روايه انت لي الحلقه 51 الحلقة الأخيرة

42 49٬866
 

روايه انت لي الحلقه 51 الحلقة الأخيرة

روايه انت لي الحلقه 51 الحلقة الأخيرة

روايه انت لي الحلقه 51 الحلقة الأخيرة

روايه انت لي الحلقه 51 الحلقة الأخيرة , معكم صديقة زاكي الشيف الموهوبة ,leen

رواية انت لي الحلقه 51 الجزء 1

تركني وليد في حالة يرثى لها بعد خبر عزمه العودة إلى الوطن… إلى حيث الحرب والاعتداء والخوف والهلاك… إلى حيث الشقراء.. تنتظره… أنا يا وليد مستعدة للقبول بأي شيء مهما كان مقابل أن تبقيني إلى جانبك وتحت رعايتك أنت…

وفيما أنا غارقة في أفكاري جاءتني دانة تتفقدني..

“كيف أنت؟ يقولون أنك مضربة عن الطعام!”

وكل ما حصل هو أنني لم أتم عشائي البارحة ولم أتناول فطوري هذا الصباح.

قلت:

“من يقول ذلك؟”

أجابت:

“وليد! فهو قلق من أن يداهمك الإغماء بسبب الجوع! وأرسلني لتفقدك”

دغدغتني العبارة, لإحساسي بأن وليد يهتم بي…

قلت:

“أين هو الآن؟”

أجابت:

“خرج مع نوّار قبل قليل… ذاهبين إلى مكتب الطيران”

فوجئت بالجملة وشهقت وقلت:

“تعنين لشراء تذكرة السفر؟؟”

فأومأت بنعم, فجُنّ جنوني وصرّحتُ منفعلة:

“لن يغير موقفه… إذن سأذهب معه..”

والتفت نحو الهاتف وأتممت:

“سأتصل به وأطلب منه شراء تذكرة لي أنا أيضا”

وخطوت خطوتين نحو الهاتف حين استوقفتني دانة مادة يدها وممسكة بذراعي…

التفتُ إليها فوجدت الجد والحزم ينبعان من عينيها, ثم قالت:

“انتظري يا رغد… هل تظنين بأنه سيأخذك معه حقا؟”

اكفهرت ملامح وجهي وقلت مصرة:

“طبعا سيأخذني معه… أليس الوصي علي؟ ألست تحت عهدته؟”

فقالت بنبرة جادة:

“لقد… تنازل عن الوصاية لسامر”

حملقت فيها غير مستوعبة الجملة الأخيرة… فسألت:

“عفوا… ماذا قلت؟؟”

فقالت:

“كما سمعت… رغد”

فررت برأسي يُمنة ويسرة… كأنني أنفضه مما توهمت أذناي سماعه.. ثم هتفت:

“تكذبين!”

فنظرت إلي دانة متأثرة بتعبيرات الذهول الطارئة على وجهي ومن ثم تحولت جديتها إلى شفقة وأسى… وقالت:

“أخبرني بذلك بنفسه قبل قليل… قال أنه وكّل المحامي أبا سيف لإنجاز الإجراءات الرسمية أثناء مكوثه في المستشفى خلال الفترة الماضية”

رفعت يدي إلى صدري محاولة السيطرة على الطوفان الهمجي المتدفق من قلبي أثر الصدمة… وهززت رأسي غير مصدقة أن وليد قد فعلها… مستحيل… مستحيل..

“مستحيل”

أطلقت الصيحة وتابعت خطاي نحو الهاتف أريد الاتصال به والتأكد من الخبر على لسانه, غير أن دانة سحبت سماعة الهاتف من يدي وأجبرتني على النظر إليها والسماع إلى ما أرادت قوله..

“رغد! ماذا ستفعلين؟ هل ستطلبين منه إعادتك إلى كفالته؟ لا تعصبي الأمور يا رغد ودعيه يتصرف التصرف السليم والأنسب لظروفنا”

فهتفت منفعلة:

“الأنسب لظروف من؟ أنا لا ذنب لي في أن سامر يهدده الخطر إن عاد إلى الوطن. لا أريد البقاء هنا.. أريد العودة مع وليد والبقاء معه”

فسألت دانة منفعلة:

“إلى متى؟؟”

فقلت:

“إلى الأبد”

فإذا بدانة تمسك بيدي وتشد عليها وتقول:

“وليد لا يريدك أن تذهبي معه.. لم لا تفهمين ذلك؟ سيعود إلى خطيبته وربما يتزوجان قريبا.. لقد أعادك إلى سامر لتبقي مع سامر.. إنه أكثر شخص يحتاجك ويحبك يا رغد… إنه يمر بأزمة حرجة… لماذا لا تفكرين به؟”

سحبت يدي من بين أصابعها وابتعدت عنها وأنا أهتف بانهيار:

“أنا لا أريد العودة إلى سامر… لا تفعلوا هذا بي… لا تعيدوا الكرة… سأذهب مع وليد…”

************

كان لابد من حسم الأمور وبشكل نهائي حتى يحدد كل منا موقعه. كنت أفكر في الطريقة التي سأخاطب بها وليد هذا اليوم… وأطلب منه وضع النقط على الحروف وختم الصفحة.

كان الوقت ضحى وكنت جالسا في غرفتي أهيئ نفسي للمواجهة المرتقبة فأتتني شقيقتي دانة.

“صباح الخير سامر! ألم تنهض بعد؟؟”

“صباح الخير”

“تأخرت! رفعت أطباق الفطور”

سألتُ مباشرة:

“هل استيقظ وليد؟”

أجابت:

“نعم… وهو مع نوّار في مكتب الطيران الآن”

اضطربت تعبيرات وجهي وشردت بعيدا… ولما لاحظت دانة سألتني عما ألمّ بي, فما كان مني إلا أن أطلعتها على ما يدور في رأسي منذ الأمس… منذ أن أعلن وليد عن عزمه على العودة إلى الوطن… أخبرتها وبكل صراحة بأنني في حال رحيل أخي فسوف لن أتمكن من العيش مع رغد في مكان واحد وتولّي المسؤولية عليها, إلا إذا عاد رباطنا الزوجي الشرعي إلى سابق عهده… وإلا… فإن عليه اصطحابها معه وتخليصي من هذه الدوامة الفارغة. كنت صريحا جدا فقد اكتفيت من الهراء… ولن أستمر في لعب هذا الدور الأحمق…

“فإما أن يأخذها معه للأبد… أو يتركها معي وللأبد”

قلت ذلك منفعلا… ثم نظرت إلى دانة فرأيت على وجهها الأسى والقلق.. وكأنها تفكر في أمر ما..

“ما الأمر؟”

سألتها قلقا, فأجابت:

“آه… لقد… كنت مع رغد قبل قليل”

ففهمت أن لديها ما تقوله… فقلت:

“ماذا قالت؟؟”

فأجابت مترددة:

“تركتها تعد حقيبتها… مصرة على العودة إلى الوطن… مع وليد”

عن نفسي كنت أتوقع هذا… لم يفاجئني موقف رغد… لكنني أريد أن أحسم الوضع نهائيا مع وليد…

“إذن… سأطلب من وليد شراء تذكرة لها وأخذها معه, وننتهي”

وضربت الحائط من غيظي… وصحت:

“إنها لا تريده إلا هو… فليأخذها معه ويريحنا… أنا تعبت من هذا…”

كنت مجروحا من إصرار رغد على موقفها… ولا مبالاتها بي…

قالت دانة:

“لا تنفعل… دعه يعود… وسأتحدث أنا معه أنا أولا… لقد نقل الوصاية إليك كما أخبرني.. لن يأخذها معه.. سيقنعها بالبقاء معنا”

فقلت:

“وما الجدوى إن كانت ستبقى معنا وبالها معلق معه؟ ألم تري حالتها قبل حضوره؟ لا أريد أن يوليني المسؤولية على فتاة شبه حية… فليأخذها وليخلصني من هذا العذاب”

مدت دانة يدها وربتت على كتفي وقالت:

“هون عليك يا أخي”

فقلت منفعلا:

“أنا تعبت.. لقد كنت على وشك وضع نهاية لكل هذا.. هو من اعترض طريقي وجلبني إلى هنا.. هل سيتحمل هو عذاباتي؟”

صمتنا برهة.. ثم إذا بدانة تسأل:

“هل.. يعرف هو أنها…”

فأجبت مقاطعا:

“طبعا يعرف… وعليه هو أن يواجهها بحزم ويوقظها مما هي فيه.. إلى متى سيتركها تتعلق به وتجري متخبطة خلفه.. بينما هو متزوج ومشغول بزوجته؟”

قالت دانة متسائلة:

“هل… يحبها؟؟”

فاستغربت السؤال الدخيل وقلت:

“وما أدراني..؟!.. المهم أنه متزوج ومشغول بزوجته.. وليس شاغرا من أجل مشاعر رغد..”

قالت دانة موضحة:

“أعني… ماذا عن مشاعره هو؟؟”

فنظرت إليها باستغراب… وقلت مستفهما:

“مشاعره هو؟؟”

ورأيت نظرة ارتياب غريبة على عينيها أوحت إلي بأنها تلمح إلى شيء… فسألتها:

“ماذا تعنين بمشاعره هو؟؟”

فقالت مترددة:

“أعني… بما يشعر هو… نحو رغد”

فحملقت فيها تجتاحني الحيرة والدهشة… وقابلتني بنظرة جدية وكأنها تعتزم قول شيء مهم… وأخيرا قالت:

“سامر… سأخبرك بما قالته لي أمي رحمها الله… عندما زرتها بعد ليلة زفافي…”

أثار كلامها اهتمامي الشديد وسألتها بفضول:

“ماذا… قالت…؟؟”

فأجابت بنبرة جدية جعلتني أصغي بكل اهتمام وتركيز:

“عندما أخبرتها… عن قرار رغد المفاجئ بالانفصال عنك… وعن حالتها المتقلبة الغريبة تلك… بعيد سفر والديّ للحج… وعن بعض التفاصيل التي حصلت… قالت أن ذلك ما كانت تخشاه… وأنها… كانت قد لاحظت تغيّرات على رغد… بعد عودة وليد”

صمتت أختي لترى مدى تأثير الكلام علي حتى الآن… فحثثتها على المتابعة بلهفة:

“وبعد؟؟”

فتابعت:

“أنا بالفعل… لاحظت عليها تغيرات مزاجية كثيرة في تلك الفترة… لكنني لم أتوقع للحظة أن يكون السبب… هو وليد”

نعم وليد! وليد الذي ظهر فجأة… واستحوذ على قلب رغد… وأبعدها عني…

واسترسلت:

“كما لم أكن أبدا لأتوقع… أن…”

وصمتت مترددة وكأنها تخشى قول الجملة التالية. شجعتها وقلت:

“ماذا؟؟ أكملي؟؟”

قالت:

“لما أخبرتها عن ارتباط وليد المفاجئ بالفتاة بالمزرعة… حزنت وتألمت كثيرا… وأخبرتني أن وليد… كان أيضا يحب رغد كثيرا في صغره… كلنا نعرف ذلك… لكن… ما لم نكن نعرفه… هو أنه… حسب كلامها وحسبما تيقنت هي منه… أنه… حتى بعد عودته من السفر.. أعني من السجن.. كان لا يزال يحبها.. ويحلم بها.. وقد صُدم بزواجكما…”

حملقت في دانة بذهول… غير قادر على استيعاب ما تقول… بقيت مطرقا رأسي مذهول العقل منفغر الفاه… ثم نطقت مندهشا:

“مـــ… مـــ… ماذا تقولين؟؟!!”

فأجابت والمزيد من القلق يظهر على وجهها:

“ربما لم يكن يجدر بي قول هذا ولكن..”

ولم تتم…

فنظرت إليها بتشتت… واتسعت حدقتاي بدهشة بالغة… وقفزت إلى ذاكرتي فجأة كلمات أم حسام لي ذلك اليوم…

فإذا بلساني ينطق دون وعي مني:

“هذا… مـــ…. مستحيل!”

وإذا بدانة تقول:

“هذا ما قالته أمي… إنه كان لا يزال يحبها… وأنها وجدت صورة قديمة لرغد عنده ذات مرة”

************

كنت في الصباح.. قد ذهبت مع نوّار إلى مكتب الطيران واشتريت تذكرة سفر وأكدت رحلتي… والتي ستكون مباشرة إلى شمال الوطن.

حاولت الاتصال بالمزرعة وبهاتف أروى دون جدوى. لكنني اتصلت بالسيد أسامة واعتذرت له عن اختفائي المفاجئ وذكرت له أنني سأعود قريبا. كما اتصلت بسيف وطمأنته على أخباري…

وبعد عودتي للمنزل وفيما أنا أعبر الممر المؤدي إلى غرفة نومي رأيت سامر يقف في منتصف الطريق…

كان جليا عليه أنه واقف ينتظرني لأمر مهم… وأنا أعرف ما هو الأمر…

“مرحبا سامر… متى استيقظت؟؟”

سألته بمرونة فرد باقتضاب مباشرة:

“أريد أن أتحدث معك”

كان يبدو منفعلا… التوتر يخط تجاعيد متشابكة على قسمات وجهه…

قلت وأنا أسبقه إلى الغرفة وأفتح الباب:

“تفضل”

دخلنا الغرفة وتركنا الباب مفتوحا… دعوت أخي للجلوس لكنه وقف قرب الباب مستعجلا على الحديث فوقفت أمامه وسألت:

“خير؟؟”

نظر إلي سامر بنظر تمزج الحزن واللهفة… والغضب والقهر… ثم قال:

“وليد… سأسلك سؤالا… وأرجوك… أرجوك… أن تجيب عليه بمنتى الصراحة”

نبرته أصابتني بالقلق… فقلت:

“ماذا هناك؟؟”

فركز سامر نظرة إلي وقال:

“أجبني بكل صراحة يا وليد”

فقلت وقد تضخم قلقي من جدية نظرته:

“اسأل؟؟ لقد أقلقتني”

فإذا بسامر يزم شفتيه ثم ينبس قائلا:

“كيف تشعر… نحو رغد؟؟”

فاجأني السؤال… أذهلني… عصف بقدرتي على الاستيعاب… أو ربما لم أسمع جيدا… ماذا سأل أخي؟؟

قلت:

“عفوا؟؟”

فقال أخي وقد زاد توتره واحتدت نبرته:

“أقول كيف تشعر نحو رغد؟؟”

وكان يحملق بي بشدة راصدا كل انفعالات وجهي وتغيرات لونه… تكاد نظراته تسلخ جلدي لتقرأ ما هو أعمق منه… وفجأة إذا به يقول:

“أحقا… كنت… تحبها؟؟”

ولم أشعر إلا بالدماء تفور في وجهي فجأة… وتصبغه بلون شديد الاحمرار… حتى أنني خشيت أن تتصبب قطرات الدم من جبيني مصحوبة بزخات العرق…

لساني ألجمته المفاجأة… وعيناي قيدتهما عينا أخي وهما تتربصان بردي… كان أخي يكاد يلتهمني بنظراته ورأيته يعضض على شفته السفلى توترا… ويكاد يصرخ منفعلا…

عصرت لساني حتى خرجت الكلمات التالية منه عنوة:

“ما… ماذا تعني يا سامر! ما هذا السؤال؟؟”

وما كان من أخي إلا أن ركل الباب الذي نقف قربه بعنف وكرر سؤاله بعصبية:

“فهمتني يا وليد… وسؤالي واضح جدا… قل لي هل فعلا كنت تحب رغد؟؟ هل أنت تحبها الآن؟؟ أخبرني قبل أن أجن..”

وللحالة الرهيبة التي اعترت أخي… خشيت أن يحصل أي شيء… فقلت محاولا كبت مشاعري والتظاهر بالمرح:

“نعم أحبها!”

فرمقني أخي بنظرة حادة قاطعتها بقولي:

“أحبها مثل ابنتي تماما! أنا من تولى تربيتها مع والدينا”

محاولا أن يظهر ردي مرحا ومقنعا قدر الإمكان… أخي… نظر إلي بارتياب… ثم قال:

“هل هذا كل شيء؟؟ أجبني بصراحة”

فتظاهرت بالابتسام وقلت:

“طبعا هذا كل شيء!! سامر.. ما بالك تطرح سؤالا مضحكا كهذا!؟”

فأخذ يحدق بي… ثم يشتت أنظاره حولي… ثم يقول:

“لكن… دانة تقول… أن أمي أخبرتها قبل وفاتها… أنك… كنت تحب رغد منذ الصغر.. وتتمنى الزواج بها”

فكرت بسرعة… بسرعة… في تعبير يطمس الحقيقة في الحال… ولم أجد إلا الضحك… أخفي خلفه الألم المرير…

أطلقت ضحكة قوية… بل كانت قهقهة مجلجلة… ربما وصلت إلى أعماق الذكريات النائمة في قلبي وأيقظتها…

ضحكت وأنا أواري الدموع خلف طبقات من المشاعر الزائفة…

ولما انتهيت من نوبة الضحك المفتعلة قلت بسخرية مفتعلة:

“أضحكتني يا سامر! ماذا دهاك!؟ أنا أفكر في رغد هكذا!؟ هل سمعت عن أب يتمنى الزواج من ابنته!! أي سخافة هذه!!”

وقهقهت من جديد… لأنفض عن أخي أي غبار متبقٍ من الحقيقة… حتى أنني من شدة ضحكي بللت رموشي…

نظرت إلى أخي مفتعلا المرح… فرأيت الارتياب يتسرب خارجا من عينيه ويتسلل الارتياح إليهما… يبدو أنني أديت دوري بمهارة… وأقنعته بما قلت… أحسنت يا وليد!

كيف أطاعك لسانك على ذلك!؟!؟!

نظر أخي إلى الأرض, ثم إلي… وقال:

“هل هذه هي الحقيقة البحتة؟؟”

فقلت مباشرة مؤكدا:

“بربك يا سامر! لقد ساهمت في تربيتها وتربية دانة… ألا تذكر؟؟ كلاهما مثل ابنتيّ تماما”

ظهرت الحيرة والتردد على وجه أخي… ثم قال مستسلما:

“آسف… دانة أربكتني”

وسكت برهة ثم أضاف:

“أنا أيضا بدا كلامها لي غير معقول… لا بد وأنه كان سوء فهم”

وعاد يكرر:

“آسف وليد”

فابتسمت وقلت:

“لا عليك”

لا عليك! فأنا معتاد على تلقي طعنات من شتى الأنواع والمصادر… إلى قلبي… أصبحت لديه مناعة ضد الخناجر… لا عليك!

صمتنا قليلا ثم إذا به يقول:

“الآن… يجب أن تتحدث إليها بشكل حاسم… وتُفهمها بأنك تحبها وتقدم لها الرعاية والنصيحة كأب… وأن تقنعها بأن بقاءها هنا… معي ومع دانة… هو خير لها من العودة معك.. فهي تحزم أمتعتها للحاق بك”

شددت على قبضتي… وقلت:

“أحقا؟؟ ومن قال لها أنني سآخذها معي أصلا؟؟”

فقال أخي:

“هي تفكر هكذا… تريد أن تلحق بك أينما ذهبت”

ابتلعت المرارة في حلقي وقلت:

“أنا لم أعد وصيا عليها.. إنها تحت مسؤوليتك أنت الآن”

فقال راجيا:

“أرجوك.. أفهما هذا.. أخبرها بأن تتوقف عن عنادها وصدها لي.. إنها ليست بحاجة لمن يؤكد لها مقدار حبي لها.. أنا سأضعها في عينيّ.. قل لها ذلك يا وليد أرجوك”

كنت أشد على قبضتي.. أكاد أقطع أوتار يدي بأظافري لشدة ما ضغطت…

حاضر يا سامر.. سأفعل ما تطلبه.. أرجوك أنت… يكفي هذا… انصرف الآن…

قلت بصوت لم يخرج من حنجرتي:

“حاضر… سأفعل…”

ثم جذبت نفسا طويلا أجدد به الهواء المخنوق في صدري وأضفت بنبرة راجية:

“سأتحدث معها.. لكن… سامر.. أرجوك أنت… دعها تأخذ وقتها مهما طال.. في التأقلم مع الوضع الجديد.. لا تستعجلها ولا تلح عليها.. خصوصا الآن..”

فنظر سامر إلي نظرة عميقة وأومأ بالموفقة…

خرجت بعدها من غرفتي راغبا في الابتعاد عن أنظار وكلام سامر متظاهرا بعزمي الذهاب إلى رغد والتحدث معها… بينما كنت في الحقيقة أفتش عن صحراء شاسعة أطلق فيها صرخاتي أو جبال شامخة أدكها بقبضتي… وللمفاجأة… لأسخف مفاجأة في أسوأ توقيت… رأيتها هي رغد ذاتها… تقف في الخارج على مقربة…

“رغد!!..”

رمقتني بنظرة مخيفة… ورأيت وجهها يكفهر ويصفر… ورأسها يفتر يمينا وشمالا… ثم إذا بها تولي هاربة إلى الجناح الآخر….

***********

كنت ذاهبة لأتحدث معه وأطلب منه بل أتوسل إليه… أن يصطحبني معه إلى الوطن… كنت سأبوح له بمشاعري… ورغبتي في البقاء معه هو… أينما كان.. لم أكن لآبه بالشقراء… لن يهمني وجودها ما دمت مع وليد… لن أكترث للخطر… لن أكترث للحرب… لن أكترث للرعب… كنت مستعدة للتنازل عن أي شيء… والرضا بأي شيء… وفعل أي شيء… مقابل أن أظل برفقة وليد… أنعم برعايته وأحظى برؤيته… وأستسقي من فيض حنانه وعطفه اللذين لطالما غمرني بهما منذ الطفولة…

ولما اقتربت من غرفته… سمعته يتحدث ويضحك… كان الباب مفتوحا… وكان في الداخل يتكلم مع شخص ما… توقفت وهممت بالانصراف… فإذا بي أسمع صوته يقول:

(“أضحكتني يا سامر! ماذا دهاك!؟ أنا أفكر في رغد هكذا!؟ هل سمعت عن أب يتمنى الزواج من ابنته!! أي سخافة هذه!!”)

كان يسخر من مشاعري… ويستخف بحبي…

سمعته يضحك… ويذكر اسمي… ويقول بأنني كابنته تماما…

وليد قلبي… يسخر مني…!

بعد كل ذلك الحب الكبير… المشاعر الصادقة الخالصة.. التي أكننتها له كل ذلك الوقت.. بعد كل أحلامي وآمالي المتعلقة به هو.. هو وهو فقط… ألقاع يضحك ساخرا مني!

أنا يا وليد تفعل هذا بي…؟؟؟

أحسست بإهانة كبيرة… وحرج شديد غائر… وخذلان هائل… من أقرب وأحب الناس إلي…

جرحني ما سمعت الجرح الأكبر والأعمق والأشد عنفا وإيلاما في حياتي…

لم أستطع بعد سماع ذلك مقاومة فضولي… وبقيت أنصت إلى ضحكات وليد قلبي… الساخرة مني… وقلبي ينصفع… ويتزلزل… وينهار… والدهشة تسلبني المقدرة على الانسحاب…

كم كنت ملهوفة عليه… لكن… بعد موقفه الساخر مني… وبعد تنازله عني بهذه البساطة وكأنني قطعة أثاث بالية… لم أعد أرغب في رؤية وجهه… وسوف لن أتحدث معه ثانية… ولن أسمح له بالدخول مهما طرق…

لن أذهب معه… لن أودعه… لن أكترث به… ولن أفكر فيه بعد الآن…

لن أسامحك يا وليد… أبدا… أبدا…

أخيرا توقف الطرق… انصرف وليد… ولم أعد أشعر بوجوده خلف الباب… أشحت بوجهي إلى الناحية الأخرى…

لمحت اللوحة التي قضيت الساعات الطويلة… في الأيام الماضية… أُودِعُها كل طاقاتي ومواهبي لأرسمها مطابقة للواقع… لوجه وليد… حبيبي وليد… وهو ينظر إلي ويلوح بيده…

لم أطق رؤيتها والنظر إلى عينيه… ضحكاته لا تزال ترن في رأسي… قمت إلى اللوحة… ولطختها باللون الأسود… حتى جعلتها قطعة من الليل الذي لا ينتهي… وأوقعتها أرضا…

وبعثرت كل اللوحات التي رسمتها لوليد ولأبي ولأمي… ورميت بالصور الفوتوغرافية بعيدا وصفعت لوح الألوان بالجدار… ثم ارتميت على سريري أخلط بكائي بسعالي… وأنفاسي بآهاتي… وكلماتي بصرخاتي…

أنا… من اليوم فصاعدا…

“أكرهك يا وليد!”

**********

لما يئست من فتحها الباب, ابتعدت عن غرفة رغد وفتشت عن دانة. وصلت إليها عبر الهاتف المحمول, كانت في جناحها الخاص فطلبت أن نتقابل بمنأى عن الآخرين فدعتني إلى غرفة خاصة في جناحها.

كنت مشوشا إثر ما قاله أخي أولا… ثم هروب رغد مني وتلك النظرة القاتلة التي رمتني بها ثانيا…

أحسّت شقيقتي باضطرابي فسألتني مباشرة:

“هل تحدث سامر معك؟”

مما جعلني أيقن أنها تدرك ما جئت لأجله, فاختصرتُ الطريق وقلت مباشرة:

“ما ذلك الجنون الذي قلته لسامر يا دانة؟؟”

دانة نظرت إلي مطولا ولم تبادر بالإجابة.. لكنها فهمت ما أعنيه, فقلت بصوت جاد:

“اسمعيني يا دانة… ما كان يجدر بك نقل كلام كهذا إلى سامر… إنه يمر بظروف نفسية صعبة… أنت لا تعرفين شيئا عن الصعوبات التي واجهتها من أجل ترحيله عن الوطن… ليست لديك أدنى فكرة عن الأمور الفظيعة التي اضطررت للقيام بها كي أنقذه”

أخذت دانة تصغي إلي بجل الاهتمام, فتابعت:

“لا أريد أن يضيع كل هذا هباء… أنا لا تهمني تلك الأمور… إنما يهمني سلامة أخي وأمانه… ولست مستعدا لفقده… أو خوض مغامرة مشابهة… تتعرض حياته فيها للخطر… هل تفهمين؟”

وبدا عليها الارتياب والحيرة فقلت بتفصيل أدق:

“سامر ارتكب حماقة كبيرة بانضمامه إلى المنظمة المشاغبة في الوطن.. كان قاب قوسين أو أدنى من الهلاك الحتمي… لو يعود للوطن وتطاله أيدي السلطات أو الأيدي الخفية للمنظمة.. فسيعدم فورا… أنا أريده أن يستقر هنا معك… وينسى الماضي… ويبدأ حياته من جديد”

فتفوهت دانة أخيرا بين سؤال وإقرار:

“ومع رغد؟!”

عضضت على أسناني وشددت قبضتي… ثم قلت:

“إنه لن يجرؤ.. على المجازفة بحياته.. وهي تحت مسؤوليته.. سيحافظ على نفسه جيدا.. كي يحافظ عليها”

فنظرت إلي دانة نظرة مريرة ثم قالت:

“لكنها.. أعدت حقيبتها.. للسفر معك أنت”

أطلت النظر في عينيها ثم قلت:

“لن آخذها معي… مهما حاولت هذا أمر مفروغ منه”

ثم وقفت وقلت:

“أريدك أن تأتي معي الآن وتخبريها بأنني أرغب في حديث مهم معها”

فوقفت وهي تقول:

” وسامر؟؟”

فقلت محذرا:

“سامر اتركيه وشأنه.. ولا تحشي رأسه بأشياء خطيرة كهذه… من شأنها أن تعيدنا إلى الصفر”

واستدرت لأنصرف فإذا بي أسمعها تقول:

“إذن ما أخبرتني به أمي صحيح؟؟”

تسمرت في مكاني برهة.. ثم قلت:

“لا أعرف بماذا أخبرتك بالضبط ولا يهمني أن أعرف. فقط احتفظي بكلامها بعيدا عن سامر تماما”

وإذا بي أحس بشيء يمسك بذراعي.. ثم إذا بدانة تظهر أمام مرآي وتحدق في عيني بحرارة وتقول:

“أخبرني أنا… أعدك ألا أطلع سامر على شيء.. أدركت فداحة خطئي بإخباره.. هل حقا كنت تحب رغد وترغب في الزواج منها منذ صغرك؟؟”

تملكني الحنق من طرح السؤال الأشد إيلاما في حياتي.. وإجبار لساني على خيانة قلبي.. فقلت غاضبا:

“سخافة.. أحذرك… إياك أن تكرري قول شيء كهذا على مسامع سامر أو رغد..”

حملقت دانة بي كأنها تحاول قراءة ما يدور بخلدي… عيناها كانتا شبيهتين يعيني أمي… ما جعلني أشعر بحنين شديد إلى الغالية الفقيدة… خصوصا هذه اللحظة… وأنا أكتشف أنها كانت تفهمني وتفهم حقيقة مشاعري… في الوقت الذي كنت أشعر فيه… بأن الدنيا كلها قد تخلت عني.. ولم يعد أحد يكترث لي…

“وليد.. لماذا أنت غامض؟ لماذا لا أستطيع فهمك.. لماذا لا تصارحني.. مثل سامر؟ أنت أخي أيضا.. وأحبك كما أحبه.. وأتمنى أن تبقى معنا.. وأن تعيش سعيدا ومرتاحا”

لمست عطفا وحنانا فائقين في كلمات شقيقتي… مشاعر صادقة دافئة… لطالما استمت لأحظى بمثلها منذ سنين.. لم أجد من يمدني بعوض عنها غير أروى.. التي تجمدت علاقتي بها منذ زمن… مذ عرفت أنني قتلت عمار..

مددت يدي وشددت على يدي شقيقتي ممتنا… على لحظة العطف هذه.. وقلت:

“سعادتي وراحتي.. في أن تكونوا أنتم الثلاثة… بخير وفي أمان”

وعبثا حاولت دانة إقناع رغد بالسماح لي بالحديث معها… وانتهى ذلك اليوم.. واليومين التاليين, ورغد منزوية على نفسها في غرفتها… ترفض مقابلتي نهائيا…

وحل يوم الرحيل…

أنا الآن… أعد حقيبة سفري الصغيرة, التي جلبتها معي من الوطن… موشكا على المغادرة…

سأرحل.. وأترك عائلتي هنا.. قلبي هنا.. كل المشاعر.. وبقايا الأحلام المستحيلة.. سأحمل جروحي بعيدا.. إلى مكان أبرد من الثلج.. وأدفنها تحت الجليد..

أخيرا… آن الأوان.. لكلمة الوداع..

أخيرا… يا وليد…

كل لعبة قدر.. وأنت بخير!

فيما أنا أدخل يدي فيجوف الحقيبة, أمسكت بشيء ما… كان يتربع في قعرها.. شيء ذهلت حالما استخرجته ورأيته أمام عيني…

أتعرفون ما كان؟؟

صندوق أماني رغد!!!

يا للمفاجأة!!

أخذت أقلب في الصندوق محاولا التأكد منه.. إنه هو… وهل أتوه عنه!؟

ضحكت في نفسي!… بل أطلقت ضحكات لا أضمن لكم أنها لم تصل إلى مسامع أحد…

يا للمسكين! كيف لا يزال هذا الصندوق حيا…؟! هل لحق بي كل هذه المسافة… من شرق الأرض إلى غربها..؟؟ هل حملته معي دون أن أنتبه؟؟ أما زال هذا الصندوق مصرا على تذكيري بالأماني الخرافية الوهمية المستحيلة… التي حلمت بها ذات يوم؟؟

لقد عرفت…

شاءت الأقدار أن أجلبك معي… ولو بدون قصد… حتى أعيدك لصاحبتك.. قبل الوداع… الذي لن يكون هناك لقاء بعده..

أبدا.. لن تتحمل هذه المضخة التي تنبض في صدري منذ تخلقي في رحم أمي… أن تستمر في العمل لحظة واحدة… بعد أن تختفي رغد والأمل الواهم الذي تعلقت به منذ صغري… بأن تصبح لي…

أبقيت الصندوق بين يدي… أمام عيني… وأخذت أسترجع شريط الذكريات القديمة.. عندما جاءت طفلة صغيرة تحمل كتابها المدرسي وتطلب مني أن أصنع لها صندوقا مماثلا لذلك المصور في الكتاب.. ثم إذا بتلك الطفلة… تكتب أمنيتها الأولى… وتدسها بكتمان… في جوف الصندوق..

أنا مستعد.. لأن تستل روحي بعد دقيقة وأنتقل إلى العالم الآخر فورا.. مقابل أن تظهر الطفلة أمامي مجددا… لدقيقة واحدة.. واحدة فقط… أضمها إلى صدري… وأمسح على شعرها الحريري… وأقبل جبينها الناعم…

يا حبيبتي… يا رغد

دقيقة واحدة فقط…

الشوق المنجرف إليها جعلني أستخرج قصاصات صورتها القديمة.. وألملمها على سريري.. وأحدق فيها.. كدت أغرق في الوقت الضائع.. في الوقت الذي يجب فيه أن أستفيق.. أن أثبت أحسم الأمر… أن أتماسك لئلا أغرق السفينة بانهياري..

وداعا.. يا رغد..

لم أشعر إلا وأصابعي تطبق على القصاصات… تضمها إلى صدري قصاصة قصاصة.. ثم تطويها… وتدفنها داخل الصندوق..هناك.. حيث مقبرة الأماني الميتة.. التي لن تعود للحياة… ولم أعِ.. إلا وصورة رغد.. الصورة التي نامت تحت وسائدي أو فوق صدري… لتسع أو عشر سنين.. مئات الليالي وآلاف الساعات… قد اختفت من أمامي.. نهائيا..

وحانت لحظة المواجهة الأخيرة…

كنت سأذهب إلى المطار مع نوّار بعد قليل… وكان سامر و دانة سيرافقاننا.. أما رغد.. حبيبتي رغد.. ودعوني أقول حبيبتي قدر ما أشاء.. لأنني لن ألفظها بلساني يوما.. ولن أقولها في سري بعد هذا اليوم…

أقول أن حبيبتي رغد قد رفضت حتى أن تخرج من غرفتها لحظة.. لتودعني..

كانت آخر مرة رأيتها فيها صباح ذلك اليوم… عندما صادفتها قرب غرفتي… تنظر إلي النظرة الصفراء.. وتولي هاربة.. أظنها كانت قادمة إلي تريد التحدث معي وأظنها سمعتني أتحدث إلى سامر وأوصيه بها.. فتراجعت.. ثم رفضت أن تقابلني..

لم أستطع الخروج دون أن ألقي النظرة الأخيرة… لا يمكنني ذلك.. إنني لن أراها ولن أرى حتى صورتها بعد الآن… دعوني أقابلها ولو للحظة… للحظة ختامية.. نهائية…

لا أصعب من هذه الكلمة… لا أصعب من هذه اللحظة… لا أصعب من أن تحاول وصف ما لا يمكن وصفه… بأي شكل…

طلبت من شقيقيّ انتظاري في الصالة… وحملت صندوق الأماني وذهبت إلى غرفة رغد… طرقت الباب وسألتها الإذن بالدخول فلم تأذن لي… رجوتها وألححت عليها مرارا… حتى أني… أقسمت عليها وسألتها بالله أن تسمح لي بحديث أخير… وما كادت تسمح…

وأخيرا.. فتحت الباب…

كانت تجلس على سريرها مولية ظهرها إلي… لم تلتفت نحوي لتمنحني نظرة الوداع…

ناديتها فلم ترد علي… فتوغلت داخل الغرفة مقتربا منها أكثر…

عند ذلك انتبهت للوحات المصفوفة على الجدار… صورة أمي… صورة أبي… وصورة تخفي معالمها تحت سحابة من السواد… لم يكن من الصعب أن أعرف أنها صورتي أنا…

نظرت إلى رغد ولم أعرف ما أقول.. من أين أبدأ… وكيف أتكلم…

لطالما كانت رغد تعبر عن مشاعرها بالرسم.. أما أنا فبأي شيء سأعبر عن مشاعري الآن يا رغد..؟؟

أخيرا استجمعت شجاعتي وقلت:

“هل هذا السواد.. ما يحمله قلبك نحوي يا رغد؟؟”

لم ترد..

قلت:

“لا أريدك أن تكرهيني يا رغد.. صدقيني.. أما مضطر جدا.. لفعل هذا”

لم تتجاوب..

رواية انت لي

الحلقة 51 الجزء 2

اقتربت منها أكثر وسألت:

“ألا تصدقينني يا رغد؟؟”

وأيضا لم تتجاوب… شعرت بالألم الشديد لتجاهلها لي.. في آخر اللحظات التي تجمعنا.. على الإطلاق..

انصهر صوتي وأنا أقول بخيبة شديدة:

“ألن تودعيني يا رغد؟؟.. سأذهب الآن… وقد… لا نلتقي ثانية…”

عندئذ… سمعت آهة تصدر من حنجرتها بمرارة… تلاها سعال مكبوت… ثم شهقات وزفرات شجية… كانت صغيرتي تبكي… وتخفي عني وجهها ودموعها… وكأنها لا تعلم بأنني أحس بها تقطر من قلبي قبل أن تسيل على خديها…

قلت متألما…:

“رغد… صغيرتي… يتمنى المرء منا أشياء كثيرة ولكن… ظروف الحياة لا تسمح بتحقيق كل أمانينا…”

وراقبتها فلم أر منها أي تفاعل…

واصلت:

“أنا… حاولت بكل جهودي… أن أوفر لك أفضل حياة.. أردت أن.. تكوني سعيدة ومرتاحة.. ومطمئنة إلى حاضرك ومستقبلك.. حاولت أن أكون.. وصيا وأبا جيدا.. لم أبخل عليك بشيء وإن كنت قد فعلت.. فأرجوك أن تسامحيني..”

فأطلقت رغد آهة بكاء قوية تذوب لها الحجارة… كيف لي أن أتحمل..؟؟

كانت لا تزال موشحة بوجهها عني.. مصرة على حرماني من النظرة الأخيرة..

توسلت إليها:

“رغد… انظري إلي”

لكنها لم تفعل…

“انظري إلي أرجوك”

لم تستجب, بل على العكس… رفعت كفيها وأخفت وجهها خلفهما.. لم يعد لدي أمل في أن أراها… تنهدت ورجعت خطوة للوراء… وتأملتها برهة… ثم قلت:

“سامر و دانة سيواصلان رعايتك.. وربما أفضل مني.. وأفضل من خالتك أو أي شخص كنت تتمنين أن.. يهتم بك”

هنا نطقت رغد فجأة قائلة:

“أنا لا أريد لأحد أن يهتم بي.. أنا لست طفلة كما تظنون.. ومن الآن فصاعدا سأتولى أنا الاهتمام بنفسي.. واتخاذ قراراتي.. وإذا حاول أحد التدخل بشؤوني.. أو فرض نفسه عليّ.. فسوف أوقفه عند حده”

وكان صوتها متألما.. وكلامها مهددا… قلت:

“لا أحد يفرض نفسه عليك يا رغد… لا أحد يجبرك على شيء…”

وأضفت:

“لكن… أحيانا… نجد أنفسنا نقدم التضحيات طوعا من أجل الأشخاص الذين نعزهم كثيرا… والذين يستحقون التضحية… وكم كنا لنشعر بأشد الندم… لو بخلنا عليهم…”

ولم تعلق… فقلت:

“أتفهمينني يا رغد؟؟”

انتظرت منها أن ترد علي… أن تلتفت لي… لكنها كانت أقسى من أن تمنحني الفرصة الأخيرة…

تراجعت إلى الوراء… خطوة تلو خطوة… وقفت عند الباب… وعيناي متشبثتان بها.. تكادان تقتلعان من مكانيهما.. وتبقيان هناك..

“وداعا… صغيرتي”

أخيرا نطقت… وأغلقت فمي… وأغمضت عينيّ… أبتلع المرارة الشديدة التي خلفتها الجملة الأخيرة.. وأمتص الدموع الحارقة التي كانت تغلي تحت جفوني…

فتحت عينيّ… ونظرت إلى صندوق الأماني الذي كان في يدي… وانعصر قلبي ألما…

وداعا أيها الصندوق…

كنت لي رفيقا شديد الغموض والكتمان… طوال السنين…

لقد حافظت على أسرارك منذ صنعتك بيدي… فهل ستكتم أمانيّ وأحلامي… وحبيبتي.. في جوفك… إلى الأبد؟؟

وضعت الصندوق بهدوء على المنضدة المجاورة للباب.

وأخيرا… أغلقت الباب… ببطء… ببطء شديد… إلى أن اختفت الفتحة… وانقطع حبل الرؤية الممتد من عيني… إلى رغد…

وفيما نحن نهبط السلالم أنا وسامر و دانة… خارجين من هذا الجناح في طريقنا إلى البوابة… وأنا مستمر في ترديد وتأكيد وصاياي لأخي… ولأختي… إذا بصوت ينادي بانفعال فيوقفنا:

“وليد”

التفتنا إلى الوراء… إلى الأعلى… إلى حيث كانت رغد تقف… وتنظر إلي…

لم تصدق عيناي أنهما تريانها… ما أسرع ما حلقتا إليها والتصقتا بعينيها…

أهذه أنت رغد… أجئت لوداعي؟؟ هل رأفت بحالي أخيرا؟؟…

“خذ”

هتفت رغد… وهي ترمي باتجاهي بشيء ما… يرتطم بصدري… ثم يقع أمام رجليّ…

أردت أن أنظر إلى ذلك الشيء… لكن عيناي رفضتا الانفكاك عن رغد…

وإذا بها تهتف:

“احتفظ به أنت… فأنا لم أعد طفلة لأحتفظ بشيء تافه وغبي كهذا”

وبسرعة البرق اختفت رغد…

لكن عينيّ ظلتا تحملقان في المكان الذي كانت تقف فيه… تفتشان عنها… أين اختفت فجأة؟؟ أين ذهبت؟؟

انتبهت من ذهولي وحملقتي على صوت دانة تقول:

“ما هذا؟”

التفت إليها فإذا بها تنظر باتجاه قدمي… طأطأت رأسي ونظرت… فهل تعلمون ماذا رأيت؟؟

نعم… لقد حزرتم…

صندوق الأماني!!

“وليد!!”

اندهشت كثيرا عندما رأيته يقف أمامي… وبعد كل تلك المدة الطويلة التي غابها عني… عجبا! ألا يزال يذكرني؟؟

مد يده ليصافحني… فلم أمد يدي إليه… تصافحني يا وليد؟؟ بعد كل هذا الغياب… هذا التجاهل والهروب مني… تعود وتصافحني؟؟

“أروى!… ألن تسلمي عليّ؟؟”

سألني ويده لا تزال معلقة تنتظر مصافحتي… وخالي يقف جوارنا وعلى وجهه التوسل… لكنني لم أقبل…

أشحت بوجهي عنه وقلت:

“ما الذي أعادك؟؟”

سمعت خالي يهتف رادعا:

“أروى!”

فالتفت إليه وإلى وليد وقلت:

“وصلت متأخرا جدا…”

وليد طأطأ برأسه ليرني اعتذاره ومدى ندمه… وتكلم قائلا:

“مررت بأزمة حرجة جدا يا أروى… سأشرح لك”

فقلت:

“لست مضطرا…”

فعاد خالي يردعني… فقلت وقد أفلتت أعصابي:

“كل هذه المدة يا خالي وهو غير موجود… يسافر ويرحل… ويغيب كل هذا الزمن… دون خبر… دون كلمة.. متجاهلا لي.. متناسيا وجود زوجة في حياته… وتريد مني أن أستقبله بترحيب؟؟”

قال خالي:

“يهديك الله يا ابنتي نسمع منه ما حصل أولا”

فما كان مني إلا أن انسحبت من المكان وخرجت إلى قلب المزرعة.

بعد مرور فترة… جاء خالي إلي وطلب مني الذهاب معه للتحدث مع وليد فأبيت.

أخبرني بأن وليد شرح له الظروف الحرجة التي مر بها وأنها كانت بالفعل خطيرة, ورجاني أن أصغي إلى وليد وأسمع منه مبرراته. وافقت من أجل خالي الذي كان قلقا بشأن علاقتي مع وليد… والتي أعتبرها أنا… انتهت منذ زمن…

في المنزل… تركنا خالي بمفردنا وذهب ليصنع القهوة… وليد بدأ الحديث بالسؤال:

“كيف أنت يا أروى”

وحقيقة استفزني ذلك السؤال كثيرا… كيف تتوقع أن أكون وزوجي قد هجرني منذ فترة طويلة وأنا في أوج حزني على أمي الراحلة؟؟

لذا قلت بجفاء:

“أرجوك وليد… لا داعي لأي كلام جانبي… أخبرني فقط بما أخبرت به خالي واختصر ما أمكن”

نظر إلى وليد نظرة حزينة جدا تفطر القلب…

انتبهت الآن فقط… إلى أن شكله قد تغير… كأنه كبر عشرين عاما… كان شاحبا ذابلا منحني القامة… يبدو مريضا ومرهقا جدا… وكان شعر رأسه وذقنه طويل وغير مرتب.. عيناه كانتا غائرتين وجفونه مسودّة… شكله كان مقلقا..

قال:

“حسنا يا أروى… أنا لن أضغط عليك في شيء. لقد أخذتِ كفايتك من الوقت للنظر وإعادة النظر والتفكير والتقرير… سأكون تحت أمرك فيما ستقررين مهما كان… فقط اسمعي مني مبرراتي… وموقفي…”

قلت والاهتمام يغزوني:

“تفضل”

وبدأ وليد يقص علي ما حصل مع شقيقه ومعه.. ما اضطر لفعله وكيف تصرف وإلى من لجأ وكيف سارت الأمور معه منذ اللحظة التي فارقني بها تلك الليلة, ليلة أن حضّرت له عشاء مصالحة فتركني وذهب إلى أخيه… وإلى أن عاد إلي هذه اللحظة…

أحداث بدت أقرب إلى الأفلام منها إلى الواقع… عنف.. ذعر.. شرطة.. مطاردة.. هروب.. مرض.. مستشفى.. أحداث رهيبة اقشعر لها بدني.. وذاب لها قلبي وانصهرت مشاعري.. أمور فاقت أبعد توقعاتي واستصعب عقلي استيعابها دفعة واحدة…

كان وليد يتوقف من حين لآخر.. يلتقط أنفاسه.. ويشرب جرعة من كأس الماء البارد الذي طلبه من خالي.. ورغم أنني طلبت من الاختصار منذ البداية, إلا أنه ذكر الكثير من التفاصيل بل وحتى بعض الأيام والتواريخ والساعات.. وتفاصيل المبالغ المالية التي سحبها من المصرف وكيف وأين صرفها.. وأسماء بعض الأطباء الذين أشرفوا على علاجه وأسماء بعض الأدوية.

كنت أصغي إلى كل ذلك دون أن أقاطعه.. كنت أتجاوب معه عبر الانفعالات التي تطرأ على وجهي كلما ذكر شيئا مثيرا.. وحقيقة كان كل ما ذكره مثيرا ومربكا..

“ثم ماذا؟”

سألته بتشوق عندما رأيته يتوقف عن الكلام أخيرا وقد انتهى من سرد كل الأحداث… فأجاب:

“ثم استغليت سيارة أجرة وجئت مباشرة من المطار إلى هنا..”

سألت راغبة في المزيد من التأكد.. فقد يكون قد أغفل عن ذكر شيء هو لدي أهم من التفاصيل التي ذكرها:

“جئت بمفردك؟”

فأشار من حولي وقال:

“كما ترين..”

فصمت برهة أفكر وأتأمل.. ثم سألت:

“ثم ماذا؟؟”

فنظر إلي وقال:

“يعتمد عليك”

أتصدقون هذا؟؟

وليد الآن معي… بمفرده.. ترك محبوبته المدللة في آخر العالم وعاد إلي..! هل هذا صحيح؟؟ هل تخلى عنها من أجلي؟؟ هل تركها هناك.. وعاد ليبقى معي أنا؟؟

رواية انت لي

الحلقة 51 الجزء 3

الخاتمة:أنت لي!

انتهينا من التسوق, وعدنا نحمل حاجياتنا إلى الشقة. اليوم هو الثلاثون من شعبان وغدا هو أول أيام رمضان المبارك. نحن في موسم الشتاء, وصديقي العزيز يقيم في هذه الشقة الدافئة نسبيا وحيدا, ولا يجد أمامه غير الأطعمة المعلبة يتناولها على الفطور.

وبالرغم من أنني ألح عليه كي يشارك عائلتي موائد الشهر الكريم غير أنه يرفض. صديقي وأعرفه عزّ المعرفة!

“أين أضع هذه؟؟ في المخزن أم الثلاجة؟”

سألته وأنا أمسك بعلبة الزيتون الأسود فتناولها مني وقال:

“هات”

وفتحها وسكب بعض محتوياتها في طبق وقال:

“تفضل… شاركني العشاء الليلة”

ابتسمت وقلت:

“شكرا يا صديقي… أم فادي في انتظاري الآن…”

وتناولت بعض حبات الزيتون على عجل ثم قلت:

“إذن سأذهب الآن… هل تحتاج أي شيء؟؟”

فأجاب:

“ألف شكر”

وتصافحنا وغادرت شقته.

وليد يعمل موظفا في إحدى الشركات ويقيم في هذه الشقة منذ عدة أشهر بعد أن هجر المنزل الكبير الذي كان يقيم فيه وحيدا, واتفق مع عائلته على عرضه للبيع. كانت تلك خطوة مهمة في حياته وأنا من أوحى له بها وشجعه عليها وسهل له العثور على هذه الشقة, إذ أن وليد كان ليصاب بالجنون لو استمر في العيش وحيدا هناك؛ تحيط به أطياف أفراد عائلته… وذكرياتهم المؤلمة…

كان وليد بحاجة إلى مبالغ مادية يسد بها القروض الكبيرة التي كان قد استدانها من مؤسسة البحري ليغطي بها مصاريف سفر شقيقه وإقامته في الخارج…

باع سيارته الجديدة الفخمة, وسيارته القديمة التي علقت في شمال البلد, وكذلك سيارة وشقة أخيه, ومنزل عائلته في الشمال, بالاتفاق والتنسيق مع ذويه… واشترى هذه الشقة وسيارة متواضعة… وينتظر وصول عرض جيد لبيع المنزل ويحصل على نصيبه الشرعي منه فيتحسن وضعه المادي.

هل تتساءلون… عن السيدة أروى البحري؟؟

انفصل عنها بعد عودته من الخارج.

مر وليد بفترة عصيبة للغاية عند عودته للوطن, انفصاله عن خطيبته السابقة, انقطاعه عن العمل, تدهور وضعه المادي, والصحي والنفسي, واستدعائه من قبل السلطات مرات ومرات من أجل التحقيق في قضية اختفاء شقيقه سامر, المطلوب أمنيا.

لقد عاصرته في تلك الفترة.. وحاولنا أنا ووالدي دعمه بأقصى ما كان لدينا.. وكنت كلما زرته في ذلك المنزل رأيت الوجوم يخيم على وجهه.. وكلما حاولت مواساته وتشجيعه انهار وبثني همومه وانخرط يحكي لي ويصف.. كيف حبس شقيقه في هذه الغرفة أو كيف لفه كالجثة في تلك السجادة.. وكيف هاجمه رجال المباحث وأوسعوه ضربا وكيف امتدت أيديهم الخسيسة لتطال ابنة عمه.. وكان.. لا يزال يحتفظ بعكازها وهاتفها المحمول وأشياء كثيرة تخصها رفض التخلص منها…

لم تهدأ الأمور وتتحسن بعض الشيء إلا مؤخرا… ووليد الآن يحاول جاهدا أن يُشفي ويعود للعيش الطبيعي… يحاول أن يملأ حياته ويسد الفراغ الكبير الذي خلفه فراق كل من خطيبته السابقة, وشقيقه, وبالطبع… ابنة عمه.

يقضي أوقاته بين العمل نهارا والدراسة في المعهد ليلا, ونتبادل الزيارات أو نمر ببعض المعارف أو بالنادي الرياضي أو نتنزه عند الشاطئ في بعض أيام العطل. كنت أحاول أن أساعده ما أمكنني… حتى يجتاز الفترة الحرجة من حياته ويبدأ من جديد. ولذا عندما اتصل بي سامر يوم أمس وسألني عن عنوان شقة وليد… توجست خيفة.

أخبرني سامر بأنهم سيحضرون لقضاء شهر رمضان في الوطن… وأنهم يريدون مفاجأة وليد. وليد كان يتحاشى الاتصال بأهله إلا قليلا لأن ذلك يقلب عليه المواجع حسبما يقول. لم أشأ أن أوتّره ولا أن أفسد المفاجأة فكتمت النبأ عنه… لكنني في خشية من أن تعيده هذه الزيارة أدراجه إلى الوراء..

الحرب لم تضع أوزارها بعد لكن الحكومة تبدلت ووضع البلد بشكل عام يسير للأفضل وبعض الأسر المهاجرة عادت إلى الوطن مؤخرا.

حالما وصلت إلى منزلي أخبرتني أم فادي بأن أحدهم قد اتصل قبل قليل يسأل عني وأنه ترك رقم هاتفه لأتصل به في أقرب وقت.

اتصلت بالرقم, فإذا بذلك الشخص هو لاعب كرة القدم الشهير… نوّار!

*********

طبق من الفاصوليا الساخنة… وشريحة لحم مقلية.. مع أصابع البطاطا المقلية… وبعض الخبز والزيتون والتمر!

آه وماذا بعد؟؟

نعم… العصير!

انتهيت من توزيع الأطباق على المائدة المربعة الشكل والصغيرة الحجم, المتربعة في آخر الصالة أمام المطبخ مباشرة, وجلست على أحد المقاعد الأربعة التي تحيط بجوانبها.

هذا جيد الإفطار في غرة الشهر الكريم.. لك الحمد يا رب والشكر…

كنت أشعر بجوع شديد… وأعددت وجبتي هذه على عجل بعد عودتي من المسجد… وما كدت أنطق بالبسملة حتى سمعت قرع الجرس…

“ومن يكون هذا الآن!؟”

استغربت… فأنا لا أتوقع زيارة من أحد وخصوصا في هذه اللحظة… كما وأن الأشخاص الذين يزورونني في شقتي معدودون… ولا أظن أحدهم يهتم لتناول فطور كهذا معي!

قمت عن المائدة وذهبت إلى الباب وسألت:

“من هناك؟؟”

فجاء صوت رجولي يقول:

“هل أنت وليد؟؟ افتح من فضلك”

لم يكن الصوت غريبا… لا ليس غريبا… لكنه صوت لم أسمعه منذ زمن…أنا مشتبه… لا لست أكيدا… من هذا؟؟

“من هناك؟؟”

وجاءني الآن صوت نسائي حاد:

“افتح يا أخي!”

صوت… دانة! صوت دانة؟؟!!

مستحيل!!!

للوهلة الأولى وجمت… تسمرت على موضعي… فأنا لا أريد لحالة الجنون تلك أن تعتريني مجددا… لا أريد أن أعود إلى التهيؤات والتخيلات …لا … أبدا…

عاد الصوت النسائي يقول:

“هل أنت وليد شاكر أم ماذا؟؟”

نعم غنه صوت دانة!

فتحت الباب بسرعة غير مصدق… وإذا بي أرى دانة… شقيقتي الوحيدة… تقف بالفعل أمام عيني!!!

“وليد! أخي الحبيب!”

قالت ذلك وارتمت في حضني بقوة وأطبقت عليّ بذراعيها… اندفعت خطوة إلى الوراء وأنا أحملق فيها غير مصدق أنها بالفعل شقيقتي…

“يا شقيقي يا حبيبي كم اشتقت إليك! كل عام وأنت بخير عزيزي”

تقول ذلك وهي لا تزال تطوقني بذراعيها بقوة وتمرغ وجهها في صدري… ابتعدت بعد ذلك لتنظر إلي… فتيقنت بالفعل من أنها… أنها شقيقتي دانة!

“أوه! دانة!! أي مفاجأة!! لا أكاد أصدق… لا أصدق…”

قلت ذلك وضممتها إلي وقبلت جبينها بحنان… عند ذلك سمعت صوتا يقول:

“ألن تدعونا للدخول؟؟”

فالتفت إلى صاحب الصوت فإذا به نوّار… وكان يبتسم, ويحمل في يدي الاثنتين مجموعة من الأكياس… وعلى كتفه حقيبة قماشية كبيرة…

تراجعت للوراء وأنا أقول:

“يا للمفاجأة… أنا مذهول! تفضلا… أهلا…”

فدخل نوّار ووضع الأكياس والحقيبة جانبا ثم أقبل نحوي فاقتربت منه كي أصافحه وأعانقه. رحبت به بحرارة… كانت دانة تقف إلى جانبي فمددت ذراعي إلى كل منهما وحثثتهما على الدخول مرحبا…

“أهلا وسهلا ومرحبا… كل عام وأنتما بخير… تفضلا… حقا… مفاجأة مذهلة”

فسارا للأمام واستدرت للوراء لأغلق الباب… وإذا بي أرى شيئا مهولا… مهولا جدا… أخرس لساني… وجعلني أتجمد في موضعي كالتمثال…

كفى يا وليد… أرجوك توقف… لا… أنت لم تكد تصدق أنك شفيت من حالة الأوهام الفظيعة تلك… أرجوك توقف… لا تعد للصفر من جديد… كلا…

أغمضت عينيّ… بقوة… حتى كدت أعصرهما بجفوني… رغبة مني في محو الوهم الذي رأيته يقف أمام الباب قبل ثوان…

“رغد… تعالي!”

فتحت عيني… بعد الذي سمعت… نظرت من جديد… حملقت جيدا… وكان الوهم… لا يزال واقفا… يحمل شيئا ما على ذراعيه… وينظر إليّ!!

أحسست بحركة من خلفي… ثم رأيت دانة تظهر أمامي… متجهة إلى الوهم… وسمعتها تقول:

“مفاجأة! أليس كذلك؟؟!”

ثم تمد يدها نحو الوهم… وتأخذ منه ذلك الشيء وتقربه مني…

نظرت إلى ذلك الشيء… حملقت فيه… فإذا به ينظر إلي… ويتثاءب!

كان طفلا في المهد…!!

أخذت عيني تدور بين الطفل… ودانة… والوهم… تدور… وتدور… وتدور… حتى أصابني الارتجاج في دماغي واستندت إلى الجدار المجاور خشية أن أقع…

“وليد”

كان… صوت شقيقتي دانة… يهتف بقلق…

“هل أنت بخير؟؟”

أقبل نوّار… تناول الطفل من يد دانة… واقتربت دانة مني وأمسكت بذراعي وسألت:

“ماذا أصابك؟؟ هل أنت بخير؟؟”

جذبت أنفاسا عميقة متتالية ثم قلت:

“إنه… الصيام”

ثم عدت انظر إلى الطفل… ثم إلى الوهم… بل هي رغد… لأن ما حولي الآن ليس وهما… أنا أحس به وأبصر به جيدا… إنها رغد… نعم رغد…

أقول لكم رغد…

هل تسمعون؟؟

هل تفهمون ذلك؟؟

رغد… فتاتي رغد… هي رغد… آه…

أنا… أنا لا أعرف ماذا أقول… لا أعرف ماذا أقول…

“تعال… هل أكلت شيئا؟؟”

كانت دانة… تمسك بي وتحثني على السير إلى الداخل… ثم تقول موجهة خطابها إلى رغد:

“أغلقي الباب وتعالي يا رغد”

فتنفذ الأخيرة ذلك… وتتبعنا إلى المقاعد… أنا أجلس على المقعد… ويجلس نوار إلى يساري واضعا الطفل في حضنه… وأختي ورغد… تجلسان في الجانب الآخر…

“أأنت على ما يرام أخي؟؟”

تسألني دانة, فأجيب:

“لا تقلقي… أنا بخير”

يقول نوّار:

“إذا لم تبدأ الفطور بعد؟ هذا جيد… أحضرنا معنا بعض الأطعمة كي نشاركك”

التفت إليه فأراه يبتسم… وحقيقة هذا الرجل دائما مبتسم… أسمع صوتا يصدره الطفل الصغير… فيداعبه نوّار بلطف…

لحظة!

لكن… لكن…

أين سامر؟؟؟

انتبهت للتو على عدم وجوده فالتفت نحو الباب أتأكد من كونه غير موجود… ثم سألت:

“ماذا عن سامر؟؟”

فأجابت دانة:

“يبعث إليك بأحر القبلات.. كان يتمنى أن يحضر معنا ولكن تعرف.. خشينا عليه من السلطات”

وأضاف نوار وهو يضحك:

“إنه مشغول البال الآن!”

انتفض جسمي.. التفت إلى رغد بسرعة… اصطدمت بعينيها بقوة… فارتدّت إلى الوراء وقد ظهر الفزع على وجهها…

سمعت دانة تقول:

“نوّار! اسكت”

فيطلق نوّار الضحكات المرحة ثم يقول مداعبا:

“لكنني لم أفش الخبر بعد!”

تمد دانة يدها من أمامي… وتقرص رجل نوار بلطف, فيستمر بالضحك ثم يوجه سؤاله إليّ:

“ماذا عنك أنت يا وليد؟؟ هل تزوجت أم ليس بعد؟؟”

كانت برهة سريعة… لكنني لمحت فيها كل شيء…

يد دانة وهي تقرص رجل نوّار… حاجبيّ نوّار وهما يرتفعان للأعلى ثم ينخفضان بخجل… ويد رغد… وهي تنقبض وتضطرب…

جاريت نوّار مفتعلا الضحك وقلت:

“ليس بعد!… كما ترى”

وأشرت بيدي إلى ما حولي…

وفي الحقيقة… أنا انفصلت عن خطيبتي السابقة… بعد عودتي للوطن قبل عام وأكثر… ولم أطلع شقيقتي دانة على الخبر إلا لاحقا… وقد حذرتها من إفشائه على مسامع أحد… خصوصا رغد وسامر…

فبعد الذي حصل لم يكن هناك ما هو أفضل من أن أختفي وتختفي أخباري عنهم… وأخبارهم عني..

لم أكن أتصل بهم إلا قليلا للاطمئنان عليهم. كنت أهاتف دانة أغلب المرات وأتجنب التحدث إلى سامر.. أما رغد.. فأصلا لم أكن لأجرؤ حتى على السؤال عنها…

أصدر الطفل صوتا من جديد… وربما كان منقذا لي من نسمة الذكريات التي كادت تلفحني… والتي أبذل قصارى جهدي كي أتناساها… التفت إلى الطفل… ثم إلى دانة وسألت وأنا أكاد أغص بسؤالي:

“هذا… ابنكِ؟؟”

فابتسمت وقالت:

“لا”

فجن جنوني… وابتلعت الغصة مرغما وكدت أختنق بها… وإذا بها تتابع:

“بل هذه ابنتي!”

حملقت فيها… ثم نظرت إلى الطفل… أعني الطفلة… نعم الطفلة… لأن ملامحها ناعمة جدا… وجميلة جدا…

ومددت أصابعي إليها ألمس خدها الناعم…

لكن انتظروا!

أنا لم أفهم…

عدت أنظر إلى دانة وفي فمي عدة أسئلة… فإذا بها تحملق في ابنتها بنظرة عطوفة… ثم تقول:

“أليست جميلة وليد؟؟ سميتها ندى… تيمنا بوالدتنا رحمها الله”

مد نوّار الطفلة إلي وهو يقول:

“سلمي على خالك يا ندى…”

تناولت الطفلة وتأملتها برهة… فشعرت بسرور غريب يجتاح عواطفي… ضممتها إليّ وطبعت قبلة خفيفة على رأسها… وشممت رائحتها الطفولية البريئة…

“ما أرقها وأنعمها!… آه… كيف لم تخبروني عن ولادتها؟؟”

قلت معاتبا دانة فأجابت وهي ترفع حاجبا وتخفض الآخر:

“الاتصال بك ليس مهمة سهلة!”

وأنا أعرف ذلك وأتعمده…

“لم لا نتم حديثنا على المائدة؟؟ إننا نتضور جوعا!”

كان نوّار…

وقفنا كلنا قاصدين التوجه إلى المائدة… وهذه المائدة صغيرة… وقد لا تتسع لنا…

تناولت دانة طفلتها وجالت ببصرها في أرجاء الشقة وسألت:

“أين يمكنني وضع الطفلة؟؟ شقتك تبدو صغيرة!”

فقلت:

“نعم… معذرة فكل شيء صغير هنا… في غرفة النوم… من هنا… تفضلي”

وقدتها إلى غرفة النوم… فوضعت الطفلة على السرير وهمت بالمغادرة…

هنا قلت بصوت منخفض:

“انتظري”

وألقيت نظرة نحو الباب أستوثق من أحد لم يتبعنا… فهمت دانة أنني أرغب في قول شيء بسرية… فنظرت إلي متسائلة… عنها سألت:

“ماذا… عن سامر…؟ أنا لم أفهم”

ابتسمت دانة ابتسامة طفيفة ثم قالت:

“عقد قرانه على لمياء… شقيقة نوّار… قبل أسابيع”

الخبر أربكني وأرسلني إلى قعر الحيرة والتيه… ثم خرجت الكلمة من بين شفتيّ من دون أن أشعر:

“و… رغد؟؟”

ارتسم القلق والألم على وجه دانة ثم قالت:

“مررنا بفترات عصيبة… عصيبة جدا جدا…”

ثم تنهدت وتابعت:

“قررت… الاستقرار عند خالتها… سنقضي هنا أسبوعين ثم نذهب بها إلى الشمال… تستلم إرث والديها وتقيم مع أسرتها هناك.. هذا قرارها الأخير..”

جمدني الذهول… وبقيت محملقا في عيني شقيقتي… أحاول ترتيب ما عرفته من مفاجآت… هذه الساعة…

رأيتها تسير مغادرة الغرفة… فتبعتها وذهني واقف في الغرفة موضعه, توجهت دانة إلى المائدة وأخذت توزع محتويات الأكياس عليها… ثم دعتنا للجلوس… جلست على أقرب كرسي رأيته أمامي… وجلست هي إلى اليسار… ونوّار إلى اليمين… والمقعد الأخير… المقابل لي مباشرة… كان من نصيب رغد…

أنا لست بحاجة لأن أصف لكم… أنا أصلا لا أستطيع أن أصف لكم… سأترككم تتخيلون حالي… كما تشاءون…

انتهينا من العشاء وأنا لم أشعر بطعمه… ربما لم آكل شيئا… لقد كنت أراقب أصابع البطاطا وهي تختفي واحد بعد الآخر… لكنني متأكد من أنني لم أذق منها شيئا…

من الذي يوجد معنا… ويحب البطاطا المقلية لهذا الحد؟؟

من الذي يوجد معنا… ولا يتحدث؟؟

من الذي هنا… ولا أستطيع أن أرفع عيني لأنظر إليه؟؟

يتحرك أمامي… بهدوء… بصمت تام… كأنه غير موجود… لكن وجوده طغى على كل وجود… وعلا فوق كل وجود… ولم يضاهيه أي وجود…

آه…

رغد… صغيرتي…

بعد الفطور, قامت الفتاتان ترفعان الأطباق… وفيما هما كذلك سمعنا صوت بكاء الطفلة… فتركت رغد ما بيدها وهي تقول:

“أنا سأتفقدها”

وذهبت إلى غرفة النوم, حيث كانت الطفلة موضوعة على السرير…

أتدرون ما الذي خطر ببالي؟؟

أن ألحق بها…

ذهبت خلفها مباشرة… ووقفت عند الباب… وهي لم تنتبه إلي بادئ الأمر… جلست على السرير ورفعت الطفلة وهزتها قليلا… فسكتت الأخيرة ونامت ببساطة!

أعادتها رغد إلى السرير… ثم هبت واقفة… واستدارت فانتبهت لوجودي…

التقت نظراتنا… التي كانت تتحاشى بعضها البعض طيلة الوقت… هذه المرة لم تتهرب أعيننا… بل تعانقت عناقا طويلا… ملتهبا… عميقا…

وبعد حصة النظرات الطويلة تلك… تقدمت باتجاهها وأنا ألهث مضطرب الكيان والجوارح… كذلك كان الاضطراب مجتاحا لرغد… فأصابع يدها تتشابك وتنفصل مرارا…

لما صرت أمامها مباشرة… لا تفصلني عنها غير بضع بوصات… كتمت أنفاسي… ثم أطلقت زفرة حارة… ثم سمعت لساني يقول لا شعوريا:

“… اشتقت إليك… صغيرتي”

لا أعرف من أين خرجت تلك الكلمات… لكنها خرجت… ووصلت على رغد… فإذا بوجهها يضطرب أكثر… وأصابعها ترتجف أكثر…

أطلت التحديق بها… مفتشا عن رد.. فإذا بي أرى حاجبيها ينعقدان ووجها يعبس وإذا بها تشيح به عني وتتنحى جانبا وتسير متجهة إلى الباب…

استدرت إليها ومددت يدي في الهواء وناديتها بصوت هامس راج متلهف:

“صغيرتي”

فإذا بها تلتفت إليّ وتصوب أسهما نارية إلى عينيّ وللمفاجأة تقول:

“إياك أن تناديني هكذا ثانية”

واستدارت لتتابع طريقها في ذات اللحظة التي ظهرت فيها شقيقتي دانة مقبلة إلى الغرفة وفي يدها زجاجة حليب أطفال… نقلت دانة بصرها بيننا ثم تظاهرت بالمرح وقالت وهي تشير للطفلة:

“هل نامت؟ إنه موعد الحليب!”

في نفس الليلة أصرت دانة على أن نقوم بزيارة للمنزل الكبير والذي شعرت بحنين شديد إليه. لم أكن أرغب في دخول ذلك المنزل واسترجاع الذكريات التعيسة فيه غير أنني لم أجد بدا من تنفيذ رغبتها.

ذهبنا إلى المنزل نحن الأربعة, مع الطفلة الصغيرة. ومن أول لحظة وطأت قدماي فيها أرض المنزل داهمتني آلام حادة في كامل جسدي…

بقي نوّار مع ابنته في المجلس, وذهبنا نحن الثلاثة وأقصد بالثلاثة أنا ودانة… ورغد… نجوب أنحاء المنزل…

لما اقتربنا من غرفة رغد السفلية توترت وتوقفت عن السير وتحاشت دخولها…

ولما صعدنا الدرجات رأيتها تتكئ على السياج وكأنها تتذكر لحظات الوقوع والكسر والجبيرة…

ولما دخلنا غرفتها العلوية… علقت هناك…

تابعنا أنا ودانة جولتنا تاركين إياها في غرفتها ربما تتفقد حاجياتها أو تسترجع ذكرياتها…

هذه الغرفة كنت أدخلها كل يوم… أطمئن على طيف صغيرتي بجنون… عندما كنت أقيم هنا وحيدا… بعد رحيلها…

بعد ذلك سمعنا صوت بكاء الطفلة فنزلت دانة إلى الطابق السفلي وكنت سأتبعها غير أن رجلاي غيرتا وجهتهما وقادتاني إلى… غرفة رغد…

كانت رغد تقف بجانب السرير وعينها تحملقان في الورقة الملصقة على الجدار فوق السرير… تذكرونها؟؟ إنها أول صورة رسمتها صغيرتي لي.. قبل سنين طويلة.. وهي ما تزال طفلة بالكاد تتعلم كيف تمسك القلم…

كيف لي أن أكتشف يومها… ما لم أكتشفه إلا بعد كل تلك السنين…؟؟

أحست رغد بحركتي فالتفتت نحوي فجأة… وإذا بالهلع يجتاحها ويحول وجهها إلى صحراء من الصفار… وأصابعها تضطرب وأنفاسها تتلاحق…

“هل أفزعتك؟؟ أنا آسف صغيرتي”

قلت ذلك محاولا تهدئة روعها غير أن يدها انقبضت بشدة ثم أبعدت عينيها عني وخطت نحوي قاصدة الخروج من الغرفة…

لم أستطع التحمل وأنا أراها تهرب مني… وقفت عند فتحة الباب وسددت الطريق أمامها فوقفت أمامي في حيرة وانفعال ثم رفعت بصرها إلي وأخيرا نطقت:

“تنحّ بعيدا لو سمحت”

وكانت نظرتها أقسى من جملتها… لكني لم أتزحزح ونظرت إليها برجاء فقابلت نظراتي بغضب… همست متوسلا:

“صغيرتي… أرجوك”

فإذا بها تهتف:

“قلت لك لا تنادني هكذا ثانية… لا أسمح لك… وابتعد عن طريقي فورا”

تسمرت مذهولا في مكاني فإذا بها ترفع صوتها آمرة بعصبية:

“ابتعد هيا”

فما كان مني إلا أن تنحيت جانبا وسط الذهول… وتركتها ببساطة تختفي..!

أقنعت دانة زوجها بأن ننتقل للإقامة في المنزل الكبير عوضا عن الفندق, ولذلك ليتسنى لها تحضير الموائد الرمضانية المميزة وبحرية كما تقول… وطلبت من أخيها المكوث معنا أيضا… فوافق الأخير إكراما لها.

طبعا أنا لم يعجبني الوضع ولكنني لم أملك إلا الانصياع للظرف المؤقت, قبل رحيلي إلى بيت خالتي. وبعد انتقالنا للمنزل, إذا بدانة تقترح على زوجها أن يشتري حصة أخيها من المنزل ويسجلها باسمها… وتخبرنا بأنها تنوي التنازل عن الحصة لصالح وليد بعد ذلك…

نوّار رجل ثري كما تعرفون, وهو يحب دانة وينفذ رغباتها. وبهذا تم توكيل المحامي أبي سيف للقيام بالإجراءات اللازمة بأسرع ما يمكن.

أنا لا دخل لي بكل هذا إذ أنني لم أرث شيئا من هذا المنزل بطبيعة الحال, لكنني استلمت الحصة التي كان ابن عمي وليد قد تنازل لي عنها من إرث المنزل المحروق في الشمال, وسأستلم الإرث الذي تركه والدي الحقيقيان لي, والذي كان عمي شاكر قد حوله إلى وديعة مالية في أحد المصارف, وحان وقت استلامها. سأستغل جزءا من هذه الأموال في العودة إلى الدراسة من جديد.

في أول ليلة لي في هذا المنزل اتصلت بصديقتي مرح أسامة والتي كنت قد انقطعت عن الاتصال بها منذ رحيلي عن الوطن.. فألحت علي لزيارتها في منزلها في الليلة التالية.

كانت تلك الليلة شديدة البرودة.. وكانت دانة ترغب بالذهاب إلى أحد المتاجر لشراء بعض الحاجيات للمطبخ, لذا اصطحبنا شقيقها إلى منزل آل المنذر قبل أن يذهب معها إلى المتجر. ورغم برودة الجو لقينا آل المنذر في استقبالنا عن الباب ورحب أبو عارف وابنه الفنان عارف بابن عمي ترحيبا حميما عند لا يقل عن ترحيب مرح الملتهب بي داخل المنزل.

فيما بعد وأنا ومرح نتبادل الأحاديث والأخبار سألتني:

“ماذا عن الجامعة؟؟”

فقد أرغمتني الظروف على الانقطاع عن دراستي وللمرة الثانية… وتأخر فرصتي في الحصول على شهادة جامعية, كما كنت أحلم…

قلت:

“سأعود إلى الجامعة في الشمال”

فقال:

“لا تقولي! أبليت بلاء حسنا هنا… إنك أخطر منافسة لي والدراسة بدونك مملة!”

فضحكت وقلت:

“إذن تخلصتِ مني وضمنت المركز الأول”

فقالت بأسلوبها المرح ممزوجا برجاء:

“أرجوك رغد… عودي إلينا… ثم إن جامعتنا أرقى مستوى من تلك الشمالية”

فقلت:

“وأعلى تكلفة!”

وابتسمت بقلة حيلة وقلت:

“ولا طاقة لي بها حاليا!”

قالت مرح:

“آه صحيح تذكرت… لم يعد السيد وليد شاكر مديرا للمصنع والشركة”

حقا؟؟ أنا لم أعرف ذلك! أصلا لم أكن أريد أن أعرف أي أخبار عنه… وكلما جيء بذكره ونحن هناك في منزل دانة, أنسحب فورا من المجلس.

تابعت مرح:

“والدي وعمي حزنا كثيرا لمغادرته. كانا معجبين به ويكنان له احتراما وثقة كبيرين! كلنا أسفنا على انفصاله عن السيدة أروى وعن المؤسسة…”

ماذا…؟؟ ماذا قالت مرح؟؟ أنـــ…فصاله عن… أروى؟؟!!

فاجأني الخبر… صحيح أنني استغربت عيشه في تلك الشقة غير أنني لم أكن لآبه بأي شيء يتعلق به.. أصلا لم أكن موافقة على حضوري للمدينة الساحلية لكن دانة ألحت عليّ…

لكنّ هذا الخبر… فاجأني وأدهشني..

قلت طالبة التأكيد:

“أ… أعيدي ما قلت مرح؟؟”

نظرت إلي مرح باستغراب… فكررتُ:

“ماذا قلت الآن مرح؟؟ انفصاله عن ماذا؟؟”

تقوس حاجبا مرح دهشة وقالت مستغربة:

“عن السيدة أروى وعن الشركة!”

رفعت يدي من الدهشة ووضعتها على فمي… وحملقت في مرح بعينين واسعتين… مرح تأملت انفعالاتي وهي في حيرة من أمري… ثم بدا عليها وكأنها استنتجت شيئا, فقالت:

“لا تقولي… أنك لم تكوني تعلمين!؟؟”

سامحوني…

أعرف أن هذه أمور يجب على المرء أن يبدي الأسف حيالها… ويراعي مشاعر الآخرين…

أنا آسفة… لكن…

أنا الآن…

في هذه اللحظة…

أشعر برغبة مفاجئة في الضحك!

لم أنتبه لنفسي إلا وأنا أطلق ضحكة ساخرة.. ردا على سخرية القدر مني..

الشقراء… الدخيلة… التي بذلت كل جهودي كي أطردها بعيدا عن وليد في الماضي… لأستحوذ عليه.. والتي كنت أتمنى أن أمحوها كما أمحو رسمة واهية بقلم الرصاص.. قد انفصلت للسخرية عنه.. دون تدخلي!

يا للأيام…!!

التفت بعد أن فرغت من الضحك إلى مرح وسألت ساخرة:

“ولماذا انفصلا؟؟”

فنظرت إلي مستغربة من ردة فعلي… وقالت:

“تسأليني أنا؟؟”

أخيرا طردت السؤال والموضوع وصورة الشقراء وصورة وليد من رأسي, وغيرت اتجاه الحديث بعيدا…

وبعد نحو ساعة أُعلمت أن أهلي قد جاءوا فشكرت مرح على حسن ضيافتها وودعتها توديعا حارا… وخرجت من المنزل.

************

خرجت من المنزل وأغلقت البوابة الخارجية, ثم خطت خطوتين نحو السيارة, ثم توقفت وتراجعت للوراء.

ربما لم تستوثق من السيارة, فهي ليست السيارة السابقة التي اعتادت عليها. فتحت النافذة ونظرت إليها وقلت:

“تفضلي”

وربما لم تسمع صوتي لأنها لم تتحرك.. فأطللت برأسي مستغربا وأومأت إليها أن تعالي.. لكن رغد نظرت إلي نظرة غريبة ثم سألتني:

“أين دانة؟”

فقلت:

“ذهبت مع زوجها وطفلتها في مشوار”

وإذا بي أرى رغد تتراجع نحو بوابة منزل آل المنذر… وتهم بقرع الجرس!

خرجت من السيارة مستغربا من تصرف رغد وأقبلت إليها وقلت:

“ماذا ستفعلين؟؟”

فقالت دون أن تنظر إلي:

“سأتصل بدانة وأطلب منها الحضور مع نوّار لاصطحابي”

عندها شعرت بطعنة قوية تخترق صدري. اقتربت من رغد وقلت متألما:

“لماذا تفعلين ذلك؟؟”

فالتفتت إلي وأجابت حانقة:

“وهل تنتظر مني أن أركب السيارة معك أنت بمفردي؟”

وكانت هذه الطعنة أشد من سابقتها… وهمت رغد بأن تقرع الجرس فتداركتها مسرعا:

“أرجوك لا تفعلي… لا تحرجينا مع آل المنذر”

ففهمت رغد حرج الموقف و سحبت يدها… قلت:

“تعالي لنعود إلى المنزل الآن… أرجوك”

فوقفت برهة مترددة… ومر تيار قوي من الهواء ارتعدت له فرائصنا… فقلت:

“هيا فالريح تشتد”

وما كان منها إلا أن سارت على مضض وركبت السيارة كارهة ومشيحة بوجهها للعالم الآخر… فسلكنا طريق العودة بصمت الموتى… ووحشة المقابر..

عندما وصلنا إلى البيت, أردت أن أتحدث معها فهي لم تكلمني منذ حضورها للوطن, بل منذ تركتها في منزل دانة… قبل أكثر من عام… لكنها وفور دخولها المنزل أسرعت مهرولة إلى الطابق العلوي…

لحقت بها وأنا أسير منكسر الخاطر… حتى إذا ما اقتربت من غرفتها وجدت الباب مغلقا وصوتها يتخلله وهي تتكلم بغضب قائلة:

“… لكنه أخوك أنت وليس أنا”

“… عودي فورا”

هبطت للطابق السفلي… وانزويت على نفسي في غرفة المعيشة والتي عدت أستغلها كغرفة نوم لي… وجعلت أعض أصابعي حسرة على صغيرتي رغد…

قدمت دانة مع طفلتها وزوجها بعد نحو ساعة… وسألتني عما حصل فأخبرتها بموقف رغد مني… وبأن ذلك جرح شعوري كثيرا… وبأنني سأعود إلى شقتي إن كان وجودي من حولها يزعجها لهذه الدرجة…

ربما كان الأسى صارخا بأعلى صوته على وجهي للحد الذي جعل شقيقتي تمد يديها وتمسك بيدي بحنان بالغ وتربت علي وتقول:

“لا تبتئس هكذا يا أخي الحبيب.. إنها لا تزال تحبك… لكنها أيضا لا تزال تعتقد أنك… كنت تسخر من عواطفها تجاهك”

رفعت بصري إلى شقيقتي وحملقت بها مندهشا.. فأغدقت عليّ نظرات التفهم والحب والتعاطف, وكأنها كانت تقرأ كل ما يدور برأسي وترى ما يختبئ في صدري…

وإذا بها تقول:

“لسنين طويلة.. كانت تضع ساعة يدك الرجالية حول معصمها.. كنا نسخر منها.. لكنها لم تأبه بنا.. أظن أنها كانت مولعة بك منذ الطفولة.. وكانت تنتظرك.. لو كنت اعترفت ذلك اليوم بحقيقة شعورك أنت أيضا.. قبل رحيلك عنا.. ربما كنا حللنا الموضوع بشكل أقل إيذاء.. أخي سامر لم يكن أبدا ليرغب في الزواج من فتاة لا تحبه.. بل تحب شقيقه… واكتشف أيضا أن أخاه كان يحلم بالزواج منها”

وتوقفت قليلا تتأمل ذهولي من كلامها… قلت في دهشتي من صراحتها, محاولا إنكار الحقيقة:

“ما الذي… تهذين به!؟”

لكن دانة أدارت وجهها يمينا ويسارا وقالت:

“لا تحال يا وليد! لا جدوى من الإنكار..”

وأخذت تنظر إلي بنظرات عميقة… كأنها تكشف كل أفكاري.. ثم واصلت:

“سامر علم من رغد بحقيقة ما حصل قبل سنين مع ذلك الفتى الذي قتلته… وسبب قتلك له.. وكتمك الحقيقة وتحملك السجن.. ربط بين الأمور واستنتج كل شيء.. لذا.. قرر الابتعاد عن رغد والارتباط بأخرى… ليثبت لك أنت بالذات… بأنه يستحيل أن يتزوج بفتاة كنت تحلم بها أنت يا وليد…”

في اليوم التالي.. وأثناء تناولنا طبق التحلية, ونحن جلوس في غرفة المعيشة نشاهد التلفاز… تذكرت شيئا سرعان ما ذهبت لجلبه, وعدت به أمده نحو رغد…

“رغد هل تذكرين هذه؟”

وأنا أحاول الظهور بالمرح علها تتجاوب معي… علّنا نبدأ صفحة جديدة.. علّها تمنح قلبي لحظة اطمئنان واحدة… كانت مجموعة الصور التي رسمتها رغد لي ليلة أن وقعت من أعلى الدرج… تذكرونها؟ صور بقلم الرصاص كنت قد سلمتها إياها قبل سفرها الأخير إلى الشمال.. واسترجعتها من غرفتها السفلية بعد عودتي من خارج الوطن…

رغد تناولت الأوراق وراحت تقلبها وتتأملها… كنت مبتسما ومنتظرا تعليقا يجبر بخاطري بعد موقف البارحة… لكنني فوجئت برغد تمزق الأوراق وترمي بها نحوي وتقول:

“أنا لا أذكر شيئا كهذا ولا يهمني أن أذكر… ولا تنادني باسمي المجرد ثانية… هل فهمت يا سيد وليد؟؟”

وقامت من مقعدها وجرت مسرعة مغادرة الغرفة. حدث كل هذا أمام مرأى دانة ونوّار… اللذين ظلا يحملقان بي مذهولين.. ومنتظرين ردة فعلي..

لم أتمالك نفسي.. لم أستطع الصبر بعد ذلك.. خرجت لاحقا بها ودانة تناديني, غير أنني لم آبه ولحقت برغد.

أدركتها وهي توشك على دخول غرفتها وإغلاق الباب فحلت دون ذلك..

“انتظري”

هتفتُ راجيا… فصرخت غاضبة:

“ابتعد عن طريقي”

فقلت وأنا أمسك بذراعها وأعيقها عن دخول غرفتها:

“توقفي يا رغد… أرجوك.. أعطيني فرصة لأتحدث معك”

فهتفت وهي تحاول الفكاك عني:

“اتركني… لا تلمسني.. لا أريد سماعك.. ابتعد”

هتفت بجنون:

“أرجوك يا رغد.. ماذا أفعل حتى تصفحين عني..؟ أخبريني ماذا أفعل فأنا تعذبت ما يكفي… وأريد أن أستعيدك لي”

هنا أمطرتني رغد بوابل من الضربات على صدري مصحوبة بسيل من الشتائم الهائجة…

“أنا لست دمية عندك… تتنازل عنها وقت تشاء… وتستعيدها وقت تشاء… أيها المتوحش الكذاب الغدار المنافق… البليد المتحجر الغشاش… لا أريد أن أرى وجهك ثانية… كيف تجرؤ على الحديث معي بعدما فعلت بي؟؟ كيف تجرؤ على الإمساك بيدي؟؟ أنت لم تعد كأبي.. وأنا لم أعد تحت وصايتك.. أنت رجل غريب وبغيض.. وأنا أفضل الموت على رؤية وجهك… أكرهك… أكرهك.. اختف من حياتي يا بليد..”

وجرت بسرعة إلى داخل الغرفة وأغلقت الباب…

التفت يمينا وشمالا باحثا عن كلمة تعبر عن حالتي آنذاك ولم أجد غير شقيقتي ونوّار يقفان هناك… يراقبان ما يحصل…

ضربت على الباب بعنف وصرخت منفلتا قائلا:

“لقد فعلت ذلك من أجل أخي.. كيف أتركه يهلك أمام عيني؟؟ لماذا لا تسامحينني يا رغد؟ أنا لا أطلب منك أكثر من السماح الآن.. أنا من كان ولا يزال يتعذب أكثر منك أنت.. أكثر منكم جميعا.. لكنكم لا تشعرون بي.. لا أحد يشعر بي أنا..”

وضربت الباب ضربة أخيرة… ثم خرجت مسرعا من المنزل…

************

ولم يعد إليه ثانية..وكان هذا أفضل ما فعل… وصار نوّار يحمل أطباق الفطور إلى شقته ويتناولها معه كل ليلة.. وصرت أعد الليالي والأيام إلى أن حان وقت السفر إلى الشمال… أخيرا..

مررنا بشقته.. وذهبت دانة مع ابنتها ونوّار لتوديعه, ولازمت أنا السيارة -وهي سيارة استأجرها نوّار من المطار لدى وصولنا- وانتظرت عودتهما. لم أحمل معي أي شيء من حاجياتي الكثيرة التي كان وليد هو من اشتراها لي في السابق… ولا حتى هاتفي… والذي كنت قد تركته هو والعكاز في غرفتي لدى فرارنا من المنزل مسرعين… ذلك الصباح الضبابي… تذكرون؟؟ بعد الليلة الوحشية تلك.. حتى أنني تخلصت من الأشياء التي بعثها لي في منزل دانة.. لأنني لم أشأ يذكرني أي شيء.. بالحبيب الساخر…

غاب نوّار ودانة نحو نصف ساعة وأنا أنتظر على الجمر المتقد.. أقاوم سيل الذكريات لئلا يجتاحني… وأخيرا رأيتهما يظهران عند مدخل مبنى الشقة.. ويظهر وليد معهما أيضا..

التقت نظراتي بنظراته, فأشحت بوجهي سريعا لأتفاداه وأتفادى الألم الذي يخلفه مجرد مرور طيفه على مرآي…

ركب الاثنان السيارة وبدأت نسير على بركة الله مبتعدة عن شقة وليد. كنت أجلس في الخلف وبدون أن أشعر وجدتني ألتفت إلى الوراء وأنظر إلى الناحية التي ظهر فيها وليد قبل قليل.. مدخل المبنى..

وللعجب.. رأيته لا يزال واقفا هناك.. ينظر إلي أنا.. ويبتسم.. ثم يرفع يده يلوح لي..

أشحت بوجهي عنه ونظرت إلى الأمام… وأنا أشعر بأن عينيه ملتصقتان بزجاج النافذة… خلفي مباشرة.. فملت برأسي للأمام لأبتعد عنهما… كانت السيارة تقترب من إشارة مرور لذا خفف نوّار السرعة ثم توقف عند الإضاءة الحمراء.. نظرت إليه وإلى دانة… ثم إلى اليمين والشمال.. كل من حولي في شغل عني.. أنظارهم وأفكارهم كانت تسير في اتجاه آخر.. لكني أشعر بأن عينين تحدقان بي…

التفت إلى الخلف.. وأمعنت إلى النافذة وعبرها إلى ما خلفها… فإذا بي أرى يدا لا تزال تلوح لي من بعيد… كانت لا تزال تتمايل يمينا وشمالا… تتمايل لي!

حضرتني فجأة تلك اللحظة المريرة.. لحظة أن ركبنا أنا وسامر سيارة الشرطة… وسرنا مبتعدين… ووليد واقف هناك في حر الشمس… يلوح لي بيده… يلوح ويلوح… وصورته تغشي بصري فلا أرى غيرها… إلى أن اختفى فجأة… وتلاشت من حياتي مثل السراب…

إنها نفس اليد… تلوح لي… بنفس الطريقة…

إنني بذلت كل طاقاتي… لأرسمها بيدي… في تلك اللوحة… {لوحة الوداع}… آخر لوحة رسمتها لوليد… وليد قلبي… ثم غطيتها بطبقة من الضباب الأسود…

أضاءت الإشارة الخضراء… السيارة بدأت تتحرك… السرعة أخذت تتسارع… اليد الملوّحة أخذت تبتعد… وتصغر… وتصغر… وتصغر… وأخيرا…. اختفت!

لم يعد وليد موجود خلف النافذة… لم يعد وليد موجودا في حياتي… أنا لم أعد أملك وليد… ولا صورة لوليد!

“توقف”

هتفت باندفاع أربك نوّار وجعله يترنح في السير قليلا ثم يخفف السرعة فيما تلتفت دانة إلي متسائلة:

“ماذا هناك رغد؟”

فقلت بلهفة:

“عد إلى وليد… أرجوك الآن”

تبادل نوّار ودانة النظرات ثم انعطف نوّار بالسيارة يمينا ودار حول المنطقة إلى أن وصلنا إلى مبنى شقة وليد من جديد.

وليد لم يكن يقف هناك… فقد اختفى هو ويده… وخشيت أنني كنت أصلا أتوهم وجوده…

هبطت من السيارة ودانة تناديني بدهشة, ثم تترك طفلتها في حضن أبيها وتلحق بي…

ركضت بسرعة حتى وصلت إلى شقة وليد وقرعت الجرس بشكل فوضوي… سمعت صوت وليد يسأل منزعجا وقلقا:

“من هناك؟”

فهتفت مندفعة:

“وليد افتح لي”

وسرعان ما رأيت الباب يُفتح ويطل منه وليد يملأ الفضول والدهشة زوايا وجهه وقسماته…

“رغد!!!!”

ولم أشعر بنفسي إلا وأنا أطير وأحط على صدره… فيفتح ذراعيه ويغلفني بقوة… لأي عمق غصت بين ضلوعه… لا أعرف… لكنني شعرت بالدموع تغمرني عن آخري.. كان لساني يريد التكلم…

غير أنه عجز عن النطق بغير (وليد… وليد…)…

رفعت بصري إليه وذبت في عينيه… كنت أرسل الكلام عبر النظرات… وأستقبل إيماءاته بقلبي قبل عينيه…

“لماذا فعلت هذا بي؟ لماذا وليد؟؟”

قلتها مقرونة بنافورة من الدموع… فمد وليد يده ومسح دموعي… ثم توسلت تقاسيم وجهه إلي:

“آه… صغيرتي.. حبيبتي.. سامحيني.. سامحيني.. يا أغلى من حياتي كلها… كنت أحمقا… أحمقا جدا.. أنا لا شيء من دونك يا رغد… لا شيء… يا حبيبتي”

ثم أمسك بوجهي بلطف براحتيه.. وأخذ يلهث بأنفاس قوية.. تلفح وجهي.. ويشتت نظراته بين عينيّ يمنة ويسرة.. ويعضض على شفته تارة ويزدرد ريقه أخرى… وأخيرا نطق قائلا:

“أحبك يا رغد… هل تتزوجينني؟؟”

**********

أُقيم حفل الزفاف في أحد الفنادق في عيد الحج التالي, ودّع العريسان فيه الأهل والأصدقاء… وذهبا لقضاء شهر العسل في إحدى البلدان السياحية. بعد عودتهما… أقاما في نفس المنزل الكبير…

واتخذا من غرفة وليد عشا لهما, بعد أن تم هدم الجدار الذي كان يفصل بينها وبين غرفة رغد… وإعادة طلي الجدران وتغيير الأثاث.

في ليلة عودتهما إلى المنزل… استخرج وليد من أحد الأدراج الصورة التي رسمتها رغد له عندما كانت طفلة, وكذلك استخرج من محفظته صورة رغد الممزقة التي احتفظ بها طول تلك السنين, فألصق أجزاءها بشريط لاصق, وألصقها مع صورته جنبا إلى جنب على الجدار فوق السرير وأخذ يتأملها ويبتسم مع رغد بسرور ويقول:

“معا إلى الأبد”

ثم أخذ العروسان الحبيبان يرتبان ملابسهما في الخزانات, واتجه وليد نحو إحدى الخزائن واستخرج شيئا منها وقال مخاطبا رغد:

“حبيبتي… تعالي… سأريك شيئا مهما جدا!”

أقبلت رغد بفضول لترى ما في يد وليد, فإذا به… شيء أسطواني الشكل… مصنوع من الورق… ومغطى بالطوابع اللاصقة!

{صندوق الأماني!}

“أوه! يا إلهي! ألا زلت تحتفظ به؟؟!”

تقول رغد وهي تتناول الصندوق من بين يديه بمرح وتتأمله ببهجة, فيضحك وليد ويقول:

“وسأخبئه حتى يضع أطفالنا أمانيهم فيه! وسنجعلها تتحقق!”

تضحك رغد ثم تنظر إلى وليد من طرف عينيها نظرة تشكك مرحة وتقول:

“هل فتحته؟ اعترف!”

فيضحك وليد ويقول:

“أنا؟؟ أبدا… لكنني عرفت ما الذي يحتويه!”

تقول رغد متحدية:

“وماذا يحتوي؟؟”

فيجيب وليد:

“افتحيه لنرى!”

رغد تنظر إلى وليد برضا… وتقول:

“نعم. الآن… لا بأس!.. بل بكل سرور!”

وفتحت الصندوق… وألقت نظرة على القصاصات… ثم أخذت تستخرج القصاصة بعد الأخرى… ووليد معها يقرأ المكتوب عليها…

عندما وصلت إلى هذه القصاصة… نظرت إلى وليد ومشاعر شتى تملأ قلبها…

{أتمنى أن أتزوج من ابنة عمي رغد}

“وليد…”

هتفت بلهفة وعطف ومحبة… فطبع وليد قبلة دافئة على يدها وربت بلطف على ندبة ذراعها الأيسر القديمة, وقال:

“أمنيتي الأولى… التي كنت أعيش على أمل تحقيقها… آه يا رغد… لو تعلمين…”

وأحاطها بذراعيه بكل الحب والحنان… ومسح على شعرها الأملس برفق… ثم قال:

“تابعي”

وتتابع رغد استخراج الأماني… وكانت الأمنية التالية… أهم أمنية… قضى وليد كل تلك السنين… يفكر فيها…

يبتسم العريسان لدى قراءتها ويقول وليد:

“دوّختني! جعلتني مجنونا يا رغد… فقدت عقلي وأنا أحزر… من كنتِ تقصدين!”

تضحك رغد ثم تقول:

“كان يجب أن تعرف! أنا لا أرى في حياتي غلا وليد! أحبك منذ لا أعرف متى… وإلى لا أعرف متى!…

وليد…. وليد قلبي… حبيبي… بقد كنت كل شيء بالنسبة لي! كل كل شيء… كنت أشعر… بأنك شيء يخصني أنا… أنك موجود من أجلي أنا… ويجب أن تكون لي أنا!… أنت لي!….”

وليد يسكن برهة, ثم يطلق ضحكة خفيفة, ثم يضم رغد إلى صدره بحرارة ثم يقول:

“أعرف… حبيبتي! قلت ذلك لي مسبقا..”

تبعد رغد رأسها عن صدره ثم تنظر إليه باستغراب وتقول:

“أنا قلت ذلك؟”

فيجيب:

“نعم… منذ زمن طويل… طويل جدا…”

تقول رغد:

“لا أذكر!”

فيلتفت وليد إلينا وينظر باتجاهنا ويقول:

“لكنكم تذكرون حتما… أليس كذلك؟؟”

************

تمت بحمد الله والصلاة على نبيه وآله.

عرض التعليقات (42)