكان وجهها مسترخيا… غير الوجه الذي فارقتني عليه قبل قليل… أرخيت عضلات وجهي وقلت بهدوء:

“حسنا. انتبهي لنفسك”.

وانكببت على حاسوبي وأوراقي أواصل العمل, وأحسست بها لا تزال واقفة عند الباب…

رفعت إليها رأسي فرأيتها تنظر إلي…

قلت:

“خيرا؟”

قالت بتردد:

“هل سترافقني؟؟”

استغربت وحدقت فيها متعجبا…! ألم تقل إنها ستذهب مع صديقتها؟؟

قلت:

“أرافقك..؟”

وردت بإيماءة من رأسها…

لكن…!

آه فهمت… لا بد أنها تقصد أن أرافقها إلى البوابة, لأفتح الأبواب في طريقها… وأساعدها في الصعود وهبوط العتبات…

وقفت وأشرت إليها بيدي:

“تفضلي”.

غير أنها لم تتزحزح عن موضعها… أطرقت برأسي تعجبا… فقالت متمة سؤالها:

“أعني إلى المعرض؟”

أصابتني الدهشة ووقفت أنظر إليها ثم قلت بحيرة:

“إلى المعرض!؟”

فأخفضت بصرها… فسألتها مستغربا:

“هل قلت إنني سآخذك بنفسي إلى المعرض؟؟”

أجابت وهي لا تزال مطأطئة برأسها نحو الأرض وعيناها بين صعود وهبوط:

“ولكن… أنا… لا أريد الذهاب وحدي”.

مرت لحظة صامتة جدا… تلتها لحظة تبادل النظرات… تلتها لحظة تبادل الكلمات.

قلت:

“أليست صديقتك معك؟”

قالت:

“بلى… إنما…”

قلت:

“ماذا؟”

أجابت وصوتها يتحول إلى الهمس الحزين:

“لا أستطيع الذهاب… بدونك”.

تنفست الصعداء بعمق شديد… متفهما موقف رغد… وخوفها غير الطبيعي من زيارة الأماكن الغريبة بدون أهلها… وهذه عقدة نفسية خاجة عن سيطرتها…

ورغد أحست بأنني أقرأ ما بداخلها فبقيت صامتة لحظة… ثم نظرت إلي وطلبت برجاء:

“هل ترافقني؟”

رجاؤها صفع قلبي… ولكن ما باليد حيلة… وخروجي صعب جدا ولدي أعمال ملحة وضيف مرتقب…

قلت بصوت جعلته حنونا قدر الإمكان:

“لا أستطيع. أنا آسف… أخبرتك بأنني أنتظر ضيفا… سيأتي بعد قليل”.

ثم قلت مشجعا:

“صديقاتك هناك… لن تشعري بالغربة… اذهبي في رعاية الله”.

التردد تفاقم بسرعة على وجه رغد… يصحبه الحزن والخيبة… ورن هاتفها المحمول… فألقت نظرة على الشاشة ثم نظرت إلي وقالت:

“مرح وصلت”.

وظلت تنتظر مني ردا لبضع ثوان, ثم اتخذت قرارها فجأة:

“سأعتذر لها… لن أذهب”.

فوجئت… قلت بسرعة قبل أن تجيب:

“انتظري!”

أنا أستسلم…

إنني لا أستطيع أن يكون لي موقف غير هذا.. رغد أنت دائما تنتصرين..

“سأرافقك… لكن لنص ساعة فقط… لا أكثر”.

****************************

وذهبنا إلى المعرض… بالطبع أقلني وليد بسيارته… وسرنا خلف سيارة شقيق مرح.

في القاعة التقيت بمجموعة من زميلاتي اللواتي رحبن بي بحرارة وعبرن عن شوقهن إلي وتمنين لي الشفاء العاجل…

قضيت برفقتهن ورفقت مرح وقتا أقل ما يمكن وصفي له بأنه مذهل… وإن كان قصير جدا!

اللوحات التي كانت تحمل توقيع الأستاذ سامر, شقيق مرح… الفنان المعروف… كانت مبهرة جدا… وقفت عند إحداها مأسورة بروعتها…

الفتيات سبقنني إلى اللوحات التالية وبقيت مرح إلى جواري…

“أعجبتك كثيرا أليس كذلك؟؟”

سألتني فأجبت وعيناي محملقتان في تناسق الألوان البديع في اللوحة:

“ولا أجمل! تحفة!”

سمعت مرح تقول:

“أسمعتَ؟؟ تحفة!”

والتفت إليها فإذا بي أراها توجه الخطاب إلى أحدهم, فيرد:

“شهادة أعتز بها”.

نظرت إلى الشخص المتحدث في استغراب… ثم إلى مرح… فابتسمت الأخيرة وقالت:

“المبدع الفنان الأستاذ عارف… شقيقي بكل فخر!”

شعرت بالخجل… وطأطأت برأسي فأنا صغيرة جدا لأبدي شهادة في حق رسام فنان كبير ومعروف… ومرح أمسكت بذراعي وقالت بمرح:

“وهذه رغد آل شاكر… منافستي الأولى في الجامعة! ابنة الملياردير السيد وليد شاكر… مدير مصنع وشركة آل بحري…”

الأستاذ عارف قال:

“تشرفنا… هل السيد وليد شاكر هنا؟؟”

رفعت رأسي عن الأرض والتفت للخلف أفتش عن وليد. كان يتبعنا على بعد عدة أمتار… ويتفرج على اللوحات…

حانت منه التفاتة نحونا ولما رآني أنظر إليه فهم أن في الأمر شيء ما… فسار مقتربا…

مرح أومأت مشيرة إليه مخاطبة شقيقها:

“هذا الشاب… هناك!”

وشقيق مرح سار مبتعدا باتجاه وليد…

التفت إلى مرح فإذا بها تراقب الاثنين وهما يلتقيان ويحيي كل منهما الآخر ويتعرفان على بعضهما البعض…

قلت:

“يبدو أن وليد لم يقابل شقيقك من ذي قبل”.

فأجابت:

“أجل. وقد كان يتوق للتعرف إليه ولم تسنح له الفرصة بمرافقتنا ليلة العشاء في منزلكم”.

ثم وضعت إحدى يديها على خصرها ورفعت أحد حاجبيها وأخفضت الآخر وقالت:

“أطول منه بعشرين سنتيمترا وفقا لتقديري!”

هنا أقبلت زميلاتنا نحونا وسألن مازحات:

“لم توقفتما هنا؟؟ تعالا واسمعا تعليقاتنا حول لوحات الفنانة المعجزة مرح أسامة!”

وأخذنا نضحك بسرور… ثم إذا بمرح تقول:

“بنات… انظرن… هذا هو أبو رغد”.

وهي تومىء نحو وليد!

إحداهن سألت:

“أين؟”

فردت مرح:

“الذي يتحدث مع أخي!”

واتجهت أنظارهن إلى وليد! بعضهن أطلقن تعليقات عدم التصديق, وبعضهن لم يكترثن, والبعض الآخر لسعنه بأعينهن فيما أخريات مبهورات بالفنان عارف أكثر من لوحاته…!

أما مرح فقد قربت فمها من أذني وهمست:

“أكثر وسامة وجاذبية من أخي! لكن عارف ذو شعبية كبيرة وكلهن مأسورات بفنه!”

ثم ضحكت وأمسكت بذراعي وتابعنا التقدم نحو لوحاتها…

وبعد قليل وفيما كنا منشغلات بتأمل لوحات مرح والتعليق عليها سمعت صوت وليد مقبلا من الخلف يتنحنح ويقول:

“معذرة”.

التفتنا جميعا للوراء… ورأيته يقف على مقربة وينظر إلي ويشير إلى ساعة يده…

نظرت إلى ساعة يدي فإذا بها الخامسة والنصف… لقد مر الوقت سريعا جدا وأنا لم أنهِ بعد جولتي على بقية اللوحات!

ابتعد وليد عدة خطوات, ووجهت خطابي إلى زميلاتي:

“يؤسفني أنني مضطرة للمغادرة الآن!”

أبدين احتجاجهن ودعونني للمكوث فترة أطول… وكنت أرغب في ذلكولكن…

أخيرا شكرت زميلاتي وودعتهن وسرت نحو وليد…

ونحن نغادر مررنا بالأستاذ عارف الذي ودعنا وشكرنا بشكل شخصي على زيارة المعرض…

عندما عدنا إلى المنزل أردت أن أسهب في شكر وليد وأعتذر على إزعاجه غير أنه كان على عجل من أمره ودخل مكتبه وما هي دقائق إلا حتى أتاه الضيف…

**********

عرض التعليقات (15)