روايه انت لي الحلقه 49 جزء 1 و 2

8 15٬008
 

روايه انت لي الحلقه 49 جزء 1 و 2

روايه انت لي الحلقه 49 جزء 1

روايه انت لي الحلقه 49 جزء 1 و 2

روايه انت لي الحلقه 49 جزء 1 و 2, معكم صديقة زاكي الشيف الموهوبة ,leen

رواية انت لي

الحلقة التاسعة و الاربعون

الجزء الأول

يا شقيقي الوحيد

تقترب الساعة من السابعة والنصف ووليد لم يظهر بعد! سأتأخر عن الجامعة… ألا يزال نائما حتى هذه الساعة؟؟

كان لا بد لي من الذهاب إلى غرفة المعشية – حيث ينام – وطرُقِ الباب…

نحن لا نكلم بعضنا منذ أيام… في الواقع العلاقة بيننا شبه منقطعة منذ زمن… وبعد موضوع الفنان عارف هذا الأخير… لم نعد نتبادل غير التحية…

لكن أنا أرضى من وليد بأي شيء… حتى لو قرر أن يتجاهلني تماما… سأقبل… أريد فقط أن يبقيني تحت جناحه… وأن يسمح لي بأن أراه ولو مرة واحدة كل يوم…

واليوم سيأخذني إلى الطبيب حتى تنزع جبيرة رجلي أخيرا… وأستعيد كامل حركتي… أخيرا…

طرقت الباب مرارا ولم يجبني. كان الوقت يداهمني لذلك لم أتردد كثيرا قبل فتح الباب… والمفاجأة كانت أنه لم يكن في الداخل!

بحثت عنه في المطبخ والغرف المجاورة ولم أجده. شعرت بالقلق… ورجحت أن يكون في الطابق العلوي. لم تكن الخادمة قد استيقظت بعد… اتصلت بغرفته العلوية عبر الهاتف الداخلي وما من مجيب… ازداد قلقي… فاتصلت بهاتفه المحمول… وأخيرا تلقيت ردا:

“نعم رغد”

قالها بسرعة وكأنه على عجلة من أمره أو مشغول… سألته مستغربة:

“أين أنت؟؟”

فأجاب:

“في الجوار… سأصل بعد قليل”

ولكن! إلى أين ذهبت في هذا الصباح الباكر؟؟ وكيف غادرت وتركتني!؟؟

قلت:

“حسنا”

وأنهيت المكالمة وجلست أنتظره في المطبخ. جاء بعد قليل وكان يحمل معه كيسا يحوي أقراص الخبز وفطائر وأطعمة أخرى, فاستنتجت أنه كان في المخبز.

قاد وليد السيارة بسرعة كبيرة نحو الجامعة, على غير العادة… وتلقى ثلاثة اتصالات هاتفيه أثناء الطريق… وكان ظاهرا من كلامه… أن هناك ما يقلقه…

لم أجرؤ على سؤاله… فالتواصل بيننا مؤخرا كان مجمدا… ذهبت إلى جامعتي وقضيت نهاري بين زميلاتي بشكل اعتيادي… دون أن يخطر ببالي… أنه سيكون النهار الأخير…

بعد انتهاء المحاضرات, جلسنا أنا ومرح عند المواقف ننتظر وصول سيارة وليد كالعادة… فهو من كان يوصلنا يوميا ذهابا وإيابا إلى ومن الجامعة. مرت بضع دقائق ولم تظهر السيارة… ووجدت مرح في الانتظار فرصة لتطرح علي السؤال التالي:

“هل من جديد… عن موضوعنا؟؟”

تعني موضوع عرض الزواج!

آه يا مرح! وهل هذا وقته؟؟

لم أشأ أن أكون فظة… وأخبرها مباشرة بأن تنسى الموضوع نهائيا… خصوصا وأن هناك طلب رسمي من عائلتها مقدم رسميا إلى وليد… ولي أمري.. والذي يجب أن يتولى بنفسه الرد الرسمي على الطلب, لم أشأ أن أحرجها وأحرج نفسي لذا قلت متظاهرة بالمرح:

“انتظروا رد أبي!”

لكنني لم أتخلص منها إذ سألت من جديد:

“ماذا عن رأيك أنت؟؟ هل توافقين على الفكرة مبدئيا؟؟”

واحترت بم أجيب؟!

ربما فسرت مرح حيرتي بأنها قبول وخجل… فها هي تبتسم بسرور!

أظهرت الجد على ملامح وجهي وقلت:

“مرح… هناك شيء لم أطلعك عليه من قبل”

فاتسعت ابتسامتها وقالت بفضول مندفع ممزوج بالمزح:

“ما هو؟؟ أخبريني!سرك في بئر!”

آه! يبدو أنه من الصعب أن تأخذ مرح الأمور بجد حقيقي!

قلت وأنا مستمرة في نبرة الجد:

“لقد… كنت مخطوبة في السابق”

اتسعت حدقتا مرح بشدة… وحملقت بي غير مصدقة, فقلت مؤكدة:

“نعم… ولعدة سنوات!”

قالت بعد ذلك وفمها مفغور:

“أحقا!! لا أصدق! كيف!؟؟ متى؟؟ أين؟؟ من؟؟”

انتظرت حتى تستفيق من أثر المفاجأة ثم قلت:

“بلى صدقي”

فقالت مباشرة:

“متى رغد!؟”

أجبت:

“منذ سنين… كنت صغيرة…و… لقد انفصلت عنه… قبل شهور”

لم تخف مرح دهشتها الشديدة…

أستغرب من نفسي!!

كيف أذكر هذا الموضوع وكأنه موقف عابر وانتهى… بينما كان في الواقع حدثا استمر لأربع سنين؟؟!!

أربع سنين عشتها مخطوبة لسامر… وأنا لا أعرف ما هي حقيقة مشاعري نحوه… أصلا… لم أكن أعرف أن هناك أنواع من الشعور… لم أذق منها سوى طعما واحدا… إلى أن ظهر وليد في حياتي من جديد… وأذاقني أصنافا أخرى…

سألت مرح:

“من كان؟؟”

فنظرت إليها نظرة قوية… ثم أبعدت بصري عنها وطأطأت رأسي… وبعد تردد قصير أجبت:

“ابن عمي”

حينها هتفت مرح بدهشة وهي ترفع يدها إلى فمها:

“المليونير!!! وليد شاكر!!؟؟”

التفت إليها بسرعة وقد لسعني تعليقها بقوة فأجبت بتوتر:

“لا… لا…”

ثم زممت شفتي وأضفت:

“شقيقه الأصغر”

فقالت مرح وقد بدا وكأنها آخذة في الاستيعاب:

“هكذا… إذن!”

ثم صمتت قليلا… وعادت تسأل:

“و… لماذا انفصلتما؟؟”

وعند هذا الحد كان يجب أن نتوقف… قلت وأنا أفتح حقيبتي وأستخرج هاتفي وأتظاهر بعدم الاكتراث:

“لا نصيب”

واتصلت مباشرة بوليد… أسأله عن سبب تأخره…

وأدهشني وحيرني حين أجاب:

“أنا آسف يا رغد. لا أستطيع الحضور الآن. مشغول جدا. عودي مع صديقتك”

**********

كنت ساعتها أبذل كل الجهود الممكنة والمستحيلة من أجل تسهيل أمر ترحيل أخي إلى الخارج في أي لحظة تصل يدي إليه… اتخذت عشرات التدابير… ووضعت عدة خطط وبدائل خطط… استعدادا للعملية…

لم يعد لدي شك في أن أخي بالفعل متورط مع تلك المنظمة… ولم أعد بحاجة إلى دليل إضافي بعد ما وجدت في الصندوق…

لا وقت لدي كي أستوعب وأحلل… أنا هنا فقط لأعمل وأعمل… بشتى الطرق… لأعثر عليه وأخرجه من البلد قبل أن تسبقني السلطات إليه…

ولشخص مثلي… عاش في السجن ثمانية أعوام… ورافق مجرمي أمن البلد… وعاصر مصارعهم أمام عينيه, لا أحد بحاجة لأن يشرح لي… ما الذي يمكن أن يلاقيه أخي… لو تم اعتقاله…

عدت إلى المنزل عند الخامسة… في أشد أشد حالات الإعياء والتعب…

عند وصولي استقبلتني رغد بوجه قلق… وسألتني مباشرة:

“تأخرت وليد…”

وسرعان ما لاحظت أثر الإعياء صارخا على وجهي… فقالت هلعة:

“ماذا هناك…”

فركت عيني اللتين لم تذوقا للنوم طعما منذ البارحة ثم قلت:

“متعب من العمل… سأخلد للنوم”

وخطوت خطوة باتجاه غرفة المعيشة, فاستوقفتني رغد قائلة:

“موعدي مع الطبيب”

فتذكرت… أن اليوم… هو موعد نزع جبيرة رغد… وهو أمر ألغاه من ذاكرتي ما حل مكانه بكل قوة…

التفت إليها وقلت:

“لا وقت لدينا”

فنظرت إلي بحيرة واستغراب وحزن… عندها اقتربت منها خطوة وقلت:

“رغد… اجمعي أهم أشياءك في حقيبة… جهزيها في أسرع وقت اليوم”

بدا الذعر على وجه صغيرتي ورفعت يدها نحو عنقها وقالت متوجسة خيفة:

“ستعيدني إلى خالتي؟؟… كلا أرجوك”

فحملقت فيها قارئا مخاوفها وتوسلاتها ثم قلت:

“ليس هذا… قد نضطر إلى سفر طارئ وحرج في أية لحظة… استعدي”

وتابعت سيري إلى غرفة المعيشة تاركا إياها في حيرتها… واستلقيت على الكنبة وغرقت في النوم بسرعة…

“وليد… سامر هنا”

فتحت عيني… واستفقت لأكتشف أنني لا زلت نائما على الكنبة… وأرى رغد تقف أمامي…

لكن… مهلا… ماذا كانت تقول؟؟ ماذا كنت أحلم؟؟ ماذا سمعت؟؟ ماذا هيئ لي؟؟

استويت جالسا وأنا لا أزال بين النوم والصحوة… ونظرت إلى ساعة يدي… فرأيتها تشير إلى الثامنة مساء…

أوه… الصلاة…

قلت:

“لماذا لم توقظيني عند المغرب؟”

كان شيئا من القلق علو وجهها… وسمعتها تقول:

“لم أكن أعلم أنك لا تزال نائما… أحسست بحركة في المنزل فبحثت عنك… ووجدتك نائما هنا… سألت الخادمة فأخبرتني بأنها رأت السيد الأصغر يصعد السلم… أتيت لأوقظك وأخبرك بهذا”

لخمس ثوان بقيت محملقا فيها أستوعب ما قالته… ثم… وبسرعة البرق… قفزت من مكاني وركضت طائرا نحو الطابق العلوي…

أقبلت باندفاع نحو غرفة شقيقي وكان الباب مغلقا… ففتحته بسرعة واقتحمت الغرفة…

وكم كاد قلبي أن ينفجر من البهجة… حين رأيت شقيقي سامر… يقف أمام عيني…

“الحمد لله”

انسكبت الجملة من لساني وطرت نحو شقيقي وطوقته بذراعي وضممته إلى صدري…

“حمدا لك يا رب… حمدا لك يا رب”

ألف حمد لك يا رب… فقد رددت إلي شقيقي سالما… حيا… معافى… الآن أستطيع أن أخبئه… أن أحميه بحفظك… وأبعده عن الخطر…

أزحت ذراعي عن أخي ونظرت إلى عينيه… فرأيت الشك… والاتهام ينبعثان منهما… وانتبهت حينها إلى الصندوق الذي كان سامر يخبئ فيه السلاح… موضوعا ومفتوحا على السرير…

كلانا نظر إلى الصندوق… ثم إلى بعضنا البعض… ونظرتنا تبلغ إحداها الأخرى… بما استنتجت…

أخيرا نطق سامر قائلا:

“أين هو؟؟”

يقصد المسدس.. والذي أخذته أنا من صندوقه ذلك اليوم, وأخفيته…

لم أجب… فكرر سامر وبنبرة أغلظ وأشد:

“أين هو؟؟”

حدقت به برهة ثم قلت:

“تخلصت منه”

الرد باقتباس

{[ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ – إلهي لكـ الحمد والشكر نستغفركـ ياعفو ياغفور ]} 169

قديم(ـة) 26-07-2008, 12:14 AM

الكيان الحنون الكيان الحنون غير متصل

©؛°¨غرامي مشارك¨°؛©

الافتراضي رد: رواية انت لي كامله من البدايه إلى النهايه

بدأ وجه شقيقي يضطرب… تغيرت ألوانه وتبدلت سحنته… وزفر بنفاذ صبر وعاد يكرر:

“وليد… أخبرني أين وضعته؟؟ ولماذا سمحت لنفسك باقتحام غرفتي والعبث بأشيائي؟؟”

قلت محاولا امتصاص غضبه وأنا أمسك بذراعه:

“دعنا نجلس ونتحدث”

غير أن أخي سحب ذراعه من يدي وهتف بعصبية:

“أعده إلي يا وليد الآن… لا وقت عندي”

فنظرت إليه بعطف وقلت:

“لا وقت… لماذا؟؟ ما أنت فاعل؟؟”

فرد باقتضاب:

“ليس من شأنك… ولا تقحم نفسك في ما لا يخصك”

فرددت مباشرة معترضا:

“لا يخصني؟؟ أنت شقيقي يا سامر… شقيقي الوحيد وكل ما يتعلق بك يخصني ويعنيني”

قال سامر بعصبية وصبر نافذ:

“وليد لو سمحت… لا داعي لتضييع الوقت في الكلام… أعد السلاح إلي في الحال ودعني أذهب”

وكلمة (أذهب) هذه هزت جسدي من شعر رأسه إلى أظافر قدميه… ثم هززت رأسي بــ (كلا) فما كان من أخي إلا أن تجاوزني وسار مندفعا نحو الباب وهو يقول:

“سأفتش عنه بنفسي”

وانطلق نحو غرفة نومي… دخلها وباشر بتقليب الأشياء وبعثرة كل ما تقع يده عليه, بحثا عن المسدس…

وقفت عند الباب أراقبه… وأنا لا أصدق أنها الحقيقة… أخي أنا… عضو في منظمة للمتمردين… يشارك في تنفيذ عمليات إجرامية؟؟ أخي أنا… يملك سلاحا… ويغتال البشر…؟؟

“أين أخفيته يا وليد تبا لك!”

قال ذلك بعد أن اشتط به الغضب ويأس من العثور على ضالته… فقلت: “لا تتعب نفسك… إنه ليس هنا”

التفت إلي والشرر يتطاير من عينيه وزمجر:

“إذن… لن تدلني على مكانه؟؟”

فأجبت بحزم مع مرارة:

“أبدا”

وما كان من شقيقي إلا أن ألقي ما كان في يده وسار منطلقا إلى خارج الغرفة وباتجاه السلم…

تبعته وأنا أقول:

“إلى أين ستذهب؟؟ إنه ليس في المنزل”

فسمعته يرد:

“إذن… سأترك لك أنت المنزل”

انفجرت القنابل في رأسي… ركضت خلفه وأنا أهتف:

“انتظر… انتظر”

قفزت الدرجات قفزا حتى أدركته عند أواخرها وأطبقت بيدي على ذراعه… قلت:

“لن أدعك تخرج”

سامر حاول تحرير ذراعه من قبضتي فشددت أكثر… فصرخ في وجهي:

“اتركني”

غير أنني شددته أكثر وأعقته عن التقدم…

حينها سدد ركلة بركبته إلى معدتي مباشرة… وفرط الألم أصابني بشلل مفاجئ… فتمكن من الإفلات من قبضتي وهرول مبتعدا…

لحقت به بسرعة وأدركته عند الممر فأمسكت به وجذبته وأنا أهتف:

“لن أدعك تذهب يا سامر… لن ادعك”

ودارت بيننا معركة عنيفة… أشد شراسة وضراوة من تلك التي أشعلناها ليلة زيارة (عارف المنذر) لنا…

كنت أضربه وأنا أتألم… أمزق ملابسه وأنا أتمزق… أدميه وأنا أنزف… يستحيل أن أتركك تخرج يا سامر… وإن اضطررت لكسر ساقيك فسأفعل… لكنني لن أدعك تقع في أيدي السلطات… لن أدعهم يلمسوا منك ولا شعرة واحدة…

*********

وقفت أشاهد عراك ابني عمي الجنوني مذعورة… ألصق جسدي بالجدار خشية أن تنالني صفعة طائشة من أي من قبضتيهما!

كلما ضرب أحدهما الآخر أطلقت صيحة ذعر وأخفيت عيني خلف راحة يدي.. وانتفض جسمي. كان سامر يحاول التوجه إلى المدخل.. إلى الباب.. لكن وليد كان يجره في الاتجاه المعاكس وهو يصرخ:

“لن أسمح لك بالذهاب… لن أدعهم يمسكون بك… لن أسلمك للموت بهذا الشكل أبدا”

وسامر يحاول التحرر من يده وهو يصرخ:

“اتركني… لا شأن لك بي…”

فيرد وليد:

“سيقبضون عليك ألا تفهم؟؟ سيلقون بك في السجن إلى أن يعدموك بأبشع وسيلة.. أنا لن أسمح لهم بالوصول إليك”

ويحتدم العراك بين الشقيقين وأرى اللون الأحمر يشق جداول وبركا على جسديهما…

يضرب سامر ساق وليد بقوة فيجثو أرضا… ويحاول سامر الفرار فتقبض يدا وليد على رجله ويشده بعنف فيفقد توازنه ويقع أرضا… يطبق وليد على رجلي سامر ويجره في الممر عنوة… يحاول سامر النهوض ويفشل.. يصرخ:

“اتركني… ابتعد”

ويوجه ركلة بقدمه نحو وليد فتصيب أنفه مباشرة… لكن وليد لم يطلق سراح سامر من قبضته بل جره وهو يحك جسده بالأرض… ويحاول سامر غرس أظافره في الرخام الأملس دون جدوى… فيصرخ بصوت أقوى وأعنف:

“اتركني أيها الوحش”

ووليد مستمر في جر أخيه إلى أن أدخله مجلس الضيوف… لم أعد من مكاني أستطيع رؤيتهما لكن صراخهما كان يدوي في كل المنزل… وسمعت أيضا صوت المزيد من الركلات والضربات والآهات المتوجعة القوية… والتي جعلتني أرجح أن كسرا ما قد أصاب عظام منهما…

لم أشعر إلا ودموع الرعب تنسكب فائضة من عيني…

لقد… سبق وأن عاصرت عراكا بينهما,ولكن ما يحدث الآن… يفوق حد الجنون…

“رغد”

فجأة انتفض جسمي على صرخة أحد يهتف مناد باسمي…

“رغد… تعالي بسرعة”

حتى أنني لقوة الزمجرة لم أعرف صاحبها…

“رغد أسرعي”

أمسكت بعكازي وهرولت نحو المجلس تاركة قلبي معلقا على الجدار الذي كنت أستند إليه… فور وصولي إلى فتحة الباب وقع بصري على وليد يلوي ذراع سامر وهو يلصقه بالجدار بينما يحاول سامر التملص ويسدد رفسات عشوائية نحو رجلي وليد…

“أغلقي الباب بالمفتاح”

قال ذلك وليد, فنظرت إليه غير مستوعبة… ماذا يقول..؟؟

فصرخ:

“هيا بسرعة..”

ارتجفت من صرخته ونظرت إلى الباب ورأيت المفتاح مغروسا في ثقبه…

صرخ وليد:

“أقفليه بسرعة هيا”

وفي نفس الوقت صرخ سامر:

“إياك يا رغد”

فصرخ وليد صرخة مجلجلة:

“تحركي”

انصعت بعدها لأمره بلا إدراك, وأغلقت الباب وأقفلته…

وقفت خلف الباب المقفل واضعة يدي على صدري… وأنا أحملق في المفتاح… ولم يعطني العراك الذي هز الباب أمام مرآي, أي فرصة للتفكير واستيعاب ما يجري…

ابتعدت عن الباب وأنا أتوقع أن يقلع في أية لحظة… كان جسد أيا منهما يرتطم به المرة بعد الأخرى… ثم أخذت قبضتا أحدهما تدكه دكا…

“افتحي يا رغد”

لقد كان سامر…

“إياك أن تفتحي… ابقي مكانك”

صوت وليد…

وتداخلت الأصوات الصارخة الثائرة المجنونة… افتحي لا تفتحي… حتى شعرت بالدوار وخررت على الأرض…

انطلق البكاء المكبوت من صدري أخيرا وأخذت أصرخ:

“ماذا يحدث… ما الذي تفعلانه؟؟ ماذا حل بكما؟؟”

وأنا لا أفهم شيئا…

ثم سمعت ضربات قوية على الباب أوشكت على اختراقه من شدتها… وصراخ سامر يهتف:

“افتحي الباب يا رغد”

يليه صوت وليد:

“لا تستمعي إليه يا رغد… إذا خرج فسوف يقتلونه… إياك يا رغد…”

التفت إلى الباب وهتفت:

“من يقتلون من؟؟”

فجاءني رد وليد:

“الشرطة تطلبه… سيجدونه حتما… أنا سأنقذه قبل أن يصلوا إليه…”

أنا… لا أفهم شيئا… لا أفهم شيئا…

“رغد”

ناداني وليد:

“رغد أتسمعين؟؟”

أجبت:

“نعم”

قال:

“أحضري هاتفي المحمول بسرعة”

لم أعقب… فقال:

“هل تسمعينني يا رغد؟؟”

قلت:

“ما الذي يجري؟؟ أنا لا أفهم؟؟”

فقال:

“أحضري هاتفي… ولا تفتحي الباب إلا حين أطلب أنا ذلك… بسرعة يا رغد”

ونهضت, وامتثلت لأمر وليد وجلبت هاتفه من غرفة المعيشة. وقفت عند الباب وقلت:

“الهاتف”

فسمعته يخاطب سامر:

“دعني أنقذك يا سامر… أنا أعرف سبيلا لذلك… لا تعترضني أرجوك”

لكن الظاهر أن سامر انكب مجددا على وليد وتعاركا ثانيا…

“ما الذي تريده مني؟؟ لماذا لا تتركني وشأني؟؟”

قال سامر, فأجاب وليد:

“لن أتركك وشأنك يا سامر… إنهم سيقبضون عليك ويقتلونك ألا تفهم؟؟”

فقال سامر:

“وما الذي يهمك أنت؟؟ هذه حياتي أنا”

فيرد وليد بصوت شجي متألم:

“كيف تقول ذلك؟؟ إنك أخي الوحيد… كل من تبقى لي من عائلتي… أنا لا أقبل أن يصيبك أي ضرر”

فرد سامر:

“منافق”

فجاء صوت وليد يرد بألم أشد:

“أنا يا سامر؟؟”

فيقول سامر:

“أنت أصلا لم تكترث لي ولمشاعري… أي أخوة وأي نفاق”

وحل صمت مفاجئ… بعد طول جلبة وضجيج… ثم سمعت وليد يقول:

“أكترث لك ولكل ما يعنيك يا سامر… ألا ترى ما أنا فيه؟؟ ألا ترى؟؟ ألا تعرف ما حل بي منذ عرفت؟؟”

ثم أضاف:

“دعني أجري اتصالاتي وأتصرف بسرعة قبل فوات الأوان”

فقال سامر:

“وفر جهودك… لقد فات الأوان… أنا لا يهمني أي شيء… لا الحياة ولا الموت”

فرد وليد:

“لم يفت الأوان… سأعمل على إخراجك من البلد ومن كل بد”

ثم تغيرت نبرته إلى الرجاء وقال:

“ابق مكانك… أرجوك أنا مرهق… لا طاقة لي بالمزيد”

ثم اقترب صوته… صار عند الباب مباشرة… خاطبني أنا قائلا:

“رغد افتحي الباب”

وبقيت لثوان مترددة… وسألت:

“هل أفتح؟؟”

فأجاب:

“نعم افتحي”

بحذر أدرت المفتاح في ثقبه… ثم رأيت قبضة الباب تدور… والباب ينفتح ويظهر منه وليد… بمظهر فظيع ومرعب…

تحرك وليد بسرعة إلى الخارج وصد محاولة سامر للحاق به وأغلق الباب وأقفله فورا…

أخذ سامر يضرب على الباب بيديه ورجليه وهو يصرخ طالبا منا فتحه ووليد واقف على الناحية الأخرى يقول:

“لن أفتحه يا سامر… أرجوك لا تعقد علي الأمر… انتظر حتى أؤمن فرارك… أرجوك ثق بي”

صرخ سامر:

“جبان… ستدفع ثمن هذا…”

ولم يجب وليد…

رأيته يطأطئ رأسه… ثم يمسح براحته على وجهه ثم يرفه رأسه متأوها ويمسد على ذراعه… ثم يستدير إلي…

هل أصف لكم كيف كان؟؟

يفوق الوصف…

الملابس… ممزقة… ملطخة بالدماء… العنق… مخطط بالخدوش الدامية… الشعر مبعثر في كل الاتجاهات… كعش هجره عصفوره قبل أن يكمله… الوجه متورم شديد الاحمرار… متغير الملامح… يحملق الناظر فيه بضع دقائق… ليعرف صاحبه… وشارعان متوازيان من الرواسب المالحة… يمتدان من المقلتين شاقين الوجنتين… ينتهي أحدهما إلى غابة من الشعر الأسود… والآخر يصب كنهر ناضب في بركة من الدماء الغزيرة…تنبع من أنفه…

وليد… قلبي!!!

مد وليد يده باتجاهي… ومن فرط ذهولي بفظاعة منظره… لم أفهم ما يعني…

هل… هل يريد أن… أشد على يده وأربت عليه؟؟

أم… يريد أن… أنظف جراحه وأضمدها؟؟

أم… يريد أن يستند إلي… نعم… فهو في حالة فظيعة… وربما لا يستطيع السير بمفرده…

لما أحس وليد ضياعي, قال:

“الهاتف”

هنا ضرب سامر الباب وصرخ:

“افتحوا الباب… دعوني أخرج من هنا”

تناول وليد الهاتف من يدي, ثم نزع المفتاح من ثقبه, ونظر إلي وقال:

“إياك يا رغد… أن تفتحي له… إياك”

وربما لاحظ تيهي… وعدم استيعابي لشيء… فقال مؤكدا ومحذرا:

“حياته بين أيدينا… إياك وفتح الباب مهما حصل… أتفهمين؟؟”

أفهم؟؟ أفهم ماذا يا وليد؟؟

هززت رأسي كيفما اتفق… وحاولت أن أنطق بسؤال, غير أن وليد كان قد باشر بالاتصال الهاتفي… وابتعد عني… واختفى…

بعد ذلك بأربعين دقيقة وفيما كنت أجلس في غرفتي في حيرتي وهلعي أتاني وظاهر عليه أنه استحم ونظف جروحه وبدل ملابسه وأخبرني بأنه سيخرج في مشاوير مهمة وسيعيد الخادمة إلى مكتب التخديم… وسألني إن كنت قد جهزت حقيبة السفر وانزعج عندما أجبته بالنفي…

“لا وقت أمامنا يا رغد… اجمعي أهم أشياءك واستعدي للسفر الطارئ خلال يومين أو ثلاثة”

تفاقم القلق على وجهي وسألت:

“ألن توضح لي ما يحصل؟؟”

فأجاب إجابة مقتضبة وهو يستدير ويغادر:

“تورط في عمليات شغب خطيرة… السلطات ستقبض عليه… أريد أن أفر به من البلد وبعدها نوضح الأمور”

توقف وليد واستدار إلي ونظر إلي نظرة جد وتحذير:

“لا تفتحي الباب يا رغد… إياك”

أطال النظرة إلي, ثم غادر… تاركا إياي في ذهول ما بعده ذهول…

بعد ذلك بفترة قصيرة… خرجت من غرفتي وتسللت بحذر نحو غرفة المجلس… اقتربت من الباب, وألصقت أذني به مسترقة السمع لأي حركة أو صوت يصدران من الداخل… كان الهدوء التام يغمر الغرفة بحيث لا تصدق أنها كانت تعج بالصراخ كالبركان قبل فترة…

همست بصوت خفيف:

“سامر”

ولم أجد جوابا, فطرقت الباب طرقا خفيفا وأنا أنادي:

“سامر… هل تسمعني؟؟”

جاء صوت سامر يجيب:

“رغد”

ثم أحسست بحركة… سمعت سامر بعدها يقول وقد اقترب صوته من الباب:

“أين وليد يا رغد؟؟”

أجبت:

“خرج من المنزل”

فسأل:

“إلى أين ذهب؟؟”

قلت:

“قال أن لديه مشاوير ضرورية ليقطعها”

صمت سامر… فقلت:

“كيف إصاباتك؟؟”

فأنا لا أستبعد أن يكون عظم منه قد كسر… بعد العراك الوحشي مع وليد. لم يجب سامر فالتزمت الصمت قليلا ثم سألت:

“ماذا يحدث يا سامر؟؟ أخبرني”

ولكنه لم يجب. فواصلت:

“أرجوك قل لي… ما الذي فعلته ويعرض حياتك للخطر؟؟ ولماذا؟؟ أنا لا أصدق…”

قال سامر فجأة:

“رغد افتحي الباب”

ابتعدت عن الباب, وكأنني أخشى أن أنصاع للأمر بمجرد قربي منه… ولم أعقب… فقال سامر بنبرة رجاء شديد:

“أرجوك يا رغد… افتحي الباب… هناك من ينتظرني… الأمر مهم جدا”

فتشجعت وسألت:

“أي أمر؟؟”

فسكت سامر برهة ثم أجاب:

“لا أستطيع أخبارك… افتحي الباب ودعيني أخرج قبل عودة وليد… إنه لا يعرف شيئا ولا يفهم الحقيقة”

أعدت ذات السؤال:

“أي حقيقة؟؟”

فقال بنفاذ صبر:

“لا أستطيع أن أشرح لك الآن… يجب أن أخرج وإلا فإن كارثة ستحل بأصدقائي… أرجوك يا رغد… افتحيه ودعيني ألحق بالأوان قبل فواته”

تراجعت للوراء خطوة وأنا أهز رأسي رفضا… وكأنني أحذر نفسي وأنذرها من مغبة الانصياع…

سمعت سامر يطرق على الباب وهو يقول:

“أين أنت يا رغد… أرجوك… افتحيه”

فقلت:

“لا أستطيع”

قال:

“لماذا؟؟”

فأجبت:

“وليد…”

وقبل أن أتم الجملة قاطعني قائلا بحنق:

“وليد لا يعرف الحقيقة… إنه سيندم كثيرا حينما يكتشفها… لا وقت لأوضح لك يا رغد… أرجوك افتحيه وخلصيني”

قلت:

“انتظر حتى يأتي وليد وبين له الحقيقة… ثم… ثم إن المفتاح معه هو”

فقال:

“ستجدين مجموعة المفاتيح الاحتياطية في درج مكتبه كما يتركها عادة… هاتي المجموعة وفتشي عن المفتاح المناسب. بسرعة يا رغد… أرجوك”

قلت وأنا أبعد يدي خلف ظهري:

“لا أستطيع يا سامر… وليد حذرني”

فإذا به يقول فجأة:

“طبعا ستطيعينه هو”

فوجئت من كلامه, وسحبت يدي نحو صدري ثم قلت مبررة:

“لأنه… قال… إن هذا خطر على حياتك”

فرد سامر بعصبية:

“غير صحيح… إنه مخطئ… بقائي هنا خطر على حياتي وحياة أصدقائي”

ثم أضاف:

“أنت تشاركين في تعريض حياتنا للخطر… هل هذا يرضيك؟؟”

قلت:

“لا”

فقال:

“إذن افتحي الباب… وأنا أضمن لك بأننا سنكون بخير وممتنين لك على إنقاذنا”

“أحقا؟؟”

“أجل يا رغد… هيا الآن افتحيه… وأنا سأتصل بوليد وأشرح له كل شيء… عجلي أرجوك”

احترت في أمري… فسامر يبدو صادقا جدا فيما يقول… وكان يقنعني بأنني أعرض حياته للخطر بإبقائه حبيسا… لكن نظرات وليد المهددة… وهو يخاطبني قبل خروجه مباشرة تجعلني أتردد… وأبتعد عن الباب…

“رغد… الآن”

قال سامر… غير أنني أجبت حاسمة الأمر:

“لا أستطيع يا سامر… سامحني”

وسمعت على أثرها ضربة قوية تصدع الباب لها…

عدت إلى غرفتي وبدأت أحاول جمع أهم حاجياتي في حقيبة صغيرة… وبعد نصف ساعة سمعت ضربا على باب غرفة المجلس, وصوت سامر يناديني…

توجهت إليه مسرعة وقلت:

“نعم سامر أنا هنا”

فقال:

“رغد هل لي ببعض الماء من فضلك؟؟”

ولما لاحظ صمتي قال بنبرة رجاء:

“أكاد أموت عطشا… اجلبي لي قارورة كبيرة رجاء”

قلت بتردد:

“لكن…”

فقال بنبرة أشد رجاء… تذوب لها الصخور الصلبة:

“لكن ماذا يا رغد؟؟ سألتك بالله… حلقي تجرّح من شدة الجفاف… تكاد دمائي تتخثر في عروقها… أرجوك ولو كأسا واحدا”

انفطر قلبي لكلامه… لم أتحمل… ألقيت بثقل جسدي على الباب وقلت بنبرة توشك على البكاء:

“لا تخدعني يا سامر… أرجوك”

فقال:

“أخدعك؟؟ أقول لك إنني أكاد أموت عطشا… تبخرت سوائل جسمي في العراك مع ابن عمك… ألا ترحمين بحالي؟؟”

وللألم المرير الذي أحسسته, عزمت على أن أقدم له الماء… ولكنني ما كدت أبتعد بضع خطوات حتى سمعت صوت جرس المنزل يقرع…

كان قرعا متواصلا مربكا… شعرت بالخوف, وعدت أدراجي إلى الباب أخاطب سامر:

رواية انت ليالحلقة التاسعة و الاربعون الجزء 2

“جرس الباب يقرع”

قال:

“أسمعه”

قلت:

“من يكون؟؟ ولماذا يقرع بهذا الشكل؟؟”

فقال سامر:

“تجاهليه… إياك وأن تجيبيه”

وزادت الجملة فزعي… فقلت:

“من هذا؟؟ لا أشعر بالطمأنينة… أنا خائفة”

فقال:

“اسمعي يا رغد… اتصلي بوليد وأخبريه عن هذا وقولي له أن يتوخى الحذر”

فقلت وقلقي يتفاقم:

“هل تعرف من يكون؟؟”

فأجاب:

“لا ولكن الحذر واجب”

توقف القرع وأنا أتصل بوليد…

أخبرته فحذرني من الإجابة على أي طارق وأمرني بأن أبقى ساكنة لحين عودته.

سألني عن سامر فأخبرته بأنه يشعر بالعطش ويطلب الماء فنهاني عن تصديقه وأكد علي بألا أقترب من الباب نهائيا, وأخبرني بأنه سيعود بعد قليل…

وهذا القليل استمر قرابة الساعة… ولم تكن كأي ساعة…

جلست قرب عتبات متصلة بالممر المؤدي إلى غرفة المجلس… في منتصف المسافة ما بين باب المدخل الرئيسي للمنزل وباب المجلس… وألصقت أذنا على كلا البابين…

الأذن اليمنى كانت تسمع سامر وهو يسأل بمرارة:

“أين الماء يا رغد؟؟”

والأذن اليسرى تترقب عودة وليد… وأخيرا التقطت هذه الأذن صوت باب المدخل يفتح…

هببت واقفة ويممت أنظاري شطر المدخل… متلهفة لرؤية وليد يدخل… فيسكن قلبي…

إن مجرد الإحساس بوجوده فيما حولي… يشعرني بالطمأنينة والأمان… “لم تقفين هنا؟؟”

سألني بقلق وهو ربما يلحظ التعبيرات المتلهفة على وجهي, قلت:

“تأخرت”

فقال:

“توخيت المزيد من الحذر…”

فقلت بشيء من الاندفاع:

“سامر عطشان… عجل إليه بالماء أرجوك”

ورأيت عضلات فكه تنقبض ثم عقب:

“لعن الله الظالمين”

وسار مباشرة إلى المطبخ, وحمل قارورة ماء وكأسا فارغا واتجه بهما إلى غرفة المجلس…

“سامر… جلبت لك الماء”

قال وليد بعد أن طرق الباب واستخرج المفتاح من جيبه… ثم أضاف:

“أرجوك… لنتصرف كراشدين”

وبعد تردد قصير, فتح الباب ودخل…

**********

رأيت شقيقي جالسا على أحد المقاعد… مبعثر الشعر والملابس, وعليه إمارات الإعياء… وتصبغ ألوان الطيف وجهه المجروح… اقتربت منه وأنا أحمل القارورة الماء وكأسا… ملأته بالماء ثم قربته إليه وقلت:

“تفضل”

رمقني أخي بنظرة حادة… وبدا كأنه متردد… ثم حرك يده باتجاه الكأس.

تناول الكأس مني, وألقى علي نظرة, ثم… إذا به يسكب محتواه فجأة نحو وجهي…

وقف بسرعة وألقى بالكأس وهرول نحو الباب. وضعت القارورة جانبا وركضت خلفه مسرعا وأمسكت به وجررته إلى الداخل, ثم دفعت به بقوة نحو المقعد وجريت نحو الباب وخرجت وأقفلته على الفور.

سمعت صوت أخي يصرخ:

“افتح يا وليد… أنا لست حيوانا لتحبسني هكذا”

فرددت بانفعال:

“ستبقى حبيسا هنا يا سامر إلى حين موعد السفر. لن أسمح لأي مخلوق بأن يصل إليك. أتسمعني؟؟ سأخرجك من البلد بعد الغد”

فصرخ سامر:

“ومن قال لك أنني أريد أن أخرج؟؟”

فقلت بعصبية:

“ستخرج يا سامر. ستفعل ما أطلبه منك حرفيا.. أفهمت؟؟ أنا دبرت كل شيء… لا فكرة لديك عما فعلته وما بذلته لأجل ترحيلك… مهما صرخت ومهما قاومت ومهما تعاركت.. ستفعل ما أريده أنا… شئت أم أبيت ستنفذ خطتي”

هاج سامر من جديد, وأخذ يضرب الباب حتى خشيت أن ينجح في اقتلاعه… التفت إلى رغد فرأيتها تنظر إلي نظرات ذعر واتهام…

لا أنقصك الآن يا رغد… أرجوك…

ابتعدت عن الممر وقلبي يعتصر لحالة شقيقي… ذهبت إلى مكتبي لأخذ بعض الأشياء ثم صعدت إلى الطابق العلوي لأعد حقيبة سفري…

كانت الأشياء مبعثرة في غرفة نومي… فقد قلبها أخي رأسا على عقب وهو يفتش عن السلاح…

استخرجت حقيبة سفر صغيرة وبدأت أجمع فيها أهم الحاجيات… وفي ذات الوقت أحاول إعادة النظام إلى الغرفة ولو قليلا…

فجأة… رأيت شيئا لم أكن أتمنى أن أراه آنذاك… شيئا أسطواني الشكل… مرميا مع مجموعة من الأشياء المبعثرة على الأرض…

صندوق أماني رغد!

وصدقوني… لم أنتبه ليدي وهي تضعه في الحقيبة خطأ… كنت شاردا… ولم أكتشف ذلك إلا لاحقا…

بعد أن انتهيت من إعداد تلك الحقيبة, أقفلت باب غرفتي ثم ذهبت لتفقد غرفة سامر… وأخذت منها هاتفه وحقيبته اليدوية والتي كانت تحتوي وثائق مهمة, وأشياء أخرى… ثم أقفلتها وبقية الغرف, وحملت الحقيبتين إلى الطابق السفلي, ثم ذهبت إلى رغد واستلمت منها حقيبتها, ونقلت الحقائب الثلاث إلى السيارة المركونة في المرآب… عندما عدت للداخل وجدت رغد تقف في انتظاري, وطبعا ألف علامة استفهام تدور حولها… لكنها لم تسألني عن شيء… ربما من هول الموقف… ألقت علي نظرة… وعادت أدراجها إلى غرفتها.

يدرك كلانا أن المأزق خطير وأنه ليس بالوقت المناسب للكلام…

اقتربت من باب غرفة المجلس, تحسسته… وداهمني ألم فظيع في معدتي… فانسحبت إلى غرفة المعيشة وابتلعت قرصين من دوائي لم يأتيا بمفعول يذكر وبقيت أتلوى على المقعد لوقت طويل…

الساعة الرابعة فجرا يرن منبه هاتفي المحمول, يوقظني لتأدية الصلاة…

أنهيت صلاتي وتلاوتي لآيات الذكر الحكيم ودعائي للرب الرحيم… ثم ذهبت إلى المطبخ ولا شيء يشغل تفكيري غير أخي…

وضعت بعض الطعام والماء على صينية, وتوجهت بها إلى غرفة المجلس…

كان نائما بكل هدوء على الأرض, وقد توسد إحدى الوسائد التابعة للمقعد… وتلحف بأخرى… رق قلبي له… أردت أن أربت عليه بحنان… لكني ربت بقوة أشد قليلا لأوقظه للصلاة…

استيقظ سامر وأخذ ينظر إلى ما حوله بهلع… يبدو أن تربيتي كان أقوى مما تصورت… قلت مطمئنا إياه:

“بسم الله… لا تفزع… إنه وقت الصلاة”

نظر إلي أخي ولم يكلمني… ثم نهض وجعل يمدد أطرافه بإعياء… وتوجه إلى دورة المياه التابعة للغرفة. أسرعت وجلبت سجادتي وفرشتها على الأرض… خرج أخي بعد قليل وقال:

“أريد أن أستحم”

ترددت قليلا… ثم خرجت وأقفلت الباب وعدت مجددا أحمل إليه ملابس نظيفة… وبقيت في الغرفة إلى أن أنهى حمامه وأدى صلاته… وعيني ترقبه من كل الزوايا…

قلت:

“تقبل الله”

فأجاب دون أن ينظر إلي:

“منا ومنكم”

ثم رأيته يضطجع على المقعد… قلت:

“جلبت لك بعض الطعام… أرجوك تناول شيئا”

ولم يلتفت أخي إلي…

قلت:

“سننطلق قبل طلوع فجر الغد… أخبرني إن كنت تحتاج شيئا لنأخذه معنا”

ولم يرد…

اقتربت منه وتحدثت إليه بكل عطف… بقلب يحمل كل الحب والقلق… إذ قلت:

“أخي… يا نور عيني… أنا لن أسألك لماذا فعلت هذا… ولا يهمني أن أعرف أي تفاصيل… إنني أريد فقط أن تنجو بحياتك وتبتعد عن الخطر بأسرع ما يمكن”

وتابعت:

“إنني عشت تجربة السجن… وقد كان معي في زنزانتي مجرمو سياسة وأمن بلد… ورأيت كيف عاملتهم السلطات وكيف عذبتهم أشد التعذيب وقتلتهم أمام ناظري”

قال أخي أخيرا:

“نحن لسنا مجرمين”

تفحصت رده ثم قلت:

“السلطات تعتبركم مجرمين. تصف كل من يعارضها علنا ويثير الشغب والفوضى بأي شكل من الأشكال تحت اسم مجرمي أمن”

التفت إلي أخي وكأنه يبدي إلي شيئا من الاهتمام لكلامي أخيرا… فتابعت:

“كانوا يعذبوننا أشد التعذيب… حتى أنا ورغم أنني لا أنتمي لتلك المجموعة, نلت نصيبي من الضرب المبرح المتوحش… لحبسي في الزنزانة الخطأ”

وأضفت وأنا أكشف عن صدري وظهري:

“انظر… كل هذا… وأكثر…”

مشيرا إلى الندب التي خلفتها يد التعذيب على جسدي… ثم أشرت إلى أنفي وتابعت:

“حتى أنفي كسروه كما ترى…”

وتابعت:

“وصديقي… والد أروى… عذبوه شر تعذيب حتى قضى نحبه وهو على ذراعي…”

وتخيلت صورة نديم… في آخر لقطة له قبل أن يسلم الروح… وانتفض جسدي وامتقع وجهي وعصرت عيني لأمحو الصورة الفظيعة…

قلت:

“بعد كل هذا… كيف تظن بأنني سأسمح لهم بأن يقبضوا عليك؟؟ أبدا… أبدا”

هنا جلس أخي ورد منفعلا:

“أنا لا يهمني الموت ولا التعذيب…”

ارتعدت من رده… وسألت:

“ما الذي يهمك إذن؟؟”

فقال:

“لا شيء… لاشيء يهمني في هذه الدنيا التعيسة… لا شيء”

وصمت قليلا ثم أضاف:

“لا شيء… بعد كل من فقدت… انتهى كل معنى للحياة في نظري… فأهلا بالموت…”

وجذب نفسا ثم تابع:

“لكنني لن أموت قبل أن أنتقم منهم”

تضاعف هلعي وسألت:

“ممن؟؟”

فأجاب بعصبية:

“من الأوغاد الخونة الغدارين… الذين قتلوا والديّ…”

فحملقت به مندهشا, فإذا به يقول:

“هل تظن أنهما قتلا برصاص العدو؟؟”

تفاقم تحديقي به, وأضاف:

“بل هي السلطات الخائنة… التي لم تبذل جهدا لتحمي مواطنيها… وسمحت للمعركة أن تنشب عند الحدود وبالتحديد عند الشارع الذي كانت تعبره حوافل المدنيين الأبرياء العُزّل…”

ووقف أخي من شدة انفعاله وهتف وهو يضغط على قبضته:

“جعلوا من الحجيج الآمنين مسرحا لجرائمهم النكراء… لن أسامحهم أبدا وسأجعلهم يدفعون الثمن”

ثم رأيته يحني رأسه ويخفي عينيه خلف يده… ويصمت برهة… ثم يبكي…

“سامر”

ناديته بنبرة ضعيفة حانية… فأزاح يده عن عينيه وقال يخاطبني وسط الدموع:

“أنت لم تر كيف كان جسداهما… لم تر شيئا… الجبين الذي كنت أعكف عليه تقبيلا وإجلال… مثقوب برصاصة اخترقت رأس أبي… والصدر الذي لطالما احتضننا… وفيه تربينا ومنه تغذينا… صدر أمي… منبع العواطف والمحبة والأمان… ممزق إلى أشلاء… حتى قلبها كان يتدلى خارجا منه… آآآآآآآآآه…. كيف لي أن أنسى هذا آآآآآآآآه”

وجثا أخي على الأرض وهوى بجبينه عليها وراح يبكي بصوت عال منفلت متألم… ويضرب الأرض بقبضته منهارا…

لم أقو على تحمل ما سمعت… أطلقت آهة ألم من صدري وسالت دموعي أنا الآخر…

كان سامر يضرب الأرض وهو يهتف:

“يا أبي… يا أمي”

ومع هتافه يتشقق قلبي وينطحن…

كنت ألاحظ منذ وفاتهما رحمهما الله, أن سامر كان أطولنا حزنا… وأكثرنا تذكرا لهما وتألما على الذكرى… لقد كانا أقرب إليه مني وكان أقرب إليهما مني… بحكم الفترة الزمنية الطويلة التي قضيتها في السجن بعيدا عنهما ومحروما منهما…

مددت يدي إلى كتفي أخي وشددت عليهما… إلى أن توقف عن البكاء والتفت إلي… ثم بدأ الشرر يتطاير من عينيه وقال:

“أو تظن أنني سأهرب… دون أن أنتقم؟؟”

قلت:

“تنتقم ممن؟؟”

قال:

“من أي شيء يتعلق بالسلطات… إنهم هم المسؤولون عن مقتل والديّ… وبهذه الطريقة البشعة”

وهب واقفا فشددت عليه أكثر فقال:

“دعني أطفئ النار المتأججة في صدري”

فقلت:

“وهل سيعيدهما للحياة… أن ترتكب أي عمل جنوني؟؟”

فقال:

“لكنّ غليلي سيشفى قليلا”

فقلت:

“وتدفع حياتك أو حريتك ثمنا؟؟ سامر إنهم لن يعتقوك”

فقال:

“لا أهاب الموت.. لا يهمني… وليس في حياتي ما يستحق العيش من أجله”

شعرت بالمرارة من جملته… فقلت مستدرا عطفه:

“كيف تقول هذا؟؟ سامر أنت لا تزال شابا صغيرا… لديك شبابك وصحتك… وعملك ومستقبلك… وعائلتك… كيف تضحي بكل هذا؟؟”

فأجاب وهو يرمقني بنظرة حادة…

“أي عائلة؟؟ الوالدان… قتلا… الشقيقة… رحلت بعيدا… الخطيبة… هجرتني… والشقيق…”

وأمال زاوية فمه بسخرية وأضاف:

“منافق.. متبلد.. لا يشعر.. لا يفهم… ولا يكترث…”

وأضاف:

“من بعد؟”

جرحني ما قاله عني… أبعدت يدي عنه ونظرت إلى الأرض برهة… ثم أعدت بصري إليه وقلت:

“بل أنا أحس يا سامر… أنت أخي… دماؤك هي دمائي… أكترث لك كثيرا… وإلا لما حبستك هنا وفعلت المستحيل من أجل سفرك”

قال سامر:

“ثم ماذا؟؟”

فقلت:

“ثم ماذا؟؟؟”

وأجبت على السؤال:

“ثم تبدأ حياتك من جديد في الخارج… المهم أن تخرج من الخطر الآن… وبعدها سأفعل من أجلك أي شيء”

فنظر إلي نظرة تشكك… ثم إذا به يسأل:

“هل ستعيد إلي والديّ؟؟”

وانتظر ردة فعلي التي لم تكن أكثر من النظرات الحائرة… ثم تابع:

“أم… هل ستعيد إلي خطيبتي؟؟”

هنا تصلب جسمي… وتجمدت نظراتي وفقدت القدرة على تحريكها…

ظل أخي يحملق بي وكأنه ينتظر الجواب… وطال الانتظار…

ابتسم أخي ابتسامة ساخرة واهية بالكاد لامست طرف شفتيه… ثم أولاني ظهره وجلس على المقعد معلنا نهاية الحوار…

انسحبت من الغرفة وأقفلت الباب… واستندت عليه وأغمضت عيني بمرارة…

فهمت.. أن موضوع عارف المنذر… هو الشرارة التي فجرت برميل الوقود…

هي رغد…

هل هذا هو الثمن الذي تطلبه لقاء حياتك يا سامر…؟؟

أتريد أن تخطف قلبي مني من جديد؟؟

أتريد أن أتنازل لك عن… أول وأكبر وأهم وأعظم حلم في حياتي؟؟

المخلوقة التي هي جزء لا يتجزأ مني… التي هي أنا… بروحي بقلبي بتفكيري بمشاعري بكياني بماضيّ بحاضري بكل معاني الأنا فيّ…

إنها ذاتي… كيف أكون… بدون ذات؟؟!!

آه… يا رب…

عندما فتحت عيني… خيل إلي أنني رأيت شبح رغد يقف في نهاية الممر… هل الإضاءة ليست كافية… أم أن غشاوة علت عينيّ من هول ما أنا فيه؟؟ أم… أم أنها خرجت من شريط أحلامي وظهرت أمامي كالطيف العابر..؟؟

أغمضت عيني مجددا… محاولا ابتلاع جرعة الشبح القوية هذه… التي ظهرت لي في أتعس لحظات حياتي… وعندما فتحت عيني من جديد… لم أر شيئا…

الحادية عشرة صباحا… استيقظت على رنين هاتفي المحمول الموضوع على المنضدة إلى جانبي… في غرفة المعيشة…

مددت يدي والتقطت الهاتف وأجبت مباشرة:

“نعم؟”

فسمعت صوت الطرف الآخر… والذي لم يكن سوى أبي حسام, والذي كنت على اتصال به أولا بأول أبلغه ويبلغني بكل جديد… وكنت قد أبلغته عن عودة أخي وحبسي له في المنزل…

“مرحبا وليد… اسمعني جيدا…”

وبدا من نبرة صوته أهمية وخطورة ما سيقوله, وسرعان ما أفصح:

“الشرطة في طريقها لتفتيش منزلكم… تصرف بسرعة”

نهضت فجأة… فتبعثرت قصاصات صورة رغد التي كانت نائمة على صدري منذ الفجر.. سألت وقد اجتاحني الفزع والقلق فجأة:

“ماذا؟؟”

فكرر أبو حسام:

“الآن يا وليد… أنا أراهم أمامي في الطريق المؤدي إلى منزلكم. اخف الأمانة بسرعة داخل المنزل… في الحال… في الحال”

قفزت بسرعة من مقعدي وركضت نحو غرفة المجلس… فتحت الباب وولجتها باندفاع وأنا أهتف:

“سامر بسرعة… الشرطة قادمة”

كان أخي نائما ولكنه سرعان ما انتبه على صوتي… أمسكت بذراعه وأنا أشده وأقول:

“تعال… يجب أن تختبئ في مكان آخر”

سامر سحب ذراعه من بين يدي وهو يقول:

“حُلّ عني”

فهتفت بعصبية:

“أقول لك الشرطة قادمة… ألا تفهم؟؟”

فأجاب ببرود:

“لا يهمني ذلك. سأسلم نفسي وننتهي من هذه المهزلة”

قلت صارخا:

“يبدو أنك لا تريد أن تفهم”

ثم أطبقت على ذراعه وجررته معي إلى خارج الغرفة أسير متخبطا لا أعرف أين أخبئه… ظهرت رغد في الصورة أمام باب المطبخ ورأت المنظر فهلعت وسألت:

“ماذا هناك؟؟”

فقلت وأنا أجر أخي رغما عنه نحو المطبخ:

“الشرطة… يجب أن نخبئه… لن أسمح لهم بأخذه ولو اضطررت لقتلهم جميعا”

سرت على غير هدى… مرسلا نظراتي لكل ما حولي… مفتشا عن مخبأ…

خرجت من الباب الخلفي للمطبخ… وسحبت أخي رغم مقاومته إلى الحديقة الخلفية المهجورة…

نظرت يمنة ويسرة… ولم أجد أمامي سوى قطع من الأثاث القديم الذي أخرجناه للفناء عندما أتينا للعيش في المنزل, أنا ورغد وأروى والخالة, رحمها الله…

وهناك… على مقربة من أدوات الشواء القديمة… التي أحرقت أخي ذات مرة… كانت مجموعة من قطع السجاد الملفوفة والمكومة على بعضها… كنا قد سحبناها إلى هذا المكان في ذلك الوقت…

لم تخطر إي فكرة في بالي… أصلا كان دماغي مشلولا عن التفكير… أريد فقط أن أخفي هذا الشقيق عن أعين الشرطة إلى أن أسفره للخارج…

دفعته حتى وقع أرضا… وجلست عليه حتى لأعيقه عن الحركة ومددت يدي إلى إحدى قطع السجاد الملفوفة ودفعتها لتنفتح…

سحبت أخي إلى طرف السجادة وجعلت ألفه بها كما تلف الحشوة بالورق… وهو يصرخ:

“ما الذي تفعله يا مجنون؟؟”

إلى أن أخفيته تماما في جوف اللفافة. سحبتها بعد ذلك بكل طاقات عضلات جسمي… وركنتها إلى جانب كومة اللفائف الأخرى… ثم أهلت عليها التراب لتبدو وكأنها مركونة هنا منذ سنين…

“إياك أن تصدر أي صوت يا سامر… لا تضع جهودي هباء… وإذا حاولت شيئا فسأستخدم سلاحك وأقتلهم جميعا… هل تسمع؟؟ لن أسمح لهم بأن يصلوا إليك أبدا”

وعمدت إلى الرمال أخفي أثار أقدامنا عنهم… ثم قربت وجهي من فتحة اللفافة وقلت:

“تحمل قليلا… سأخرجك فور ذهابهم… أرجوك اصمد وأنا سأحقق كل ما تتمناه… دعنا نسافر وافعل بعدها ما تريد… أرجوك يا سامر… أنا أرجوك”

وقمت مهرولا إلى الداخل…

كانت رغد واقفة عند باب المطبخ الخارجي تراقبنا مفزوعة, وكان جرس المنزل يقرع قرعا متواصلا.

سحبت الفتاة إلى الداخل وأقفلت باب المطبخ وقلت:

“إياك وفعل أي شيء يكشفنا يا رغد… أرجوك… حياة أخي رهن تصرفنا”

أسرعت إلى غرفة مكتبي… والتقطت سلاح أخي الذي كنت أخبئه هناك, وأخفيته في ملابسي…

جذبت نفسا عميقا ثم توجهت إلى باب المنزل الرئيسي ثم إلى الفناء الخارجي ثم إلى البوابة الرئيسية وفتحتها…

************

كنت في المطبخ أتناول فطوري بهدوء… إلى أن سمعت صوت باب يفتح ووقع خطوات تجري بارتباك على الأرض… قفز إلى ذهني الظن بأن سامر قد خرج من الغرفة بطريقة ما ويحاول الفرار… وسمعت صوت وليد بعدها يهتف:

“سامر بسرعة… الشرطة قادمة”

انتفضت ذعرا ووقف متكئة كليا على عكازي كعجوز طاعنة في السن… ثم جررت رجلي جرا نحو الباب… ورأيت وليد يقبل باتجاهي وهو يجر سامر قسرا… فسألت بفزع:

“ماذا هناك؟؟”

فرد باضطراب شديد:

“الشرطة… يجب أن نخبئه… لن أسمح لهم بأخذه ولو اضطررت لقتلهم جميعا”

أخرج وليد سامر إلى الفناء الخلفي ودفنه في جوف قطعة سجاد ملفوفة… مغمورة بالرمال والغبار…

إنه سيختنق إن بقي هكذا لبضع دقائق… بدون أدنى شك…

كانت عيناي معلقتين على لفافة السجاد وفوهي مفغور من الخوف والفزع… ولم أشعر إلا ويد وليد تسحبني إلى داخل المطبخ… ثم إذا به يختفي… لبضع ثوان… ثم يعود ومعه رفقة…

رأيت وليد يقبل نحو فتحة باب المطبخ ويطرقه بيده ويتحدث إلي بينما عيناه تراقبان شخصا آخر:

“بعد إذنك يا ابنة عمي… لدينا زوار”

ثم يدخل إلى المطبخ ويتبعه شرطي يرتدي الزي العسكري… شعرت بالقشعريرة تهز بدني ورأيت نظرة خاطفة أرسلها وليد إلي مليئة بالتحذير…

عبر الشرطي في المطبخ وهو يدوس بحذائه على الأرضية… وسار نحو المخزن وتفقده… ثم اتجه نحو الباب الخارجي وأمسك بقبضته وأدارها…

كنت حينها أتصبب عرقا وأكتم أنفاسي… وأقف مختبئة خلف وليد…

سمعت الشرطي يسأل:

“أين المفتاح؟؟”

فأجاب وليد:

“مفقود منذ زمن”

فسأل الشرطي:

“ماذا يوجد خلف الباب؟”

فأجاب وليد:

“الفناء الخلفي للمنزل”

فسار الشرطي متراجعا نحو باب المطبخ الداخلي… وغادره…

استدار وليد إلي ولم ينبس ببنت شفة… وبقينا نركز سمعنا على حركة رجال الشرطة وهم يفتشون في أرجاء المنزل…

أقبل أحدهم بعد ذلك إلينا وسأل:

“الغرف في الطابق العلوي مقفلة… أين المفاتيح؟؟”

فرد وليد:

“أجل… إننا لا نستخدم معظمها لذلك نبقيها مقفلة”

فكرر الشرطي:

“أين المفاتيح؟؟”

فقال وليد:

“سأجلبها لكم”

ثم التفت إلي وقال:

“تعالي معي”

وسرنا جنبا إلى جنب إلى غرفة مكتب وليد… حيث استخرج المفاتيح وسلمها للشرطي فقال الأخير:

“رافقنا للأعلى”

فقال وليد:

“الفتاة مصابة كما ترى…”

مشيرا إلى عكازي. فسلم الشرطي المفاتيح لرفقائه وأمرهم بتفتيش جميع الغرف… وبقي هو واثنان من أتباعه معنا في المكتب…

قال الشرطي:

“إذن… هل تقيمان بمفردكما هنا؟؟”

فأجاب وليد:

“تقيم معنا خادمة بشكل متقطع. وزوجتي مسافرة للحداد على والدتها المتوفاة مؤخرا”

سأل الشرطي:

“لمن ملكية هذا المنزل؟؟”

فقال وليد:

“ملكية مشتركة بيني وبين أخوتي وابنة عمي”

فقال الشرطي:

“والسيد سامر آل شاكر… ألا يقيم هنا؟؟”

فأجاب وليد:

“كلا.. إنه يقطن الشمال منذ سنين”

واستمر الشرطي بطرح عدة أسئلة, أجاب عنها وليد بتماسك مصطنع… إلى أن أقبل رجال الشرطة وقالوا:

“لا أحد في الطابق العلوي”

فقال الشرطي القائد:

“فتشوا الفناء”

وهنا أحسست بيد وليد تنتفض… ولو لم يكن الشرطي ينظر نحو أتباعه لحظتها للاحظ ما لاحظت… واكتشف سرنا…

أخذت أبتهل إلى الله في أعماقي أن يعمي أبصارهم عن مكان سامر… دعوته بكل جوارحي وأنا متأكدة من أن وليد يلهج بالدعاء مثلي…

يا رب إننا لا نملك إلا قلوبنا لتتضرع إليك… لا تخيّب رجائنا المتعلق بوجهك الكريم…

غادر الشرطي القائد المكتب لاحقا بأتباعه… التفتُ إلى وليد والذعر يملأ وجهي فنظر إلي نظرة حمراء مرعبة… وقد تحول بياض عينيه إلى بحر من الدماء المغلية… ثم رأيت يده تتحرك نحو أحد جيوبه… ويخرج منه… مسدسا!!!

شهقت فزعا فوضع وليد يده الأخرى على فمي يكتم شهقتي… وقال:

“سأقتلهم إن لمسوه يا رغد”

حاولت أن أتنفس ولم أستطع… احتقنت الدماء في وجهي واحتبس الهواء في صدري… كدت أقع مغشية من الذهول والفزع… سمعنا وقع أقدام تقترب… فخبأ وليد المسدس خلف ظهره واقترب من باب المكتب… ووقف على أهبة الاستعداد لأن يصوب المسدس نحو رجال الشرطة…

أقبل الشرطي القائد وخلفه بعض من أتباعه, ووقف إزاء وليد ثم قال:

“إذا جاء إلى هنا أو عرفتم له طريقا فمن الخير له ولكم أن تبلغونا. إنه مجرد مشتبه به وليس متهم. سنطلق سراحه بعد استجواب دقيق وينتهي كل شيء”

ثم أشار إلى جنوده بالانصراف, وغادروا الجميع المنزل…

********

التفت إلى رغد غير مصدق بأن الشرطة قد غادرت بالفعل… دون أخي… كنت أريد أن أسمع منها تأكيدا للأمر حتى أصدقه… غير أني رأيتها فجأة تنحني على المقعد وتتنفس بقوة وتئن…

أعدت المسدس إلى جيبي وأسرعت إليها وانحنيت إلى جانبها بقلق شديد وقلت:

“رغد أأنت بخير؟؟”

فقال وهي تلتهم الهواء التهاما:

“سأختنق… أكاد أختنق”

وكان جسدها يرتعش من الذعر ووجها يسبح في بحيرة من العرق…

شددت على يديها وأنا أقول:

“أرجوك تشجعي… بسم الله عليك… تماسكي صغيرتي”

وإذا بيديها تطبقان على ذراعي ووجها يندفن في ثنايا كم قميصي وهي تصيح منهارة:

“أنا لا أتحمل هذا… سأموت من الخوف…”

حاولت أن أهدئها قليلا ثم نهضت واقفا وابتعدت فصرخت:

“إلى أين تذهب؟؟”

فأجبت:

“إلى سامر”

وهرولت مسرعا تتبعني نداءاتها:

“لا تتركني وحدي…!”

من بين كومة السجاد… حركت اللفافة التي تغلف شقيقي… فتحتها بسرعة واستخرجت أخي من جوفها… أمسكت بكتفيه… ثم جعلت أنفض التراب عن وجهه وشعره وأنا أخاطبه:

“نجونا يا عزيزي… لقد رحلوا”

نظر إلي سامر نظرة حزينة موجعة… فقلت:

“سامحني يا عزيزي… لم أكن أريد أن أفعل بك هذا… سامحني”

ثم طوقته بذراعي وجذبته إلى صدري وعانقته عناقا حميما…

بعد ذلك أخذته إلى داخل المطبخ وقدمت إليه الماء فشرب كمية كبيرة… لا تقل عن الكمية التي أفرغتها في جوفي بسرعة…

قلت بعدها:

“لم يعد البيت آمنا لك… سآخذك إلى مكان آخر حتى يحين موعد الرحيل”

جلس أخي على أحد المقاعد الموزعة على الطاولة, ووضع رأسه على الطاولة باستسلام وتأوه…

قلت وأنا أتحرك نحو الباب الداخلي للمطبخ:

“سأرى كيف يمكنني إخراجك الآن وإلى أين آخذك”

وقبل أن أخرج من المطبخ سمعته ينادي:

“وليد”

التفت إليه فرأيته ينظر إلي وقد علت قسمات وجهه شتى التعبيرات…

“لماذا… تفعل هذا لي؟؟”

سألني وعيناه تكاد تنزفان دمعا من فرط ما هو فيه… فقلت:

“كيف تسأل يا سامر؟؟ إنك أخي الوحيد… أنا ليس لي في الدنيا شقيق وقريب غيرك…”

فقال سامر:

“لكنني…”

ولم تسعفه الكلمات… فقلت:

“أنا… لن أرى شقيقي الوحيد… ما تبقى لي من أبوي… ومن الدنيا… يتعرض للخطر وأقف متفرجا… مهما كان حجم ما اقترفته… أنا لن أسمح لمخلوق بإيذائك يا سامر… أرجوك… دعني أنفذ خطتي… ثق بي…”

وذهبت مسرعا إلى غرفة المعيشة, حيث كنت قد تركت هاتفي المحمول…

اتصلت بأبي حسام, فأخبرني بأنه كان لا يزال يحوم على مقربة من المنزل, وأن الشرطة قد غادرت ولا شيء يثير الشبهات حول المنزل… فطلبت منه المجيء وفور وصوله أدخلته إلى المنزل فسألني:

“أين سامر؟؟”

فأخذته إلى المطبخ, حيث كان سامر يجلس, وكذلك كانت رغد…

الدهشة علت وجهيّ سامر ورغد لدى رؤية أبي حسام… والأخير توجه مباشرة نحو سامر وشدّ على كتفه وهو يقول:

“الحمد لله… انك لا تزال بخير”

سامر نظر إلي بحيرة وقلق, فقلت:

“إنه يعرف كل شيء… وهو هنا لمساعدتنا”

وأبو حسام للعلم يعمل في إحدى الدوائر العسكرية, عملا مكتبيا.

التفتُ إليه وقلت:

“سآخذ سامر إلى مكان آخر… أرجوك أبق مع رغد حتى أعود… ولا تفتح الباب لأي طارق… سأعود بأقصى سرعة”

“ماذا؟؟”

كان هذا صوت رغد تهتف بفزع وهي تهب واقفة وأمارات الخوف جاثمة على وجهها, ثم تقول:

“لن تتركني وحدي هنا”

فقلت:

“أبو حسام سيكون معك”

فهتفت:

“لن تتركني وحدي في هذا المكان… لا يمكنني البقاء هنا أكاد أموت ذعرا… أرجوك وليد خذني معك”

قلت محاولا طمأنتها وتهدئتها قدر الإمكان:

“يا رغد… المشوار الذي سنقطعه أكثر خطورة… أنت هنا بأمان أكثر… قد يداهمنا رجال الشرطة أو قد يحصل أي شيء في طريقنا, كيف تريدين مني أن أصطحبك؟”

تحدث أبو حسام موجها الخطاب لرغد:

“لا وقت لنضيعه في الكلام, يجب أن نخرج سامر من هنا فورا”

ثم التفت إلي وقال:

“هيا يا وليد… عجّل…”

تبادلت النظرات مع أخي وأبي حسام ثم عدت إلى رغد… وحال منظرها الفظيع دون نطقي بأي تعليق. فقال أبو حسام مستعجلا:

“الآن يا وليد”

مسحت قطيرات العرق المتجمعة على وجهي وعنقي ثم قلت موجها خطابي إلى رغد:

“ابقي لحين عودتي… لن أتأخر”

أغمضت رغد عينيها ذعرا… لكنني لم أستطع غير المضي قدما…

التفتُ إلى شقيقي الجالس على المقعد وقلت:

“هيا بنا… توكلنا على الله”

لم يتحرك سامر بادئ ذي بدء… ظهر هادئا مستسلما يائسا… وكأن الأمر لا يعنيه أو أنه فاقد الأمل في النجاة…

نظر أبو حسام إلى سامر وقال محثا إياه على النهوض:

“هيا يا بني”

وهو يشد على كتفيه. وقف سامر وعيناه تدوران فيما بيننا وأعيننا معلقة عليه… ثم نطق أخيرا:

“إلى أين؟؟”

يسأل عن المخبأ الذي خططت لنقله إليه, فأجبت:

“مصنع والدي”

حملق الجميع بي لبرهة… تعلوهم الدهشة.

مصنع والدي, دمر أثناء غزو العدو على المدينة قبل سنوات… وهو الآن مهجور وخرب ولا تتنازل حتى وحوش البرية للإقامة فيه. يقع المصنع عند أطراف المدينة في مكان ناء… يستغرق الوصول إليها زمنا… خصوصا وأن الشوارع بقيت على حالها مدمرة ومتقطعة…

أخيرا التفت أبو حسام إلى سامر وقال:

“توكلا على الله”

وسار أخي وهو يقترب مني… حيث كنت الأقرب إلى الباب. وعندما صار أمامي… مددت يدي إلى ذراعه وقلت:

“سامر… ثق بي… اعتمد علي… أعدك بأن تغادر البلد سالما بإذن الله… لقد رتبت لكل شيء… النقود تسهل كل صعب…”

نظر إلي أخي والهم يعشش على عينيه… نظرة هزتني من الأعماق… فشددت على ذرعه بقوة وقلت:

“أرجوك… تشجع… وعدني بأنك لن تضيع جهودي عبثا… عدني بأن تلتزم بما أقوله لك… ولا تحاول شيئا آخر… أرجوك عدني”

أحس أخي الرجاء الشديد في نبرة صوتي, وأخيرا نطق:

“أعدك… وليد”

فابتسمت مشجعا… وشددت على ذراعه أكثر… ثم استخرجت من أحد جيوبي السلاح الذي كنت أخفيه…

قدمته نحو أخي, وهو ينظر إلي مندهشا… فقلت:

“استخدمه إذا اضطررت…”

أخذ سامر مسدسه من يدي… وهو يحملق بي غير مصدق… ثم خبأه في أحد جيوبه, ثم عانقني عناقا أخويا حميما…

حملنا معنا هاتفي وهاتف سامر, والذي كنت قد احتفظت به عندي, وقبل المغادرة التفت إلى رغد… والعم أبي حسام, وقلت:

“أمانتك لحين عودتي…”

وأشحت بوجهي قبل أن يحدث منظر رغد في قلبي ثقبا جديدا…

أخيرا دخلنا أحد المباني… المبنى الذي كان يحوي مقصفا للعمال وغرفة استراحة… كان المبنى الأقل تضررا والذي لا يزال سقفه يقف على جدرانه.

المكان كان موحشا جدا… لا يثير في النفس إلا الذعر…

لم تكن هناك أي إنارة عدا بصيص بسيط يتسلل عبر نافذة صغيرة قرب السقف…

“سيكون هذا جيدا”

قلت ذلك وأنا أنفض الغبار والأتربة عن أريكة مجاورة وأدعو أخي للجلوس, فرد:

“ما هو الجيد؟؟”

وقد غمره الاستياء والنفور الشديدين من المكان… بقي أخي واقفا ينظر إلى ما حوله بازدراء… جلت ببصري في الغرفة ولم أستطع إقناع نفسي بغير شعور أخي… الازدراء…

قلت مشجعا:

“لبضع ساعات… تُحتمل”

وأشرت إليه أن يجلس, لكنه لم يفعل…

أخي منذ صغره, اعتاد العيش في النعيم. منزلنا الكبير في الجنوب… ومنزلنا الراقي في الشمال… وشقته الفاخرة… أذكر أنه عندما زارني في المزرعة ورأى الغرفة المتواضعة التي كنت أقيم فيها والمنزل البسيط, شعر بالنفور والازدراء…

قلت:

“هذا لا شيء… مقارنة بالزنزانة”

وأنا أتذكر الزنزانة الفظيعة التي أضعت بين جدرانها القذرة ثمان سنوات من عمري…

نظر سامر إلي باستسلام, ثم جلس على الأريكة كارها. لو لم يكن لدي ما أنجزه للضرورة القصوى, لكنت بقيت برفقته… كيف لي أن أترك أخي في مكان مهجور ومرعب وقذر كهذا؟؟

قلت وأنا أستعد للمغادرة:

“سأنهي ما لدي وأعود إليك…”

وأضفت:

“كن حذرا… ابق عينيك وأذنيك يقظتين و هاتفني إن حصل شيء على الفور”

أرسل أخي إلي نظرة قرأت فيها توسلا… بألا أغيب عنه… فرددت على رسالته بنظرة تقول: (انتظرني…)

وهكذا, غادرت مصنع أبي المهجور… تاركا في قلبه شقيقي الوحيد… وحيدا…

اتصلت بعد ذلك بالمنزل أطمئن على رغد وأبي حسام وأطمئنها علينا… وتوجهت بعدها لاستلام الوثائق الضرورية التي تلزمنا للسفر… وأنجزت مهاما أخرى…

لن تصدقوا ما اضطررت لفعله من أجل إنقاذ أخي… لم أكن لأتصور نفسي سألجأ إلى هذا… يوما من الأيام…

عدت بعد ذلك إلى المنزل… بمجرد دخولي للداخل, وقع بصري على رغد…

كانت تجلس في الممر… على الأرضية الرخامية… مستندة إلى الجدار… ومادّة رجليها إلى الأمام… وعكازها مرمي إلى جانبها الأيسر وهاتفها إلى جانبها الأيمن… ووجها مغمور في سحابة داكنة من الهلع والاضطراب… حينما رأتني مدت يدها نحوي ونادتني بلهفة:

“و… ليد”

كان صوتها ضعيفا واهنا… سلبه الخوف والفزع المقدرة على التماسك… تقدمت نحوها وجلست إلى جانبها… أسندت رأسي إلى الجدار… ومددت رجلي إلى الأمام… مثل وضعها… وأغمضت عيني…

كنت أريد أن ألتقط بعض الأنفاس… أحسست بيدها تتشبث بذراعي… التفت إليها… وغاصت عيناي في بحر خوفها…

قلت:

“قبل بزوغ الفجر…تبدأ رحلتنا يا رغد”

رغد تحدت ببقايا صوتها قائلة:

“إلى… أين؟؟”

فأجبت:

“برا إلى البلدة المجاورة… ثم جوا إلى الخارج… إلى دانة”

وشعرت بيدها ترتجف… فقلت:

“فقط… لنعبر الحدود بسلام… ادعي يا رغد…”

أغمضت رغد عينيها وكأنها تلح بدعواتها القلبية… إلى الله… فأعدت رأسي إلى الجدار وأغمضت عينيّ ولهج قلبي بالدعاء…

بعد قليل تحدثت رغد قائلة:

“لا أكاد أصدق شيئا يا وليد… لا أستطيع أن أستوعب ما يجري… أهو كابوس..؟؟ أرجوك قل لي بأنه كابوس”

فتحت عينيّ… والتفت إليها… ثم قلت:

“أتمنى لو أنه كان كابوسا يا رغد… ليته كان كابوسا… آه”

سألت وهي غير مصدقة:

“لماذا…؟؟ سامر!! أنا لا أصدق… إنه لا يمكن أن يفعل شيئا… إنه هادئ ومسالم جدا… ماذا فعل؟؟ ولماذا؟؟”

حملقتُ في رغد… وتأوهت بمرارة… وكان صدري على وشك أن ينفث أدخنة كثيفة من الآهات المتألمة… لا بداية لها ولا نهاية, غير أن أبا حسام أقبل نحونا قادما من مجلس الضيوف… ثم سألني:

“كيف سارت الأمور؟؟”

فالتفت إليه وأجبته:

“كما ينبغي حتى الآن… المهم الحدود..”

سمعت رغد تقول بقلق:

“ماذا إن أمسكت بنا الشرطة؟؟ ماذا سيفعلون بنا؟؟”

عضضت على أسناني توترا… ونظرت إليها وأنا لا أجد جوابا… إلا أن أقول:

“لا سمح الله… سنكون في مأزق كبير جدا…”

وجوابي زاد من ارتجاف يدها حتى انتقلت خلجاتها إلى ذراعي وهزتني…

تقدم أبو حسام, وجلس على عتبات السلم المجاورة لنا… ثم قال:

“هل يجب أن… تأخذها معكما؟؟”

فجأة انفلتت أصابع رغد وانفتحت قبضتها عن ذراعي… وما كدت ألتفت إليها حتى انطلقت قائلة بانفعال:

“طبعا سأذهب معكما”

وكأنها تخشى أنني سأقول غير ذلك.

أبو حسام قال:

“تعرف يا وليد أن في الأمر مخاطرة… أخرجه أولا… ثم عد وخذها أو أفعل ما تشاء”

كنت لا أزال أحدق في رغد… والتي ما كاد أبو حسام ينهي جملته حتى هتفت وعينها تكادان تقفزان من محجريها من شدة تحديقها بي:

“سأذهب معكما”

فقلت مطمئنا وأنا أرى الهلع يجتاح وجه الفتاة:

“لا تقلقي. فأنا لا أفكر في تركك والسفر إلى خارج البلد”

وسمعت أبا حسام يقول:

“ولكن يا وليد… أليس من الآمن لها أن تبقى عند خالتها؟؟ فقط اضمن خروج سامر بالسلامة واطمئن على نجاته ثم تعال وفكر فيما ستفعله”

قلت:

“لا أستطيع السفر وترك صغيرتي هنا. لن يرتاح لي بال… لا ينقصني هم آخر…”

والتفت إلى رغد.. فإذا ببعض الارتياح يمحو آثار الهلع الأخيرة… لكنه كان ارتياحا قصيرا سرعان ما أربكه كما أربكني رنين هاتفي…

حبست أنفاسي ونظرت إلى شاشة الهاتف بهلع… متوقعا أن يكون هذا سامر… أو أحد الأشخاص الذين أتعامل معهم لتهريبه… أو حتى الشرطة… وعندما رأيت اسم (المزرعة) يظهر على الشاشة أطلقت نفسي المحبوس بقوة…

“نعم مرحبا”

“مرحبا يا وليد يا بني… كيف حالك؟”

لقد كان عمي إلياس. أجبت بعجل دون أن ألقي بالا عليه:

“بخير”

فسألني عن أحوال ابنة عمي وأحوال العمل وحتى أحوال الطقس, فرددت مقتضبا:

“بخير, أهناك شيء؟؟”

وأحس عمي من ردي ونبرتي أن لدي مشكلة. فسألني:

“ما الأمر يا بني؟؟”

فأجبت بضيق:

“آسف. أنا مشغول الآن”

فقال:

“حسنا. هلا اتصلت بي بعدها؟؟”

فجذبت نفسا ورددت:

“أنا مشغول جدا يا عم”

امتزج القلق بنبرة عمي وهو يسأل:

“أأنت على ما يرام؟؟”

فأجبت:

“أجل ولكن لدي مشاكل حرجة”

فقال:

“إذن… لن تأتي اليوم أيضا؟؟”

لقد كان يوم الخميس.. وكان يفترض بي السفر للمزرعة لحل مشكلتي مع أروى الأسبوع الماضي, وأجّلت السفر بسبب سفر أخي المفاجئ, واضطراري للبقاء مع رغد… والآن أرجئه إلى أجل غير مسمى بسبب الورطة الحرجة التي نمر بها…

قلت:

“لا يمكن…”

وأضفت:

“عمي… سأغيب لفترة غير محددة”

صمت عمي برهة,لا بد وانه تضايق من ردي… في حين أنه ما فتئ يتصل بي ويطلب حضوري من أجل أروى…

سمعته بعد البرهة يقول:

“ولكن أروى…”

ولم أسمع ما قاله بعدها… إذ أن هاتفي قد استقبل اتصال آخر… وفور إلقائي بنظرة سريعة على الشاشة أجبت المكالمة الثانية بلهفة:

“نعم سامر هل أنت بخير؟؟”

وقلبي ينزلق من صدري كما تنزلق قطرات العرق من جبيني…

رد سامر قائلا:

“نعم وليد… ألن تأتي؟ المكان موحش هنا جدا”

ازدردت ريقي ثم قلت:

“هل سمعت شيئا؟؟ هل حدث شيء؟؟”

فقال:

“رأيت أفعى من حولي… الشمس توشك على المغيب ولن أستطيع رؤية حتى يدي بعد قليل… اجلب لي مصباحا”

علقت:

“تقول أفعى؟؟”

فقال:

“نعم. ومن يدري؟ ربما يوجد عقارب أو ما شابه… والجو حار وخانق”

قلت:

“إذن الزم الطابق العلوي. ولو فوق السطح… أنا قادم إليك الآن”

فرد:

“نعم أرجوك”

قلت:

“توخ الحذر… يحفظك الله”

وأنهيت المكالمة وهببت واقفا فهبت رغد مستندة إلى عكازها ووقف أبو حسام تباعا… قلت:

“سأعود إليه”

فهتفت رغد:

“لا تتركني مجددا أرجوك”

فقلت مخاطبا إياها:

“سآخذ إليه بعض الطعام والماء ومصباحا يدويا… وأبقى لمؤانسته بعض الوقت فالمكان هناك شديد الوحشة”

قالت رغد:

“وأنا؟؟”

نقلت بصري بين رغد وأبي حسام وكدت أنطق بجملتي التالية إلا أن أبا حسام سبقني قائلا:

“دعني أذهب أنا هذه المرة… وابق أنت مع ابنة عمك”

وركزت نظري عليه يعلوني التردد… فقال:

“هات ما يحتاجه… سأبقى برفقته حتى تأتيان فجرا”

فقلت:

“و… لكن… يا عم…”

ولم أكن أعرف ما أريد قوله… وتولّى أبو حسام دفة الكلام وقال:

“قضاء ليلة كاملة وحيدا في مكان مهجور ومنقطع عن العالم فيما الشرطة تبحث عنك هو ليس بالأمر المتحمل… لا يجب أن نتركه بلا رفيق. سأبقى معه في انتظار مجيئكما صباحا”

وهكذا اتفقنا على أن يذهب أبو حسام حاملا الحاجيات إلى سامر ويبقى برفقته تلك الليلة…

كنت أعرف حتى الآن… أنها لن تكون مجرد ليلة عادية… بل ستكون… ليلة رعب وقلق وأرق متواصل… وأنني وإن كنت سأقضيها في منزلي جسديا, فسأقضيها مع سامر روحيا وقلبيا… وأنني لن أعرف للنوم طعما ولا للبال راحة وسأبقى أترقب ساعة بعد ساعة… أذان الفجر… الذي ستعقبه رحلة الفرار…

هكذا كنت أتوقع لتلك الليلة أن تكون… من أسوأ ليالي عمري… لكنني, ورغم كل توقعاتي وتوجساتي… وجدتها قد اجتاحت كل الحدود… وأتت أشد وأقسى من أن تخطر لي على بال… على الإطلاق…

ليلة الرعب الأعظم في حياتي تلك… الأفظع والأبشع والأشنع على الإطلاق… قضيتها… مع… وفقط مع… صغيرتي البريئة… شريكة المواقف الفظيعة… والحوادث المريعة…فتاتي الحبيبة رغد…

عرض التعليقات (8)